خنق رقمي في زمن الامتحانات.. لماذا يُصر العراق على قطع الإنترنت رغم الخسائر الاقتصادية والانتقادات الحقوقية؟”

انفوبلس/..
في تكرار سنوي بات مألوفًا بقدر ما هو مثير للجدل، أعلنت وزارة الاتصالات العراقية قطع خدمة الإنترنت لمدة ساعتين يوميًا ابتداءً من يوم الثلاثاء الموافق 20 أيار/مايو، تزامنًا مع انطلاق امتحانات الصف الثالث المتوسط.
قرار القطع – الذي يبدأ من السادسة صباحًا حتى الثامنة – جاء كما في كل عام بناءً على “توجيهات عليا” وبطلب مباشر من وزارة التربية، في محاولة لمنع تسريب الأسئلة ومكافحة الغش الإلكتروني. لكن هذه الخطوة، التي تحولت إلى “طقس رسمي” في مواسم الامتحانات، أثارت من جديد زوبعة من الأسئلة حول جدواها، وتبعاتها، ومكان العراق على خارطة الحقوق الرقمية عالميًا.
*قطيعة متكررة وتكلفة باهظة
وفقاً لتقارير دولية متخصصة، فإن العراق سجل أعلى عدد من عمليات قطع الإنترنت في العالم خلال العام 2023، بواقع 66 مرة، معظمها مرتبطة بفترات الامتحانات العامة. وأدى ذلك إلى خسائر تجاوزت مليار دولار، بحسب دراسة صادرة عن موقع “Top10 VPN”، المتخصص في تتبع خدمات الإنترنت على مستوى العالم.
تقرير آخر لموقع “Access Now” البريطاني أكد أن العراق خسر في إحدى موجات القطع حوالي 1.4 مليون دولار في أيام معدودة، نتيجة لتوقف النشاط الاقتصادي الرقمي وتعطّل المعاملات الإلكترونية، فضلًا عن التأثيرات السلبية على قطاعات الإعلام، الأعمال، التجارة الإلكترونية، والخدمات الصحية والمالية.
كل ذلك يجري، في وقتٍ يتحدث فيه مسؤولون عن “اقتصاد رقمي” و”تحول إلكتروني”، في بلد ما زال يعتمد على حجب الإنترنت كوسيلة أولى لمكافحة تسريب الأسئلة، دون وجود حلول تقنية مستدامة أو سياسات وقائية فعّالة.
الوزارة: التوجيهات عليا والحلول محدودة
من جانبها، تُبرر وزارة الاتصالات العراقية هذا الإجراء بكونه “استجابة لتوجيهات أمنية وتربوية عليا”، مشيرة إلى أن القرار خارج إرادتها الفنية، وأن الوزارة تقوم فقط بتنفيذ ما يُطلب منها من قبل الجهات العليا المختصة.
لكن هذا التبرير لم يعد مقنعًا لقطاعات واسعة من المتابعين والمواطنين، خاصة مع تكرار التسريبات وفشل قرار القطع في تحقيق الغرض الأصلي منه، وهو منع الغش. ففي العام الماضي، وعلى الرغم من قطع الإنترنت، شهدت امتحانات الثالث المتوسط تسريبًا علنيًا لأسئلة مادة الرياضيات، ما اضطر وزارة التربية للاعتراف بالحادثة وتأجيل الامتحانات وسط سخط شعبي واسع.
انتهاك صارخ للمادة 19 من العهد الدولي
الحقوقي البارز فاضل الغراوي، رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، وصف قرار قطع الإنترنت بأنه “انتهاك صارخ للمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، والتي تكفل لكل شخص الحق في الحصول على المعلومات وتلقيها من خلال الوسائل الرقمية الحديثة، بما فيها الإنترنت.
وأكد الغراوي أن الخسائر الناجمة عن هذا الإجراء لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فحسب، بل تطال الحريات العامة، وتؤثر على سير الحياة الطبيعية للمواطنين، وتعيق تقديم الخدمات الحكومية والتجارية، بل حتى التغطية الإعلامية، في زمن يعتمد فيه العالم بأسره على الاتصال الفوري والتقنية الرقمية.
دعوات للتفكير خارج الصندوق
في كل موسم امتحانات، تتعالى أصوات المواطنين عبر مواقع التواصل الاجتماعي تطالب بإيجاد بدائل أكثر ذكاءً وأقل ضررًا من “القطع الشامل”. يقترح البعض استخدام تقنيات تشويش موضعية داخل قاعات الامتحان، أو رقابة إلكترونية ذكية، أو حتى تطبيق بروتوكولات مشددة في طباعة ونقل الأسئلة.
لكن الحكومة، حتى الآن، تبدو وكأنها لا تثق بأي من هذه البدائل، متمسكة بقرار القطع كـ “عصا غليظة” تستخدمها عند الحاجة، متجاهلة أن التحديات الحديثة تتطلب حلولًا أكثر مرونة وابتكارًا.
يقول الخبير في الاتصالات الرقمية علي عدنان: "حين تلجأ الدولة لقطع الإنترنت بسبب عجزها عن ضبط تسريب الأسئلة، فهي بذلك تعلن فشلها مرتين: مرة في حماية الامتحانات، ومرة في حماية الاقتصاد الرقمي للمواطنين”.
خسائر بالملايين مقابل أمنٍ وهمي؟
بحسب تقديرات اقتصادية غير رسمية، فإن كل ساعة من قطع الإنترنت في العراق تكلف السوق ما بين 200 إلى 300 ألف دولار، خصوصًا في قطاعات تعتمد على الحجز الإلكتروني والدفع عبر الإنترنت، مثل السياحة، التجارة، شركات النقل، المصارف، والخدمات التقنية.
وفي ظل هذا الواقع، باتت الأسئلة أكبر من مجرد تقييم نجاح الإجراء من عدمه، بل باتت تطال منظومة كاملة من التفكير المؤسساتي، ومدى جدية الحكومة في بناء دولة رقمية حقيقية، تُوازن بين متطلبات الأمن التربوي وحقوق المواطن في الوصول إلى المعلومات.
ردود أفعال الشارع: تعبنا من “عذر الغش”
المواطن ليث كريم، يعمل في شركة برمجيات محلية، يقول: "كل سنة نفس الحكاية: يقولون نقطع النت حتى ما تتسرب الأسئلة، بس الأسئلة تتسرب، والنت يروح، والشركات تخسر، والمعاملات تتوقف، وهواي ناس تتضرر. ليش نكرر نفس الخطأ؟”.
أما نوال حيدر، صاحبة محل بيع عبر الإنترنت، فتشير إلى أن أيام الامتحانات تحوّلت إلى “كابوس تجاري”: "أنا أبيع من خلال الإنستغرام والواتساب، وكل شيء يوقف ساعتين، أحياناً الزبائن يلزمون غير محل لأنهم ما يعرفون ليش ما جاوبت. يعني منو يعوضنا؟”.
قطع الإنترنت لم يعد مجرد قرار إداري، بل أصبح اختبارًا يوميًا لجدية العراق في الانضمام إلى منظومة العالم الرقمي. وبينما تتجه الدول إلى تشفير بياناتها وحماية منصاتها وتحقيق الأمن الرقمي، ما زال العراق يقف عند عتبة “الفصل اليدوي” عن العالم، وكأنه يعاقب نفسه كل عام.