حملة كبرى لإزالة التجاوزات.. هل تكفي لإصلاح التشوّه العمراني في العاصمة؟ ماذا عن الناس؟

انفوبلس..
ضمن إطار حملة تنظيمية واسعة، شرعت أمانة بغداد بإزالة تجاوزات عمرانية في أسواق ومناطق شعبية، بهدف فرض القانون وتحسين البنية التحتية. الحملة، رغم قانونيتها، أثارت جدلاً اجتماعياً واسعاً بشأن غياب البدائل وحقوق الفئات المتضررة، ما يطرح تساؤلات حول التوازن بين التخطيط الحضري والعدالة الاجتماعية.
هذه الحملة، التي طالت أسواقاً شعبية بارزة مثل سوق الكيارة وسوق عريبة في مدينة الصدر شرقي بغداد، جاءت استناداً إلى قوانين الإدارة البلدية وتخطيط المدن، وبدعم مباشر من الحكومة المحلية. ووفق المعطيات الرسمية، فإن الحملة تهدف للحد من الفوضى العمرانية، وتفتح المجال لتنفيذ مشاريع البنى التحتية.
لكن على الضفة الأخرى، تطرح هذه الإجراءات جملة من التساؤلات المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، وغياب البدائل الفورية، والفراغ التخطيطي الذي خلّفته عقود من السياسات المرتبكة، فهل تنجح بغداد، من خلال هذه الحملة، في إعادة إنتاج الفضاء المديني على أسس قانونية وتنموية؟
جذور الأزمة
لم تكن ظاهرة التجاوزات في بغداد وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى تراكمات ما بعد عام 2003، حين اختلط التوسع السكاني غير المنظَّم بضعف منظومة التخطيط العمراني، وتراجع سلطة الدولة في إدارة الأرض والمساحات العامة.
الصحفي المتخصص بالشأن العام، محمد الباسم، يوضح أن ما شهدته العاصمة طيلة العقدين الماضيين هو “تغافل طويل الأمد عن ضبط حركة التمدد السكاني، في ظل غياب حلول إسكانية متكاملة للفئات محدودة ومتوسطة الدخل مما أدى إلى ولادة أحياء وأسواقٍ ومناطق تجارية بالكامل خارج أي تصميم بلدي".
مضيفاً أن "بعض هذه الأسواق، مثل سوق الكيارة وسوق عريبة، نشأت فوق أراضٍ مخصّصة للخدمات أو لمرور البنى التحتية. ومع مرور الوقت، تحوّلت هذه التجاوزات إلى عائق فعلي أمام تنفيذ أي مشروع خدمي أو عمراني".
مبيناً "إنه وعلى رغم تعاقب الحكومات، لم تُوضع سياسة إسكانية مستدامة تُوازن بين حاجات السكان ومتطلبات التخطيط. واليوم، تأتي الحملة التي أطلقتها أمانة بغداد كجزء من رؤية حكومية شاملة لإعادة تنظيم الفضاء الحضري، تمهيداً لإطلاق مشاريع خدمية وتنموية طال انتظارها". الباسم يرى "أن ما يجري اليوم يمثل "نقلة في تعاطي الدولة مع الملف، ليس بوصفه مجرد تجاوز على الأرض، بل خلل تخطيطي يستوجب المعالجة من الجذر، وفق سياسات عادلة ومدروسة".
مشيراً إلى "أن قرار الدولة الأخير “محترم ومنضبط، ويعكس لأول مرة منذ سنوات وجود إرادة إدارية فعلية لإعادة هيبة التخطيط الحضري، لكن التحدي يبقى في قدرة المؤسسات على خلق بدائل سكنية واقعية للفئات المتضررة، حتى لا تتحول الإزالة إلى مصدر أزمة جديدة". مضيفاً :"في ضوء ذلك، تبدو الإجراءات الحالية بمثابة خطوة تصحيحية تأخرت، لكنها ضرورية، تفتح الباب أمام تنفيذ مشاريع حضرية أكثر كفاءة واستدامة".
