رقابة غائبة وترنح ثقافي.. مفاهيم "الجندر" الغربية تتسلل بهدوء إلى مناهج الدراسة في العراق

انفوبلس..
في تصاعد جديد للجدل حول محتوى المناهج الدراسية في العراق، أُثيرت مخاوف مجتمعية عقب اكتشاف فقرات تعليمية في كتاب مدرسي تشير إلى مفاهيم “الهوية الجندرية” والضمائر المحايدة، ما فتح الباب لتساؤلات حادة بشأن الرقابة التربوية، ومدى انسجام المواد التعليمية مع القيم الدينية والاجتماعية والقوانين العراقية النافذة.
عادت إلى الواجهة قضية “الجندر” في المناهج الدراسية، بعد اكتشاف كتاب تعليمي مخصص لمدارس “الموهوبين”، يتضمن محتوى يشير إلى مفاهيم “الهوية الجنسية” غير المحددة، واستخدام ضمائر بديلة عن “هو” و”هي”، مثل ze، في سياق نشاط لغوي باللغة الإنكليزية، بما يتعارض مع التعليمات والقوانين النافذة.
وتُظهر الصفحة “72” من كتاب اللغة الإنكليزية/ مادة النشاط لمدارس الموهوبين للصف الخامس الثانوي، فقرة تناقش أسلوب “التربية المحايدة جنسيا”، من خلال قصة طفل يدعى “ماكس” لا يُعرف على أساس جنسه البيولوجي، بل يُربى بطريقة تتيح له هو اختيار هويته لاحقا.
وتتضمن الصفحة أيضا إشارة إلى استخدام ضمائر بديلة مثل “ze” إلى جانب الضمائر التقليدية (he /she)، في ما يفهم على أنه إدخال تدريجي لمفاهيم “اللا تمييز الجندري” ضمن سياق تمرين لغوي، إذ ترافق الفقرة صور توضيحية لأطفال يرتدون ملابس لا تتوافق مع جنسهم، إضافة إلى أسئلة موجهة للطالب تتعلق برأيه في هذه التربية، ومدى تأثيرها على شخصية الطفل.
تعليق التربية
من جانبه، يقر المتحدث باسم وزارة التربية، كريم السيد، بوجود فقرات تتعلق بمسألة الجندر في أحد المناهج الدراسية، لكنه يقول أيضا، بأنه “قديم تم حذفه من المنهج”.
ويؤكد السيد، أن “الوزارة اتخذت الإجراءات القانونية، وتم حذف الموضوع من المادة، وفق سياقات العمل في مؤسسات الدولة”، مشددا على أن “التزام الوزارة بما تقرره الحكومة، وفق القوانين والتشريعات العراقية”.
ويبين أن “الوزارة حريصة على خلو المناهج الدراسية من أي مواد تتعارض مع القوانين النافذة، مع مراعاة الخصوصية الدينية والاجتماعية لثقافة المجتمع العراقي”.
ولكن وبعكس كلام السيد، ووفقاً لأولياء أمر، فإن هذه الصفحة ما زالت موجودة ضمن النسخة المعتمدة من الكتاب، إذ تظهر في الطبعة الصادرة عام 2022، المعنونة باسم Headway -المستوى المتقدم- النسخة الخامسة، والمخصصة لمدارس الموهوبين، وهي من إصدار جامعة أوكسفورد ومطبوعة في الصين.
الشرارة الأولى
وتفجّر الجدل الواسع حول مفاهيم “الجندر” و”النوع الاجتماعي” في العراق عام 2023، إذ انطلقت الشرارة من تداول استمارات حكومية رسمية تتضمن مصطلح “النوع الاجتماعي”، ما أثار استغراب أوساط دينية وسياسية واجتماعية، تبعه ظهور فيديو قديم لرئيس تيار الحكمة عمار الحكيم يتحدث فيه عن دعم “ثقافة الجندر”، وهو ما قوبل بحملة انتقادات واسعة وغير معتادة ضد شخصية دينية من هذا الوزن.
وفي تموز يوليو من العام نفسه، أصدرت الأمانة العامة لمجلس الوزراء تعميما يُلزم باستبدال مصطلح “النوع الاجتماعي” بعبارتي “الرجل والمرأة”، انسجاما مع الدستور والقيم الاجتماعية، وهو ما مثّل أول موقف حكومي رسمي يضع ضوابط على استخدام المفهوم داخل مؤسسات الدولة.
من جانبه، يؤكد الخبير القانوني وليد الشبيبي، أن “إدخال مفاهيم غريبة ومرفوضة إلى المناهج الدراسية يعد خرقا صريحا للقوانين النافذة والنظام العام والآداب”.
ويردف الشبيبي، أن “مثل هذه القضايا تمثل مسؤولية مباشرة لمجلس النواب وجهاز الادعاء العام، الذي يتوجب عليه التدخل الفوري للتحقيق في طبيعة هذه المناهج، باعتبار أن مسؤولية الإشراف على المحتوى التعليمي تمثل سياسة دولة لا تحتمل التهاون أو الإهمال”.
