تركيا تُغرق العراق بالعطش.. كيف تحوّلت بلاد الرافدين إلى ضحية مشاريع السدود العملاقة؟

انفوبلس/..
رغم أن العراق يُعد من بين أغنى دول العالم تاريخيًا في موارده المائية، إلا أن الواقع الحالي يعكس صورة مأساوية، فالبلاد التي نهضت على ضفتي دجلة والفرات، باتت اليوم تصارع أزمة عطش خانقة، تقف خلفها سياسات مائية جائرة تتصدرها تركيا بمشاريعها العملاقة التي لم تراعِ لا الأعراف الدولية ولا حقوق الجوار.
*بداية النزاع… من لوزان إلى سد كيبان
انطلقت شرارة الأزمة المائية بين العراق وتركيا منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن العشرين. ومع انهيار الإمبراطورية العثمانية، تجاهلت أنقرة أي التزام قانوني واضح تجاه الدول الواقعة جنوبها، واستندت إلى المادة 109 من معاهدة لوزان 1923 التي تُحيل الأمر إلى مفاوضات بين الأطراف، دون فرض اتفاق ملزم.
ورغم توقيع اتفاقية حُسن الجوار بين البلدين عام 1946، تجاهلت تركيا ما نصّت عليه من تفاهمات مائية، وبدأت بتنفيذ مشاريع عدوانية على مجاري النهرين، أولها كان سد “كيبان” على الفرات، والذي دخل الخدمة عام 1974 بطاقة تخزينية هائلة وصلت إلى 30.6 مليار متر مكعب.
*حرب الثمانينيات وولادة “الوحش المائي” التركي
في ذروة الحرب العراقية-الإيرانية، استغلّت تركيا انشغال العراق في النزاع، لتشرع بتنفيذ أضخم مشروع مائي في تاريخها، المعروف بـ”مشروع جنوب شرق الأناضول” (GAP)، والذي يتضمن بناء أكثر من 20 سدًا و17 محطة كهرومائية، فضلًا عن آلاف الكيلومترات من القنوات. وهو مشروع لم يكن تنمويًا بقدر ما كان أداة استراتيجية لخنق دجلة والفرات قبل وصولهما إلى العراق.
*البصرة: مدينة على حافة العطش
تتجلى ملامح الكارثة المائية بوضوح في البصرة، أكثر المدن تضررًا من سياسات تركيا المائية. منذ بداية الحرب مع إيران في الثمانينيات، دخلت البصرة في دوامة عطش غير مسبوقة. وبعد انتهاء الحرب، استبشر السكان خيرًا، إلا أن الأزمة تفاقمت، خصوصًا مع فتح خطوط المجاري على الأنهار وانخفاض الإطلاقات المائية من دجلة.
في تسعينيات القرن الماضي، اضطرت الدولة إلى إنشاء قناة البدعة، التي تنقل المياه من نهر الغراف في محافظة ذي قار إلى البصرة. لكن هذه القناة، رغم أهميتها، لم تحلّ المشكلة بالكامل، بسبب نمو سكاني كبير، وانتشار العشوائيات، والتجاوزات على الشبكات، وتراجع الإمدادات المائية.
*تركيا: بين السدود والمماطلة
لم تكتفِ أنقرة بالمشاريع العملاقة، بل واصلت المماطلة في التفاوض مع بغداد. فعلى مدى العقود الماضية، امتنعت تركيا عن توقيع أي اتفاق ملزم يحدد حصة العراق من المياه. بل واعتمدت سياسة فرض الأمر الواقع عبر مراحل تنفيذ مشروع GAP، الذي بات يسيطر على منابع الفرات ودجلة بالكامل.
وفي كل مرة يُثار فيها الملف، تروّج تركيا لمقولة إن دجلة والفرات “نهران عابران للحدود” وليسا “دوليين”، وهو توصيف قانوني مراوغ يهدف للتهرب من أي التزام قانوني دولي.
*آثار كارثية: التصحر، الهجرة، وانهيار الزراعة
النتائج كانت وخيمة. فقد خسر العراق خلال العقود الأخيرة مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وزادت نسبة التصحر، وهاجر مئات الآلاف من سكان الأرياف باتجاه المدن، بعد أن جفّت أراضيهم وهلكت مواشيهم. كما أدى ذلك إلى تغيّرات بيئية خطيرة، أبرزها ارتفاع درجات الحرارة، وتفشي الأمراض بسبب شح المياه وتلوّثها.
البصرة، التي كانت تمتلك منظومة رَيّ وشبكة مياه تمتد إلى أبعد الأرياف، أصبحت تعتمد على محطات أهلية ومشاريع متوقفة، وأغلب سكانها يشترون الماء الصالح للشرب من الحوضيات، أو يستخدمون مياه غير صالحة تؤدي إلى أمراض معوية وجلدية مزمنة.
حلول جزئية بلا جدوى
رغم ملايين الدولارات التي تبرعت بها بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة واليابان، لتمويل مشاريع لتحلية المياه أو تطوير محطات الضخ، بقيت أغلب هذه المشاريع متعثرة أو خارج الخدمة. بعضها اندثر قبل أن يُستخدم، بسبب الفساد وسوء الإدارة، والبعض الآخر لم يتم تشغيله نتيجة غياب التنسيق بين الجهات الدولية والعراقية.
*هل لا يزال هناك أمل؟
اليوم، ومع تفاقم الأزمة، لم يعد الحديث عن مستقبل بعيد. العراق يواجه مأزقًا وجوديًا، ومشكلة المياه باتت تهدد حياة ملايين المواطنين، ليس فقط في الجنوب بل في عموم البلاد.
الوقت حان لتبنّي استراتيجية وطنية حقيقية، تبدأ من توحيد الموقف السياسي العراقي في وجه التلاعب التركي، وتفعيل القنوات الدبلوماسية والقانونية للضغط على أنقرة لتوقيع اتفاقية عادلة تضمن حقوق العراق المائية.
فبلاد الرافدين لا يمكن أن تتحوّل إلى أرض جرداء بسبب سدود دولة مجاورة قررت أن تجعل من الماء أداة للهيمنة السياسية.
إن ما يجري اليوم ليس فقط أزمة مياه… إنه هجوم ناعم تتسلل آثاره إلى عمق الأمن الغذائي والاجتماعي والسياسي في العراق. وتركيا، بما تمارسه من استغلال لأنهر الحياة، تُعيد تشكيل الخريطة البيئية والسكانية للعراق، بأسلوب أكثر فتكًا من الرصاص.