تيار الطاعة لـ"ولي الأمر".. وثيقة مسربة تكشف قلقاً أمنياً من نفوذ "المدخلية" داخل المؤسسات الدينية.. ماذا نعرف عن الحركة؟

انفوبلس..
في تطور لافت يعكس تصاعد القلق الرسمي من بعض التيارات الدينية، كشفت وثيقة مسربة توجيه مستشارية الأمن القومي في العراق بتكثيف البرامج المجتمعية لمواجهة "الحركة المدخلية"، بعد تصنيفها كتهديد "عالي الخطورة" للسلم المجتمعي. هذه الخطوة تأتي وسط تزايد نفوذ التيار المدخلي في مؤسسات دينية حساسة، ما يثير تساؤلات حول طبيعته الفكرية ودوره المحتمل في إعادة تشكيل الخارطة الدينية والسياسية في البلاد.
وأظهرت وثيقة متداولة توجيه مستشارية الأمن القومي/ لجنة مكافحة التطرف العنيف في محافظة بغداد بتعزيز البرامج المجتمعية لمواجهة “الحركة المدخلية” بعد تصنيفها كحركة “عالية الخطورة” على السلم المجتمعي، بناءً على توصيات الأجهزة الأمنية ذات العلاقة كافة، واستناداً لموافقة القائد العام للقوات المسلحة خلال اجتماع خاص حضره ممثلو محافظات كركوك ونينوى وديالى والأنبار وصلاح الدين، الى جانب ممثلي أجهزة الأمن والاستخبارات بوزارتي الداخلية والدفاع، وفقاً للمستند الذي لم تؤكد مضامينه لغاية الآن.
والمدخلية تيار سلفي نشأ في السعودية بداية تسعينيات القرن الماضي وتمدد إلى دول أخرى، وهو يعتمد في دعوته ومنهجه على أمرين: الولاء المطلق للسلطة الحاكمة والطاعة الكاملة للحكام والدفاع عن مواقفهم وسياساتهم مهما كانت، والهجوم المستمر على المخالفين وخاصة من التيارات الإسلامية.
التسمية والنشأة
يطلق على هذا التيار عدة تسميات من بينها المداخلة، أو التيار المدخلي، أو المدخلية وكل ذلك نسبة إلى أحد أبرز شيوخهم ربيع بن هادي المدخلي (ولد بالسعودية 1932). كما يطلق عليهم أيضا الجامية نسبة إلى محمد أمان الجامي (1931- 1996) الإثيوبي الأصل، وهو شيخ ربيع المدخلي.
وقد نشأت الحركة المدخلية إبان حرب الخليج الثانية بداية التسعينيات، وكانت في صميمها ردة فعل على رفض مكونات التيار الإسلامي فكرة الاستعانة بالولايات المتحدة لإخراج القوات العراقية من الكويت، انطلاقا من فتاوى ترفض "الاستعانة بغير المسلم لقتال المسلم". وهي الولادة التي عبر عنها ربيع المدخلي بكتابه "صد عدوان الملحدين وحكم الاستعانة بغير المسلمين".
انتشرت الحركة في كل ربوع السعودية بدعم من الأسرة الحاكمة التي رأت فيها معادلا موضوعيا للتيار الإسلامي المتنامي الذي يرفض اجتناب الخوض في السياسة التي ترغب السلطات السعودية أن تظل بعيدا عن التداول في الساحات العامة بالجامعات والمساجد.
كما انتشرت أيضا في بلدان عربية وإسلامية أخرى من بينها مصر، ومن أبرز رموزهم هناك محمد سعيد رسلان صاحب الفتوى الشهيرة لجنود السيسي بوجوب قتل المعارضين من أهالي كرداسة وغيرهم.
التوجهات الأيديولوجية
أقامت الحركة المدخلية دعوتها على أصلَين، كما يرى مؤلف كتاب "زمن الصحوة" ستيفان لاكروا؛ أولهما الطاعة الكاملة لـ"ولي الأمر" مع التوقف عند ظواهر النصوص التي تحض على الطاعة. دون أن تعطي فرصة لأي تعبير عن الرأي المخالف لهوى السلطان، لأنه يعد في عرف المدخلي "نوعا من الخروج المثير للفتن".