ويطالب بـ”تحقيق عاجل وشامل يحدد مكامن التقصير داخل وزارة التربية، وإنزال العقوبات المناسبة في حال ثبوت الإهمال أو التورط المتعمد”، مؤكدا أن “أولياء الأمور لهم الحق القانوني في تقديم شكاوى ضد الوزارة، كما أن الأمر يتطلب حراكا جماعيا من الأهالي والإعلام لتحويل القضية إلى رأي عام وطني يضمن محاسبة كل من يعبث بمستقبل الطلبة”.
ويعد الخبير القانوني، تسريب مثل هذه المفاهيم إلى البيئة التعليمية “تهديدا مباشرا لبنية المجتمع العراقي، ويؤسس لأجيال مشوهة فكريا يصعب إصلاحها لاحقا”.
وأظهر كتاب رسمي صادر عن المديرية العامة للمناهج في وزارة التربية، بتاريخ 2023/5/9، موجه إلى المديريات العامة للتربية في محافظات العراق، حيث يطلب الكتاب ترشيح معلمين ومعلمات لحضور ورشة تدريبية ضمن الخطة التدريبية لمناهج اللغة الإنكليزية للصف الأول الابتدائي، ويتضمن أحد شروط الترشيح “مراعاة الجندر (ذكر/ أنثى)”، وهي الصيغة التي أثارت ضجة واسعة عند تداول الوثيقة في منصات التواصل الاجتماعي.
كما تم رصد كتاب إرشادي موجه إلى المعلمين من قبل وزارة التربية، يتضمن بابا خاصا بعنوان “النوع الاجتماعي/ الجندر”، ويتناول مفاهيم تتعلق بإعادة النظر في الأدوار التقليدية للذكر والأنثى داخل البيئة التعليمية.
وتشير النسخة المتداولة من الدليل إلى توصيات تحث على “تجاوز الصورة النمطية للجنسين”، وتشجيع المعلمين على استخدام لغة أكثر حيادية في توصيف الذكور والإناث، بوصف الأنثى بـ”الكائن القوي”، والذكر بـ”العاطفي الحنون”، في محاولة واضحة لتقديم رؤية مغايرة للتمايز التقليدي بين الجنسين.
وقد أثار مضمون هذا الدليل موجة انتقادات عند ظهوره، خاصة مع استمرار الخلط المجتمعي بين المفاهيم الأكاديمية المرتبطة بـ”النوع الاجتماعي”، وتلك المرتبطة بالهوية الجنسية أو المثلية.
تعليق نيابي
من جهته، يرى النائب عارف الحمامي، أن “ما ورد في كتاب الصف الخامس لمدارس الموهوبين ربما كان غير مقصود من قبل كوادر وزارة التربية”.
ويؤكد الحمامي، “نحن على ثقة عالية بوزارة التربية وكوادرها”، مشيرا إلى أن “الوزارة كانت خلال السنوات الماضية حذرة في مراجعة المحتوى، لاسيما في المراحل الابتدائية والمتوسطة”.
ويوضح أن “هذا الموضوع مخالف للشريعة والعادات والتقاليد العراقية، لذلك لن يترك دون متابعة، وسيتم التعامل معه بالطرق القانونية والتربوية المناسبة”.
يذكر أن البرلمان العراقي صادق في نيسان أبريل 2024، على قانون يجرم العلاقات المثلية والتحول الجنسي بعقوبة تصل إلى 15 عاما، فيما انتقدت منظمة العفو الدولية القانون بسبب ما وصفته بـ”انتهاك حقوق الإنسان الأساسية”، معتبرة أن التعديلات التي تم اعتمادها “تشكل خطرا على العراقيين الذين يتعرضون بالفعل للمضايقات بشكل يومي”، في بلد محافظ تمارس فيه أقليات جنسية حياتها خفية.
تساؤلات حول دور الدولة
فتح الجدل المتجدد حول وجود مفاهيم "الجندر" في أحد مناهج مدارس الموهوبين باباً واسعاً على أزمة أعمق من مجرد فقرة في كتاب تعليمي، ليعكس خللاً مركباً في آلية فحص وإقرار المناهج، ويثير تساؤلات مشروعة حول قدرة الدولة العراقية على حماية البيئة التربوية من تسرب مفاهيم لا تنسجم مع القيم الاجتماعية والدينية السائدة في البلاد.
من أزمة نص إلى أزمة ثقة
رغم تأكيدات وزارة التربية بأن الفقرة المثيرة للجدل قد أُزيلت، إلا أن استمرار وجودها في النسخ المعتمدة بحسب أولياء الأمور، يضع الوزارة أمام اتهام مباشر بالعجز عن ضبط محتوى يُفترض أنه يخضع لمراجعة صارمة قبل وصوله إلى الطلبة. ويعزز هذا الاتهام ما ظهر لاحقاً من أدلة على تداول كتب ودلائل تربوية تتضمن إشارات صريحة إلى مصطلحات مثل "النوع الاجتماعي"، و"الحياد الجندري"، مما يدل على أنها لم تكن مجرد زلة أو سهو عابر.
