حظر "تيليغرام" في العراق يستهدف فصائل المقاومة والصدريين: قرار أميركي أم انتخابي أم أمني؟
انفوبلس/ تقرير
قبيل منتصف ليل السبت، الخامس من هذا الشهر الحالي، تواترت الأنباء في بغداد عن نية الحكومة حظر تطبيق تيليغرام. مصادر في مكتب رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني سرّبت الخبر إلى بعض وسائل الإعلام التي قالت إنه "مرجح" وليس "أكيداً". لكن، سرعان ما دخل القرار حيّز التنفيذ بعد ساعات، قبل أن تصدر وزارة الاتصالات أول تعليق مساء الأحد، معللة الحظر بأنه جاء بناءً لتوجيهات من الجهات العليا، ولأسباب تتعلّق بالأمن القومي.
*تسريب بيانات
بيان وزارة الاتصالات – التي تواجه انتقادات واسعة في الرأي العام العراقي بعد الحظر – عزا القرار إلى تسريب بيانات المؤسّسات الرسمية والبيانات الشخصية للمواطنين عبر تطبيق تيليغرام.
شهد العراق في العقدين الأخيرين فوضى واسعة في تسريب أسرار الدولة والمراسلات الداخلية بين مؤسساتها، بما فيها تلك المتعلقة بالشؤون العسكرية والأمنية فور صدورها، وكذلك القرارات المرتبطة بالفساد وسرقة المال العام، في سياق النزاعات السياسية بين الفرقاء السياسيين ومحاولاتهم فضح ارتكابات بعضهم البعض في المؤسسات الحكومية. وفي العقد الأخير، تكرر تسريب بيانات شخصية عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي، ارتبطت دائما بالصراع السياسي. وتمحورت عادة حول الكشف عن بيانات شخصية لزعماء سياسيين أو قادة لفصائل مقاومة أو أقربائهم. وبلغت هذه التسريبات ذروتها إبان احتجاجات عاشوراء العام الماضي (2022) التي قادها التيار الصدري وانتهت بليلة عنيفة في المنطقة الخضراء ببغداد.
لكن ما حدث في الساعات الاثنين والسبعين التي سبقت الحظر أمر مختلف الى حد ما، إذ تم تخصيص التسريب هذه المرة عبر تطبيق تيليغرام تحديداً. وتمّ رصد "بوت" (روبوت ذكي صعب التتبع يؤدي مهاما متكررة نيابة عن الانسان) ينشر بيانات شخصية. هذا الـ"بوت" كان بعنوان (داتابايز العراق)، وتميّز عن غيره في استجابته لطلب معلومات عن أي مواطن بمجرد ذكر اسمه الثلاثي.
البيانات الشخصية التي تم تسريبها كشفت الى حد ما طبيعة قاعدة البيانات التي خرجت للعلن هذه المرة، إذ أجريت تجارب متعددة في أكثر من "بوت" حول أسماء حقيقية، وتوصّلت الى أن الأشخاص الذين لم يقوموا بتحديث بياناتهم في قاعدة بيانات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات لم تظهر نتائج تخصهم. وهو ما يؤكد إلى حد كبير ان قاعدة البيانات المسربة هي عبارة عن السجل الانتخابي للعراق والذي يشهد هذه الأيام تحديثاً للبيانات الشخصية للمواطنين استعداداً لانتخابات مجالس المحافظات المقررة بعد ثلاثة أشهر.
عضو في مجلس نواب رفض الكشف عن اسمه، قال إنه لم تكن صدفة أن يتزامن تسريب البيانات الشخصية للمواطنين مع المؤتمر الصحافي لرئيس هيئة النزاهة حيدر حنون. الأخير هو أحد الذي عملوا على الكشف عن "سرقة القرن" (سرقة أكثر من 3 مليارات دولار من حسابات الأمانات الضريبية في العراق) التي اتُهم بها وزراء في حكومة مصطفى الكاظمي. وقال النائب إن هناك من يريد تحويل انتباه الرأي العام عن قضية المقرّبين من الكاظمي الذين طلبت بغداد من الإنتربول إصدار مذكرات توقيف دولية بحقهم.
