حكم بالإعدام وذاكرة لا تموت.. جرائم شاكر الدوري في سجل حزب البعث الأسود
انفوبلس/ تقارير
لم يكن شاكر طه يحيى المعروف باسم "شاكر الدوري" مجرد ضابط أمن في نظام حزب البعث، بل كان أحد العقول التنفيذية التي حوّلت قرارات الإبادة إلى أفعال والأوامر إلى مقابر جماعية، فمن مكاتب الأمن في السليمانية إلى دهاليز الشعبة الأولى ومن ملاحقة الشيوعيين إلى تصفية الكورد البارزانيين، رسم الدوري مسارًا دمويًا يعكس جوهر الدولة البعثية القائمة على القمع، والإخفاء القسري، والإبادة المنظمة. واليوم ومع مثوله أمام القضاء العراقي لا يُحاكم فردٌ بقدر ما تُستدعى مرحلة كاملة من الجرائم التي ارتكبها حزب البعث بحق الكرد.
شاكر الدوري من ضابط أمن إلى مهندس الإخفاء الجماعي
يوم أمس، قرر القضاء محاكمة ضابطين برتبة لواء من منتسبي النظام البعثي المباد، يتقدمهم اللواء شاكر طه يحيى غفور الدوري، على خلفية اتهامهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية بحق الكرد البارزانيين.
الدوري، الذي شغل منصب مدير الشعبة الأولى لجهاز الأمن في الأمن البعثي في السليمانية، لم يكن اسمًا عابرًا في سجل القمع، بل أحد المفاصل الأمنية التي تولّت تنفيذ سياسات النظام ضد الكرد.
وبعد سنوات من التخفي، نجحت الأجهزة الأمنية العراقية من إلقاء القبض عليه، لتنكشف خلال التحقيقات اعترافات تفصيلية قدّمها بنفسه، كاشفًا آليات الاعتقال الجماعي، وخطط إخفاء العوائل، وأساليب التصفية التي استُخدمت بحق البارزانيين.
وبحسب الوثائق الرسمية الصادرة عن المحكمة الجنائية العراقية العليا ورئاسة محكمة استئناف الرصافة، فإن الدوري والمتهم الآخر اللواء سعدون صبري جميل جمعة القيسي، وُجهت إليهما التهم استنادًا إلى المادتين 12 و15 من قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا، والمتعلقتين بالجرائم الدولية وجرائم الإبادة الجماعية، في توصيف قانوني يضع أفعالهم ضمن أخطر الجرائم في القانون الدولي.
وخلال التحقيقات الأولية، تحولت إفادات شاكر الدوري إلى مادة اتهام مركزية، بعدما فصّل كيفية تنفيذ عمليات الاعتقال، ونقل المختطفين، وإخفائهم قسرًا، وهي إفادات اعتمدتها محكمة جنايات الرصافة كأدلة رئيسية.
المحكمة، الشهود، والحكم… حين تكلّم الدم الكردي
في قاعة المحكمة، حضر فريق الدفاع الخاص بملف البارزانيين، إلى جانب ممثلي ذوي الضحايا، في مشهد حمل ثقل الذاكرة الكردية، حيث لم تكن الجلسات مجرد إجراءات قانونية، بل مواجهة مباشرة مع ماضي الإبادة.
وأعدّت المحكمة قائمة تضم 35 شاهدًا من مناطق بارزان، حرير، سوران، بيرمام، مصيف، وناحية بحركة، جميعهم جاؤوا ليسردوا ما عاشوه تحت قبضة جهاز الأمن البعثي، من اعتقالات جماعية، واقتياد العوائل، واختفاء الأبناء دون أثر.
وبدأت جلسات المحاكمة رسميًا في 28 كانون الأول/ديسمبر 2025، في خطوة وُصفت بالتاريخية، كونها تعيد فتح واحد من أكثر ملفات الإبادة إيلامًا في تاريخ العراق.
وفي تطور مفصلي، أصدرت المحكمة الجنائية العراقية العليا حكمًا بالإعدام بحق شاكر غفور الدوري، بصفته مدانًا رئيسيًا في تنفيذ التصفيات الجماعية بحق الكرد البارزانيين.