وينص المدخلي في شرحه لأصول السنة على أن المتغلب تجب طاعته حقنا للدماء، فإذا تغلب آخر وجبت طاعة المتغلب الجديد.
وهذه الطاعة حق للولاة والوزراء والمفتين، فتجب طاعتهم جميعا، حتى مع تيقن الظلم أو الحيف منهم، لأن طاعتهم من طاعة من ولاهم أو كلفهم بالفتيا، ومن هذا المنطلق ترفض المدخلية أي معارضة لبيانات هيئة كبار العلماء في السعودية، كما ترفض الاعتراض على أقوال المفتي العام للمملكة.
وتأخذ المدخلية على الحركات الإسلامية خوضها في السياسة وترى أن ذلك يتضمن تحزبا "مخالفا لأمر الإسلام بتوحيد كلمة المسلمين تحت إمام واحد"، كما تعد أي تعبير عن الرأي المخالف للسلطة، خروجا على الشرع وإثارة للفتنة، حتى ولو عده غيرها من العلماء نوعا من إنكار المنكر، ونصحا لولي الأمر.
أما الأصل الثاني الذي اعتمدته المدخلية فهو الطعن في المخالفين وتبديعهم، فالشيخ ربيع المدخلي يصرح بأن "الإخوان المسلمين لم يتركوا أصلا من أصول الإسلام إلا نقضوه". كما يرى أن أغلب ممارساتهم الدعوية والسياسية بدعة في الدين منكرة، تجب محاربتها، والوقوف في وجهها.
ومن هنا يأتي رفع التقارير الأمنية الكيدية عن التيارات الإسلامية التي يعد أشهرها التقرير المعنون: "التنظيم السري العالمي بين التخطيط والتطبيق في المملكة العربية السعودية" الذي رفعه المداخلة منتصف التسعينيات من القرن الماضي إلى السلطات السعودية، وفصّلوا فيه ما يقولون إنه ممارسات للإخوان المسلمين مرتبطة بخطة عالمية لتغيير النظام الحاكم، ويوصي التقرير بأن "السلطات السعودية لا بد أن تتحرك بأسرع وقت ممكن، لوضع حد لأنشطة المنظمة المذكورة".
وقد أعقبت هذا التقرير حملات شنتها السلطات السعودية على الدعاة والعلماء المحسوبين على تيار الصحوة الإسلامية في المملكة، ثم زجت بكثير منهم في السجون، وحظرت أنشطة كثير منهم.
ورغم اطِّراد مذهب طاعة ولي الأمر في ممارسات المداخلة على امتداد تاريخهم، إلا أن هذا الاطراد اختل عندما حكمت بعض دول المنطقة حكومات منتخبة ليست حليفة للسعودية؛ كما حدث في مصر وليبيا اللتين وقف فيهما التيار المدخلي إلى جانب انقلابي خليفة حفتر وعبد الفتاح السيسي. وكذا في اليمن الذي تحالف فيه المداخلة مع القوات الإماراتية على الرئيس عبد ربه منصور هادي.
سيطر الفكر المدخلي على أداء أبرز العلماء القريبين من السلطة السعودية، حتى أصبحت الفتاوى التي تجيز "لولي الأمر مصادرة الحريات، ومحالفة أعداء الأمة" هي الطابع العام للخطاب الفقهي، حتى لدى غير المحسوبين على المداخلة.
وقد وجدت السلطات السعودية في التيار الجامي ضالتها، فأصبح يقارع كل أطروحات التيارات الإسلامية، الخاصة بالشأن السياسي، بمنطق يتخذ من النصوص الشرعية منطلقا له.
وقد مكنت الرعاية الرسمية المداخلة أو "سلفيي الولاء" كما يسمون أنفسهم أحيانا من امتلاك امتيازات داخل المؤسسات التعليمية وفي المساجد والمؤسسات المعنية بالشؤون الدينية، فحلوا في الأماكن التي أقيل منها أو غادرها شيوخ محسوبون على التيارات الإسلامية الأخرى خاصة ذات التوجهات الإخوانية والسرورية.
وهو ما مكن المداخلة من إحكام القبضة على الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، التي تولى عمادة كلية الحديث بها الشيخ الجامي نفسه حتى وفاته، وكان المدخلي أحد مدرسيها.