القضاء على الفوضى
في إطار الجهود الحكومية المستمرة لتنظيم مدينة الصدر وإعادة هيكلة الأحياء التي تأثرت بالعشوائيات، أطلقت دائرة بلدية مدينة الصدر حملة شاملة لإزالة التجاوزات. هذه الحملة التي شملت مناطق حيوية في المدينة تأتي في إطار تحسين البنية التحتية وتوفير بيئة حضرية صحية وآمنة للمواطنين، وهو هدف طال انتظاره في المنطقة.
وأكد ثائر رشك معاون المدير العام لبلدية الصدر الأولى والمسؤول المباشر عن الحملة، أن العملية كانت منظمة وقانونية، حيث تم التواصل مع المتجاوزين بطريقة تدريجية ومنضبطة لضمان عدم حدوث أي إرباك أو تضرر للمواطنين.
وأوضح عبد الحسين، أن الحملة استهدفت إزالة التجاوزات في عدة شوارع رئيسية، مثل شارع الداخل (سوق عريبة)، بالإضافة إلى إزالة التجاوزات في ثمانية شوارع ستينية، من ضمنها سوق بيع الأخشاب، وكذلك في شارع المكافحة وشارع العمال.
وأضاف عبد الحسين أن الإجراءات التي تم اتخاذها كانت قانونية ومنظمة، حيث تم إرسال إنذارات رسمية للمخالفين في المرحلة الأولى، ومنحهم وقتاً كافياً لرفع ممتلكاتهم. وأشار إلى أنه لم تُسجل أي حالات تضرر بشري جرَّاء الإزالة، حيث كانت معظم التجاوزات تتعلق بأسوار وحدائق غير قانونية وحمامات خارجية، ولم تشكل مصدر رزق أساسي للسكان.
وفي ما يتعلق بالخطوات المستقبلية بعد إتمام عملية الإزالة، أكد عبد الحسين أن الهدف الأساسي هو تحسين البنية التحتية للمدينة، موضحاً أنه بعد إزالة هذه العوائق، ستكون هناك خطط لتطوير الشوارع وتوسيع المساحات الخضراء، بالإضافة إلى زراعة الأشجار والنخيل، مما سيُسهم في تحسين البيئة العامة وتسهيل حركة المرور في المدينة.
وبين مدير الدائرة أن هذه الحملة تُعدُّ جزءاً من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تحسين جودة الحياة في مدينة الصدر، مشيراً إلى أن البلدية ستواصل تنفيذ مشاريع مستقبلية لتعزيز المرافق العامة والبيئة الصحية، مع مراعاة حقوق المواطنين في بيئة آمنة ومنظمة.
ختاماً، أفاد عبد الحسين بأن هذه الحملة تُعدُّ خطوة هامة نحو إعادة تغيير البنية العمرانية للمدينة وتنظيمها، حيث يظهر هذا التحرك الجاد من قبل الحكومة المحلية إرادة حقيقية في إعادة تأهيل المناطق الحضرية. ومع استمرار هذه الجهود، تظل الحاجة ماسة لإنشاء مشاريع إسكانية بديلة تلبي احتياجات الفئات المتضررة، إضافة إلى تطوير خطط سكنية تستوعب النمو السكاني وتوفر بيئة حضرية مستدامة.
أثر اجتماعي
تُخلّف قرارات إزالة التجاوزات، مهما كانت دوافعها التخطيطية والتنظيمية، أثراً اجتماعياً يتجاوز حدود الجغرافيا. فالإجراءات، وإن جاءت متأخرة، تمسّ تفاصيل يومية من حياة فئات اجتماعية واسعة اعتادت ممارسة أعمالها في فضاءات غير مرخَّصة لكنها مفتوحة بفعل سنوات من الغياب الحكومي. وبين من يراها خطوة ضرورية لتنظيم الفضاء الحضري، ومن يتلقاها كضربة في صميم معيشته، يتفاوت المزاج الشعبي إزاءها، لا سيما في المناطق التي عانت لعقود من غياب العدالة في توزيع الخدمات والتنمية.