ووفق بيان المحكمة الذي ورد لشبكة انفوبلس، فإن الدوري شارك في حملات شملت الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وأسفرت عن دفن الضحايا في مقابر جماعية، من بينها مقبرة في الصقلاوية، ما يؤكد أن الجرائم لم تكن محصورة جغرافيًا بل امتدت على نطاق واسع.
شاكر الدوري نموذج.. حزب البعث وإبادة الكرد
لا يمكن النظر إلى جرائم شاكر الدوري بمعزل عن السياق الأشمل لسياسات حزب البعث. فالدوري لم يكن سوى حلقة في سلسلة طويلة من الضباط الذين نفذوا حملات الأنفال، تلك العمليات التي تُعد واحدة من أكبر جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ العراق الحديث.
وبدأت حملات الأنفال عام 1986، وبلغت ذروتها عام 1988، واستمرت حتى عام 1989، مستهدفة القرى الكردية وسكانها، عبر القتل الجماعي، التهجير القسري، وتدمير البنى الاجتماعية. وقد أُوكلت قيادة هذه الحملات إلى علي حسن المجيد، المعروف بـ”علي الكيماوي”، بصفته أمين سر مكتب الشمال لحزب البعث والحاكم العسكري للمنطقة، فيما تولى سلطان هاشم، وزير الدفاع الأسبق، القيادة العسكرية للحملة.
وفي 3 أيار/مايو 2011، صنّفت المحكمة الجنائية العراقية العليا حملة الأنفال رسميًا على أنها جريمة ضد الإنسانية وإبادة جماعية، وأدانت علي حسن المجيد أيضًا بالإشراف على الهجوم الكيمياوي على مدينة حلبجة، في اعتراف قضائي بحجم الجريمة التي تعرّض لها الكرد.
وضمن هذه المنظومة، كان شاكر الدوري يؤدي دوره التنفيذي، سواء في اعتقال البارزانيين، أو في إدارة عمليات الإخفاء القسري، أو في متابعة الملفات الأمنية المتعلقة بالكرد. ولم تتوقف أدواره عند هذا الحد، إذ امتدت إلى اختراق الأحزاب السياسية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي.
فبحكم عمله في الشعبة الأولى لمكافحة “الشيوعية” في عدة محافظات، قبل انتقاله إلى مديرية أمن بغداد، أشرف الدوري على عمليات اندساس استهدفت مناضلين وناشطين، واستُخدمت الخلافات الداخلية داخل الأحزاب لتصفية المعارضين، وهو ما أدى إلى سقوط ضحايا سياسيين وأمنيين، ودفع الحزب الشيوعي أثمانًا باهظة ما تزال آثارها حاضرة حتى اليوم.
ومع تسليم شاكر الدوري إلى السلطات الأمنية في بغداد، كما أعلن المتحدث باسم جهاز الأمن الوطني أرشد الحاكم في يناير الماضي، تصاعدت الدعوات إلى:
ـ كشف جميع مفاصل الاندساس التي نفذها حزب البعث داخل الأحزاب.
ـ توثيق الجرائم للتاريخ استنادًا إلى اعترافات الدوري ومعرفته المباشرة.
ـ تعويض الضحايا ورفع دعاوى خاصة بحق كل المتورطين.
ـ عدم التستر على أي متعاون مع أجهزة النظام السابق، سواء كان حيًا أو متوفى.
خلاصة
وفق مختصين، فإن محاكمة شاكر الدوري ليست محاكمة رجل واحد، بل محاكمة عقل أمني بعثي مثّل حلقة أساسية في مشروع إبادة الكرد. فمن خلال سيرته، تتكشف طبيعة حزب البعث كسلطة قامت على القتل المنظم والإخفاء القسري. واليوم، وبين اعترافاته وأحكام الإعدام، تعود جرائم الأنفال والبارزانيين إلى الواجهة، لتؤكد حقيقة واحدة: أن ذاكرة الكرد أقوى من محاولات الطمس، وأن العدالة، مهما تأخرت، ستبقى تطارد قتلتهم.