وقد كان بإمكانهم إيجاد استثناءات في النظام التعليمي الذي يمنع المقيمين من دخول الجامعات بالسعودية، والذي ما زال معمولا به إلى اليوم، كما جرى مع القيادي في التيار أسامة عطايا ذي الأصل الفلسطيني الذي درس بالجامعة بوساطة من مشايخ المداخلة، وهو مؤلف كتاب "صد عدوان الصهاينة المعتدين على آل سعود أسرة الجهاد والمجاهدين ".
المدخلية في العراق والتخوف السني
وعلى خلاف التيارات الإسلامية السنية الأخرى في العراق، بدأ التيار المدخلي يأخذ طريقه في التوسع بمساجد أهل السنة حتى يكاد يبسط سيطرته على العديد من المناطق ذات الطابع الريفي في حزام بغداد، وتحديدا منطقة أبي غريب.
ولا يأتي هذا التمدد من فراغ، وإنما بتوفير غطاء سياسي وأمني يتيح لهذا التيار-خلافا لغيره- حرية التحرك في المساجد ونشر أفكاره التي ترفض وتُخطّئ، بل وتكفّر في أحيان كثيرة من يخالفها في التوجه، وذلك كله يحصل بعلم من السلطات الحكومية، بحسب مطلعين.
وفي هذا الصدد، قال "أبو أيمن" أحد خطباء مساجد أهل السنة في بغداد إن "التيار المدخلي أو الجامية أصبح له اليوم اليد الطولى والكلمة الفصل حتى في ديوان الوقف السني، لأن بعض المسؤولين فيه ينتمون للجماعة ذاتها".
وأوضح أن "التيار المدخلي بسبب المسؤولين المنتمين له داخل الوقف، أصبح بمقدوره إقالة بعض خطباء وأئمة المساجد- في بغداد تحديدا- والمجيء بآخرين ينتمون إليهم أو قريبين منهم، وبالتالي لا يسمحون لأحد غيرهم بإقامة أي نشاط داخل المسجد".
وأشار إلى أن "الشباب ولاسيما في الأرياف والقرى يتأثرون بالمظاهر والهيئة الخارجية سواء تقصير الثوب أو إطالة اللحى، لكن الأفكار التي يروّجون لها بين هذه الفئة خطيرة، فهم يؤكدون أن الحاكم اليوم هو ولي أمر إطاعته واجبة بغض النظر عن طائفته".
ونوه إلى أن "خطورة التيار المدخلي تكمن في أنهم أداة بيد غيرهم، سواء بعض الجهات في العراق، أو المخابرات السعودية التي تقف وراء تشكيل هذا الفكر الموالي للسلطان، وبالتالي هؤلاء يمثلون معول هدم داخل المجتمع الإسلامي السني".
ظهور مثير
لم يكن ظهور التيار المدخلي الجامي بعد اندحار عصابات داعش في العراق هو البداية، وإنما كان بعد الاحتلال الأميركي للبلاد عام 2003، حينما رفضت زعامات هذه الجماعة أي عمل مسلح وعطلت "الجهاد" ضد هذه القوات، والوقوف ضد توجهات أهل السنة في وقتها.
وفي محاضرة ألقاها أبو منار العلمي الذي يعد زعيم التيار المدخلي في العراق، ويرجح أنها كانت في عام 2007، استند في تعطيل الجهاد ضد القوات الأميركية آنذاك، على حديث في سنن أبي داوود أن "النبي محمد صلى الله عليه وسلم غزا غزوة فضيقوا على الناس الطريق، فنادى الرسول من ضيق طريقا أو آذى مسلما فلا جهاد له".
وعلق العلمي على الحديث موجها خطابه لمن يحمل السلاح ضد القوات الأميركية قائلا: "إنك لم تضيّق الطريق وإنما قلت، لأنك تقتل العسكري وسط المدينة وتنهزم مثل المرأة تختبئ، وتترك هذه القوات تطلق النار على الأطفال والشيوخ، وتزعم ذلك جهادا".
وزعم العلمي في حينها أن "شروط الجهاد ليست متحققة في العراق، لأنه لا توجد قوة مادية ولا معنوية ولا عسكرية ودينية، لذلك لا يصح الجهاد في ظل هذه الظروف".