ومن الجدير بالذكر، ان لدى العراق قواعد بيانات متعددة ومنفصلة عن بعضها البعض. فهناك قاعدة بيانات لجهاز المخابرات العراقي واخرى لجهاز الأمن الوطني، وثالثة لوزارة التجارة في ما يتعلق بالبطاقة التموينية ورابعة لوزارة الداخلية فيما يخص البطاقة الوطنية الموحدة. ولطالما طالب أعضاء مجلس النواب بتوحيد قواعد البيانات هذه وضمان أمنها السيبراني.
*تليغرام: بديل لا تطاله يد واشنطن
منذ اندلاع احتجاجات تشرين عام 2019 في العراق، وما تلاه من احداث كاغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، انقسم مشهد الرأي العام العراقي. باتت المعايير المتشددة لموقع فايسبوك تجاه المعارضين لسياسة الولايات المتحدة الأميركية غير مناسبة لجمهور محور المقاومة في العراق. وبعد جولة دامت لوقت قصير في موقع "تويتر" انتقل هذا الجمهور المعارض حينها لحكومة رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي الى تطبيق "تيليغرام"، حيث اُنشئت القنوات الخبرية بشكل واسع وأصبح التطبيق شديد الاهمية لدى الرأي العام.
من بين هذه القنوات، برزت "صابرين نيوز"، كإحدى المنصات المؤثرة، أصبحت هذه المنصة شديدة التأثير لا سيما بسبب سرعتها في النشر وكشفها اسرار السياسيين. وساهمت "صابرين نيوز" وعشرات القنوات التي يتابعها مئات الآلاف في تحريك الشارع غير مرة ودعم تظاهرات واقتحامات تبناها جمهور فصائل المقاومة العراقية.
لأن "صابرين نيوز" محسوبة على فصائل المقاومة العراقية، سعت حكومة رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، في بعض المراحل إلى حظر تيليغرام، للتخلص منها. في تشرين الأول / أكتوبر 2020، أحرق محتجون مقر الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد، بعد تصريحات للسياسي الكردي هوشيار زيباني ضد الحشد الشعبي. حمّلت الأجهزة الأمنية العراقية "صابرين نيوز" مسؤولية التحريض على الهجوم. وفي اجتماع أمني برئاسة الكاظمي، جرى بحث اقتراح حظر تطبيق تلغرام. غير أن الخشية من ردات الفعل السلبية أدت الى العدول عن القرار، كما كشف أحد الذين شاركوا في الاجتماع.
لكنّ، الواقع أن "صابرين نيوز" لم تكن مزعجة للكاظمي حصراً، بل للأميركيين أيضاً. فهي تخصصت في إحدى المراحل بنشر المعلومات عن العمليات التي تستهدف أرتال دعم القوات الأميركية في العراق، ومعلومات دقيقة عن استهداف القواعد العسكرية الاميركية بالصواريخ والمسيّرات، ما جعل تأثير القناة كبيراً في الساحة العراقية، وفي الأوساط السياسية في بغداد.
لم يكن تيليغرام حكرا على أنصار الفصائل المقاوِمة. خصومهم، من أنصار التيار الصدري، استخدموا التطبيق بكثافة قبل فوزهم بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات النيابية عام 2021. ازدحم التلغرام بقنوات داعمة للصدريين، خصوصاً إبان الأزمة السياسية والأمنية التي شهدها العراق العام الماضي، ووصلت ذروتها بانسحاب نواب التيار الصدري من البرلمان. وقد لعبت هذه القنوات دورا مؤثرا مؤثرة في حشد التظاهرات، أكثر من أي تطبيق آخر.
قنوات التيليغرام العراقية، على اختلاف خلفياتها السياسية، عارضت قرار حكومة السوداني حظر عمل التطبيق واعتبرته موجها ضدها في الدرجة الأولى. فالتطبيق يشكل بديلاً آمناً لوسائل التواصل الاجتماعي الخاضعة لمعايير النشر الأميركية، وتلتزم بصرامة بتصنيفات الولايات المتحدة للقوى والأحزاب والشخصيات العراقية. فعلى تيليغرام، يمكن أي حزب أو تنظيم يعاني من إجراءات أميركية أحادية أن ينشر بحريّة، من دون الخشية من إقفال حساباته.