الكاتب والإعلامي د. حسن قاسم يرى أن ردود الفعل الشعبية إزاء مثل هذه الحملات، لا تُفهم إلا من خلال السياق العام الذي رافق نمو “الاقتصاد غير الرسمي” في العراق. فبحسب تعبيره: “عادةً ما تنقسم آراء الناس بإزاء قضايا المجتمع عامةً، والخدمات على وجه الخصوص، بين رافض ومتقبل ومتشكك، وذلك بسبب فسحة الحرية التي تجتاح عالمي الإعلام والسوشيال ميديا، وغالباً ما يكون المتضررون وأهلهم وأقاربهم ومعارفهم هم من يرفض أي إجراء حكومي يستهدف مصالحهم، ويسدّ عليهم أبواب رزقهم التي اعتادوا عليها منذ سنوات".
ويضيف: “لقد كانت الفوضى والتجاوز على الشوارع والساحات العامة هي السمة الغالبة على مدننا، فضاعت معالم الأحياء السكنية واندثرت صورها الجميلة، وحلّ محلها نمط عشوائي شبيه بأسواق دول شرق آسيا الفقيرة. في حين غابت مظاهر النظافة والتنظيم عن مناطق الرصافة تحديداً، مقابل في الكرخ".
رؤية قاسم لا تنفي ضرورة التنظيم، لكنها تُلزم الجهات الحكومية بالمسؤولية الاجتماعية، حيث يوضح: “أنا أدعو الجهات المنفذة إلى أن تجد حلولاً سريعة لمن فقد مصدر رزقه، فلو كانت لديهم خيارات أخرى لما اختاروا مخالفة القانون. عليهم إنشاء أسواق نظامية ومستوفية للشروط، وتعويض المتضررين مالياً، بما يضمن عدم انزلاقهم نحو الفقر أو الهامش". هكذا، يتضح أن ملف إزالة التجاوزات لا يجب أن يُقرأ فقط من زاوية القانون والتخطيط الحضري، بل يُفترض أن يؤخذ بُعده الإنساني والاجتماعي في الحسبان. فبينما تمضي الحكومة في محاولاتها لإعادة النظام، يطالب مراقبون ومواطنون على حدٍّ سواء، بأن تترافق هذه الخطوات مع حلول عملية تحفظ الكرامة وتؤمن لقمة العيش.
الإطار قانوني
تعدُّ قضية إزالة التجاوزات على الأراضي العامة من القضايا التي تتطلب توازناً دقيقاً بين تطبيق القانون وحماية الحقوق الإنسانية. وفي الوقت الذي يسعى فيه العراق إلى إعادة تنظيم مناطقه وإزالة العشوائيات، يظلُّ الحق القانوني للدولة في إزالة هذه التجاوزات موضوعاً حساساً، لا سيما في المناطق التي تأثرت بالفوضى العمرانية لفترات طويلة.
من الناحية القانونية، يؤكد الخبير القانوني محمد جمعة أن الدولة تملك الحق الكامل في إزالة التجاوزات التي تحدث على الأراضي العامة، إذ يُعتبر الشارع العام ملكاً للدولة، والتعدي عليه يشكل انتهاكاً للقانون. ويضيف إن “الدولة لديها الحق الكامل في إزالة أي تجاوز على ممتلكات عامة، والقانون يجيز لها هذه الإجراءات دون حاجة للتعويض عن الأضرار، ما لم يكن المتجاوز يمتلك حقوقاً قانونية على العقار. فالتجاوزات على الشوارع العامة هي مسألة واضحة، والشخص الذي يتعدى عليها لا يحق له الاعتراض".
وتابع جمعة، أن التعويض لا يُمنح إلا في حال كان المتجاوز يمتلك حقوقاً تصرفية في الأرض أو العقار الذي وقع عليه التجاوز. وفي هذا السياق، يرى أن الدولة قد تستوفي حقوقها من خلال هذه الإجراءات القانونية دون الحاجة إلى إعادة النظر فيها إلا إذا كانت هناك حقوق ملكية ثابتة في العقار المتجاوز عليه.