ولعل الأشد وقعاً هو تكرار هذه التسريبات في أكثر من وثيقة رسمية، ما يبرر تنامي شعور شعبي بأن هناك جهات داخل المؤسسات التعليمية تحاول تمرير أجندات فكرية دخيلة، إما عن قصد أو نتيجة تبني مناهج مستوردة دون تمحيص كافٍ.
غياب الفلترة الثقافية
تسلط القضية الضوء على ثغرة جوهرية في النظام التربوي العراقي، تتعلق بتبني مناهج أجنبية، خصوصاً تلك الصادرة من مؤسسات تعليمية في أوروبا أو أمريكا الشمالية، دون أن تخضع لفلترة معرفية تحترم الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمع العراقي.
وهو ما أظهره تحديداً كتاب "Headway" المستخدم في مدارس الموهوبين، والذي يتضمن قصصاً وأنشطة لغوية تتعامل مع مفاهيم الهوية الجندرية بحيادية، في سياق يهدف بحسب فلسفة مؤلفيه إلى "تعزيز التسامح والتنوع"، لكنه يُترجم في السياق العراقي إلى ترويج لمفاهيم مثيرة للانقسام ومهددة للتماسك الاجتماعي.
السلطة التشريعية.. والتقصير الرقابي
ورغم إقرار البرلمان لقانون يجرم العلاقات المثلية والتحول الجنسي، بعقوبات مشددة، فإن استمرار تسرب هذه المفاهيم إلى مناهج رسمية، يثير تساؤلات حول التناسق بين التشريعات وسلوك المؤسسات التنفيذية.
فمن المفترض أن تكون مناهج التربية انعكاساً مباشراً للتوجهات الوطنية والسياسات العامة، لا منفذاً لخطابات أيديولوجية عالمية تتعارض مع الدستور العراقي. وهنا تظهر دعوة الخبير القانوني وليد الشبيبي لمجلس النواب وجهاز الادعاء العام للتحقيق في "الخرق الصريح" كما وصفه، دعوة مشروعة تتطلب تحركاً برلمانياً عاجلاً.
من السكون إلى المواجهة
أظهرت القضية تحوّلاً في تعاطي المجتمع مع قضايا التعليم، فبعد سنوات من التسليم الصامت بسياسات الوزارة، بدأ أولياء الأمور يطالبون بحقهم في مراقبة ما يُدرّس لأبنائهم، وهو ما تجلى في فضح مضمون الكتاب المذكور عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا التحول يحمل دلالة إيجابية على بدء تشكّل وعي جمعي بأهمية المحتوى التعليمي في تشكيل وعي الأجيال القادمة، ويؤسس ربما لحراك مدني فاعل في مجال إصلاح التعليم، ينطلق من الداخل المجتمعي وليس من ضغوط حزبية أو خارجية.
بين الانفتاح والعزلة
المفارقة في القضية، أن العراق يعيش في بيئة إقليمية وعالمية تشهد تشظياً ثقافياً بين خطاب محلي محافظ وخطاب عالمي ليبرالي. وهذا ما يجعل الدولة في موقف صعب: فالتربية الحديثة تحث على مفاهيم المساواة والتنوع واحترام الهويات المختلفة، لكن تطبيقها في بيئة محافظة قد يُفهم على أنه تغريب أو تفكيك للمنظومة الأخلاقية والدينية.
ومن هنا فإن التحدي لا يكمن في "منع الجندر" أو "قبوله"، بل في بناء سياسة تعليمية متوازنة، تتيح للطلبة التفاعل مع العالم الخارجي دون التفريط بهويتهم الوطنية والدينية.
نحو إصلاح تربوي عميق
ملف "الجندر" في المناهج الدراسية ليس حادثة عابرة، بل جرس إنذار يُحذر من مخاطر استيراد المعرفة دون غربلة، ويؤكد أن المعركة الحقيقية في العراق ليست فقط على الأرض أو في السياسة، بل في قاعات الدرس والمناهج.
ولعل المطلوب اليوم، ليس فقط محاسبة من تسبب بهذه الفقرة، بل فتح ملف شامل لإصلاح التعليم في العراق، يبدأ بتدقيق شامل للمناهج، ويمر عبر تعزيز دور الرقابة المجتمعية، وينتهي بإنتاج مناهج وطنية حديثة تُراعي ثوابت البلاد، دون أن تعزل الطالب عن العالم.
وفي خضم هذا الجدل، تبقى الحقيقة الأهم أن تربية الأجيال ليست فقط مسؤولية وزارة التربية، بل مسؤولية مجتمع بأكمله، يُفترض أن يكون هو المرجع الأول لما يُزرع في عقول أبنائه.