في بغداد، انقسم المتضررون من القرار إلى قسمين: الأول اعتبره استهدافا لأنصار التيار الصدري، عشية انتخابات مجالس المحافظات في كانون الأول / ديسمبر المقبل. فحكومة السوداني والأحزاب الداعمة له تخشى أن يلجأ زعيم التيار، السيد مقتدى الصدر، إلى تحريك الشارع قبل الانتخابات وقلب الطاولة في وجه الحكومة التي يعارضها بصمت.
هذا ايضا أكده مؤيدون للصدر شرط عدم كشف هوياتهم. كما تبنت هذا الموقف الصفحات المؤيدة للتيار الصدري على تيليغرام، كصفحات "واحد بغداد" و"واحد نجف" و"الزعيم".
أنصار المقاومة، أعادوا القرار إلى طلب أميركي. صوّبوا سهامهم على حكومة السوداني التي دعمتها فصائلهم، وأسموها "حكومة رومانسكي"، في إشارة إلى ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد. وانتقد هؤلاء، على صفحاتهم، رئيس الحكومة العراقية "الذي يلتقي بالسفيرة الأميركية أكثر من أفراد عائلته". ويعتبر هؤلاء أن الأميركيين منزعجون من هذه الصفحات، كونها تنشط في مساحة تعجز واشنطن عن التحكم بها، بخلاف سائر وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه القنوات لا تخفي التزامها بخيار المقاومة ضد الاحتلال الأميركي للعراق وسوريا، إضافة إلى تأييدها محور المقاومة في غرب آسيا.
الانتقادات استهدفت أيضاً وزارة الاتصالات، وتحديداً شخص الوزيرة هيام الياسري التي تولت منصبها باعتبارها جزءا من حركة عطاء التي يتزعمها رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، علماً بأن الأخير كان قد عارض في عهدة حكومة الكاظمي اقتراح حظر تيليغرام.
كذلك التقى أنصار التيار الصدري ومؤيدو فصائل المقاومة على انتقاد رئيس الجهاز التنفيذي في هيئة الإعلام والاتصالات، علي المؤيد، المقرّب من رئيس تيار الحكمة السيد عمار الحكيم، باعتباره مسؤولاً عن قرار الحظر. كشفت هذه الانتقادات عن انقسام بين الأحزاب الداعمة لحكومة السوداني حيال قرار حظر تيليغرام، قد تكون مؤشرا على انقسام سياسي بينها ينعكس في انتخابات مجالس المحافظات.
بعد أيام قليلة على الحظر، لوحظ اختفاء عدد من قنوات التيليغرام والـ"بوتات". مسؤول رفيع رفض الكشف عن اسمه، فسر ذلك بأن إدارة تطبيق تليغرام بدأت اخيرا، بعد الحظر، الاستجابة لطلبات حكومية في هذا الشأن، بعدما كانت تتجاهل هذه الطلبات سابقا. ووصف سياسيون ومدونون ذلك بأنه تضييق على حرية التعبير واستهداف سياسي.
يذكر أن تطبيق تيليغرام في العراق شهد على مدى السنوات الماضية، محاولات ابتزاز. وحتى في الساعات الماضية، ظهرت قنوات تزعم بيع بيانات شخصية مقابل بطاقات هواتف الخلوية مسبقة الدفع.
في المحصلة، أقدمت حكومة السوداني على إقفال مساحة رحبة من الحرية، في ظل تحكم واشنطن بمعايير النشر على وسائل التواصل الاجتماعي. صحيح أنه يمكن، تقنياً، الالتفاف على الحظر باستخدام وسائل خاصة (VPN)، تتسبب في بطء سرعة الانترنت، وتضع عبئاً إضافيا على الشبكة العراقية المتخمة أصلاً. الا أن هذا القرار، لا يُمكن أن يُنظر إليه الا من زاوية سياسية، في ظل اتهامات للسوداني بمراضاة الأميركيين على أكثر من صعيد.
المصدر: مجلة TheCradle