مع ذلك، يلفت جمعة الانتباه إلى أن هذا الحق القانوني للدولة في إزالة التجاوزات لا يعفيها من المسؤولية الاجتماعية. فالإجراءات القانونية التي قد تُعتبر عادلة من الناحية القانونية وقد تؤدي إلى تأثيرات سلبية على الفئات الهشَّة في المجتمع. ويقول في هذا السياق: “من الناحية الاجتماعية، الغالبية العظمى من المتجاوزين ينتمون إلى الفئات الكادحة والمحدودة الدخل، وهم يعتمدون على هذه الأراضي لكسب رزقهم. لذا فإن تطبيق القانون بشكل صارم من دون توفير بدائل قانونية أو اقتصادية يعرِّض هؤلاء الأفراد إلى مشكلات اجتماعية واقتصادية كبيرة".
وأضاف: “إزالة هذه التجاوزات يجب أن تكون مصحوبة بخطط بديلة توفر أماكن عمل أو أسواق جديدة تلتزم بالمعايير القانونية والصحية. لا يكفي أن ترفع الحكومة هذه التجاوزات من دون أن تقدم الحلول المناسبة للمتضررين منها.
إعمار بغداد
تشهد بغداد في السنوات الأخيرة حملة إعمار شاملة، تهدف إلى التغيير السامل في البنية التحتية وتطوير المرافق العامة في العاصمة العراقية. تتزامن هذه الجهود مع إزالة التجاوزات التي كانت قد تشكلت على أراضٍ عامة في بعض المناطق، وهو ما كان يؤثر سلباً في التنظيم العمراني في المدينة. الحملة تشمل العديد من المشاريع التي تتراوح بين توسيع الشوارع، إنشاء الجسور، زراعة الساحات، إنارة الشوارع، بالإضافة إلى تحويل بعض المناطق إلى مناطق ترفيهية لتحسين نوعية الحياة في المدينة. تم تقسيم المهام بين الدوائر الحكومية المختلفة، بإشراف مباشر من المديرين العامين لضمان سير العمل بأعلى درجات الكفاءة.
يُعدُّ هذا المشروع جزءاً من خطة حكومية طويلة الأمد، تهدف إلى تطوير البنية التحتية وتحقيق تغيير جذري في الواقع العمراني في بغداد. ومع ذلك، فإن هذه الحملة تطرح العديد من الأسئلة حول كيفية مراعاة الاحتياجات الاجتماعية للمواطنين المتضررين من عمليات إزالة التجاوزات، وكيفية ضمان حقوقهم في بيئة حضرية منظمة.
في سياق متصل أكد عادل الساعدي، مدير دائرة بلدية الغدير أن هذه الحملة تعدُّ خطوة أساسية نحو تحسين البيئة الحضرية في بغداد، مشيراً إلى أن : “حملة الإعمار التي تشهدها بغداد تركز على إعادة تنظيم الشوارع وتطوير البنية التحتية، ما سيسهم في تحسين خدمات المدينة بشكل عام. نحن في دائرة بلدية الغدير نعمل مع جميع الجهات الحكومية المعنية لتنفيذ مشاريع تطويرية تتضمن إزالة التجاوزات على الأراضي العامة، وتوسيع الشوارع لتحسين حركة المرور، بالإضافة إلى توفير مساحات خضراء تُسهم في خلق بيئة صحية للمواطنين".
وأوضح الساعدي أن التحدي الأكبر يكمن في تحقيق توازن بين إزالة التجاوزات وتقديم حلول بديلة للأشخاص المتضررين، مشيراً إلى أن الحكومة بصدد إنشاء أسواق جديدة تستوعب هؤلاء المواطنين، فضلاً عن توفير فرص عمل جديدة في المناطق المستحدثة.
وأضاف: “بغداد تشهد تحولاً حقيقياً في إطار هذه الحملة، التي تهدف إلى تحسين نوعية الحياة للسكان. من خلال هذه المشاريع، نسعى إلى إعادة بناء بيئة حضرية صحية ومناسبة للجميع، مع توفير خدمات حديثة من شوارع، إنارة، وحدائق. هذا التحول لا يقتصر على تحسين الشوارع فقط، بل يشمل تحويل بعض المناطق إلى أماكن ترفيهية تتناسب مع تطلعات المواطنين.
ردود فعل متباينة
في وقت تسعى فيه الحكومة لإعادة تنظيم بغداد وإزالة التجاوزات التي فرضتها السنوات الماضية على شوارع العاصمة، تُظهر ردود فعل المواطنين تبايناً واضحاً. البعض يرى في هذه الحملة فرصة حقيقية لإعادة هيكلة المدينة وتوسيع الشوارع لتخفيف الازدحام، بينما يشعر آخرون أن الحملة تضرُّ بمصادر رزقهم، خاصة أولئك الذين يعتمدون على العمل في الأسواق العشوائية والمناطق التي تم استهدافها.
أبو علي (46 عاماً) يرى أن إزالة التجاوزات أمر ضروري. يقول: “المدينة كانت فوضى، الشوارع ضاقت بسبب التجاوزات، وكان الوضع لا يُحتمل. اليوم نحتاج إلى تغييرات جذرية. إذا تطلب الأمر إزالة بعض التجاوزات لتحسين الأمور، فهذا أمر جيد”. ويرى أحمد، سائق تكسي، أن التحسينات العمرانية ستسهل حركة المرور وتقلل من الازدحام. “الزحمة خانقة في شوارع بغداد، وإذا تم توسيع الطرق وتنظيمها بشكل جيد، سيقل التكدُّس وستتحسن حركة السير".
من جهة أخرى، يرفض كثير من المواطنين هذه الإجراءات بسبب الآثار الاجتماعية التي تترتب عليها. أبو أحمد، بائع متجول، يعبر عن استيائه قائلاً: “الحكومة تقول إنها تنظف المدينة وتطورها، ولكن ماذا عن أرزاقنا ؟ هذه السوق هي مصدر رزقي الوحيد، فكيف سأجد مكاناً آخر للعمل؟”. كذلك، تشعر أم محمد، صاحبة محل في سوق عريبة بالقلق: “منذ سنوات وأنا أعيش من هذه التجارة، والآن يتم إغلاق السوق. نحن المتضررون، ولا نجد من يعوضنا أو يوفر لنا فرصاً بديلة”.
إبراهيم، صاحب ورشة في شارع المكافحة، يشدد على ضرورة أن توفر الحكومة حلولاً بديلة للمتضررين من إزالة التجاوزات: “نعم، الفوضى كانت كبيرة في المدينة، ولكن يجب أن تكون هناك خطة بديلة لنا. أليس من الأفضل أن توفر الحكومة أماكن بديلة قبل أن تبدأ بالإزالة؟
إصلاح متأخر أم معالجة جذرية؟
تشكّل حملة إزالة التجاوزات التي أطلقتها أمانة بغداد مؤشراً واضحاً على تحوّل في مقاربة الدولة للملف الحضري، من سياسة التغاضي والتراكم إلى استراتيجية التصحيح والتنظيم. فالعاصمة العراقية، التي نمت عشوائياً على مدار عقدين، باتت اليوم في أمسّ الحاجة إلى قرارات شجاعة توقف النزيف التخطيطي وتستعيد ملامح مدينة تتآكل يومياً تحت ضغط الفوضى.
ورغم قانونية هذه الإجراءات، إلا أن توقيتها وطريقتها يثيران مخاوف مشروعة لدى شريحة واسعة من السكان الذين ارتبطت مصادر رزقهم أو مساكنهم بهذه التجاوزات. فهل يمكن لإصلاح حضري أن ينجح إن لم يراعِ المعادلة الاجتماعية؟
الجذور.. من أين بدأ التدهور؟
منذ سقوط النظام السابق عام 2003، شهدت بغداد انفجاراً سكانياً غير منظم، تقابله مؤسسات بلدية شبه غائبة، وبيئة قانونية هشّة في ما يتعلق بإدارة الأرض. هذا التزاوج بين التمدد العشوائي وضعف الدولة أفرز مع الوقت ما يُشبه "الواقع البديل"، حيث نشأت أسواق ومساكن وخدمات خارج إطار القانون، لكنها باتت واقعاً يومياً معاشاً لا يمكن تجاوزه بجرافة وحملة أمنية فقط.
خطوات صحيحة.. ولكن ناقصة
من الناحية الفنية، تبدو الحملة مدروسة في خطواتها: إنذارات رسمية، مراحل تنفيذ واضحة، عدم تسجيل أضرار بشرية، واستهداف التجاوزات غير المعيشية. لكن ذلك لا ينفي أنها ما تزال تفتقر إلى خطة "ما بعد الإزالة". فماذا بعد رفع السوق العشوائي؟ وأين يذهب مئات الباعة ممن لا مأوى ولا وظيفة لهم؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تحدد إن كانت الحملة ناجحة أم مجرد بداية لأزمة جديدة.
حق الدولة لا يلغي مسؤولياتها
قانونياً، تمتلك الدولة الصلاحية الكاملة لإزالة أي تعدٍّ على الممتلكات العامة، بحسب ما أكده الخبير محمد جمعة. لكن القانون لا يُفترض أن يكون أداة صمّاء، بل وسيلة لتحقيق مصلحة عامة متوازنة. فالتنمية لا تعني تهجير الناس، والتنظيم لا يعني سحق الفقراء. الدولة، وإن كانت تمارس حقاً قانونياً، تبقى مطالَبة بخلق حلول موازية: أسواق بديلة، تعويضات مالية، برامج تدريب مهني، وخطط إسكان تتماشى مع الواقع الاقتصادي.
انعكاسات اجتماعية
التفاعل الشعبي مع الحملة يعكس الانقسام الطبقي والاقتصادي في المجتمع. فبينما يرى بعض المواطنين في الحملة بارقة أمل في استعادة النظام والجمال للمدينة، يشعر آخرون بالخذلان والتهديد المباشر لأرزاقهم. هذا الانقسام يمكن أن يتحوّل إلى شرخ إذا لم يُعالَج بمقاربة شاملة لا تكتفي بالإزالة، بل تبني على أنقاضها حلولاً عادلة.
إعادة تشكيل المدينة
ما يحدث اليوم هو فرصة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والفضاء العام، بين المواطن والمدينة. الحملة لا يجب أن تكون مجرد تنظيف للشوارع، بل انطلاقة نحو رؤية متكاملة لبغداد كعاصمة حضارية. وهذا يقتضي أن تكون الحملات جزءاً من مشروع وطني واضح المعالم: خارطة إسكانية، تخطيط مستقبلي، بنى تحتية حديثة، وعدالة في توزيع الخدمات.
التوصيات:
-توفير بدائل فورية: إنشاء أسواق نظامية للباعة المتضررين، مع إعفاءات ضريبية ودعم لوجستي.
-خطط إسكان مستدامة: تطوير برامج إسكان لذوي الدخل المحدود.
-مشاركة مجتمعية: إشراك المواطنين ومنظمات المجتمع المدني في صياغة قرارات الإزالة والتنمية.
-تقييم تأثيرات الحملة: إجراء دراسة ميدانية لقياس الأثر الاجتماعي والاقتصادي للإجراءات، وتصحيح المسار إذا لزم.
بين التنظيم والفوضى، بين القانون والواقع، تقف بغداد أمام مفترق طرق حساس. فإما أن تنجح الحملة في تحويل الأزمة إلى فرصة، أو تسقط في فخ التجاوز على الإنسان باسم تجاوز الأرض. وحدها الإرادة السياسية المتوازنة، المدعومة برؤية اجتماعية عادلة، قادرة على حسم هذا التحدي لصالح مستقبلٍ حضري أفضل.