"ستارلينك" الأمريكية تحت المجهر: ماذا يعني دخول الإنترنت الفضائي إلى العراق؟
انفوبلس/ تقرير
في عصر باتت فيه شبكة الإنترنت شريان الحياة اليومية، لم تعد الاتصالات مجرد خدمة تقنية، بل تحولت إلى أداة سيادية تتحكم بها الدول في السلم والحرب على حد سواء. وخلال السنوات الأخيرة، لجأت حكومات عدة إلى قطع الإنترنت أو تقييده كوسيلة للضغط السياسي أو السيطرة على تدفق المعلومات، خصوصًا في أوقات الأزمات والاحتجاجات أو النزاعات العسكرية. ومن أبرز الأمثلة ما جرى في قطاع غزة ليلة 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين تم قطع الاتصالات والإنترنت بشكل شبه كامل بالتزامن مع عمليات عسكرية واسعة.
في مواجهة هذا الواقع، ظهر ما يُعرف بالإنترنت الفضائي كخيار بديل قادر على كسر الاحتكار الحكومي لشبكات الاتصال، ما جعله محط اهتمام عالمي ليس فقط من الناحية التقنية، بل أيضًا من الزاوية السياسية والأمنية. وقد أسهم الإنترنت الفضائي في إلقاء الضوء على الحرب الروسية على أوكرانيا ومتابعة مجرياتها بعدما قطعت موسكو الإنترنت في عدة مناطق بأوكرانيا، إذ قدمت "شركة ستارلينك" خدمات الإنترنت للأوكرانيين.
ومع إعلان شركة ستارلينك الأميركية استعدادها لتشغيل خدماتها في العراق، عاد الجدل بقوة: هل يمثل الإنترنت الفضائي فرصة تنموية حقيقية، أم خطرًا سياديًا قد يفتح أبوابًا معقدة على الأمن الوطني؟
ما هو الإنترنت الفضائي؟
الإنترنت الفضائي هو شبكة اتصالات توفر تغطية عالمية عبر الأقمار الصناعية، وتمكن المستخدمين من الوصول إلى الإنترنت في أي مكان على الكرة الأرضية، حتى في المناطق النائية التي لا تتوافر فيها بنية تحتية أرضية للاتصالات. وتتمثل أهم مميزاته في تجاوز القيود المحلية و"الرقابة" التي قد تفرضها بعض الحكومات على شبكات الإنترنت التقليدية.
ظهرت فكرة الإنترنت الفضائي منذ بدايات ظهور شبكة الإنترنت و"الويب"، لكن تكلفته المرتفعة حدّت من انتشارها. وخلال التسعينيات، حاولت شركات مثل "تيلي ديسيك" و"إريديوم" و"غلوبال ستار" إطلاق خدمات الإنترنت عبر أقمار صناعية، لكن مشاريعها باءت بالفشل بسبب الكلفة العالية وصعوبات التشغيل. مع تطور التكنولوجيا وظهور شركات مثل "سبيس إكس" و"أمازون" و"ون ويب"، عاد الاهتمام بالإنترنت الفضائي بقوة، مستفيدًا من الأقمار الصناعية منخفضة المدار التي تقدم خدمات أسرع وأكثر استقرارًا مقارنة بالمراحل الأولى للتجربة.
شركة "ستارلينك" التابعة لمجموعة "سبيس إكس" تُعد الرائدة في هذا المجال، حيث تسعى لتوفير الإنترنت الفضائي عالميًا، مع خفض التكلفة وتحسين السرعة لتنافس الشبكات الأرضية التقليدية.
كيفية عمل الإنترنت الفضائي
يتكون نظام الإنترنت الفضائي من عدة عناصر رئيسية: الأقمار الصناعية، المحطات الأرضية، وأجهزة استقبال المستخدمين التي غالبًا ما تكون عبارة عن طبق هوائي مزود بجهاز إرسال واستقبال. في الظروف الطبيعية، توفر شركات الاتصالات المحلية الإنترنت للمستخدمين عبر كابلات دولية تمر عبر منافذ حكومية، ما يسمح للدولة بالرقابة والسيطرة على الشبكة. أما الإنترنت الفضائي، فيصل مباشرة من شبكة الإنترنت العالمية إلى المستخدم، متجاوزًا الرقابة الحكومية وبنية الاتصالات الأرضية، ما يتيح الاتصال دون قيود، لكنه يخلق أيضًا تحديات أمنية وسيادية.
هناك عدة أنواع للإنترنت الفضائي:
اتصال ثنائي الاتجاه: يسمح بإرسال واستقبال البيانات عبر الأقمار الصناعية، لكنه مكلف ويتطلب معدات متقدمة.
اتصال أحادي الاتجاه: يستقبل البيانات من الأقمار الصناعية ويُستخدم عادة في المناطق النائية، مع إرسال بيانات محدود عبر شبكة أرضية.
بث أحادي الاتجاه: يشبه عمل التلفزيون أو الراديو، لا يوفر اتصالًا كاملًا بالإنترنت ولا يسمح بالتحكم الكامل في البيانات.
الفوائد التقنية للإنترنت الفضائي
يمكن للإنترنت الفضائي تقديم عدة فوائد للعراق، أبرزها: تغطية شاملة إذ يصل الإنترنت إلى المناطق النائية والريفية التي تفتقر للبنية التحتية. واستقرار الاتصال حيث يوفر الإنترنت الفضائي اتصالاً مستقراً حتى في حالات الكوارث الطبيعية أو تعطل الشبكات الأرضية. إضافة الى دعم القطاعات الحيوية، إذ يمكن استخدامه في التعليم عن بعد، الصحة الإلكترونية، المراقبة البيئية، وتطبيقات النقل الذكي. وكذلك كسر الاحتكار الحكومي أو التقني، حيث يمكّن الشركات والمواطنين من الوصول إلى الإنترنت دون الاعتماد الكامل على مزودي الخدمة المحليين.
وعلى الرغم من المزايا، هناك تحديات تقنية وأمنية، منها تكلفة عالية، حيث إن أجهزة استقبال الإنترنت الفضائي لدى ستارلينك تصل تكلفتها إلى نحو 600 دولار، مع اشتراك شهري يبلغ 110 دولارات. وكذلك التأثر بالطقس، إذ إن الأمطار والثلوج والعوائق المادية مثل المباني والأشجار قد تؤثر على جودة الإشارة. بالإضافة الى سرعة الاتصال، إذ رغم التطورات، قد تكون سرعة الإنترنت الفضائي أحيانًا أقل مقارنة بالشبكات الأرضية الحديثة، والاعتماد على تقنيات أجنبية، إذ يعرض الدولة لمخاطر سيادية إذا لم تُحكم إدارة الخدمة بشكل محلي صارم.
ستارلينك تدخل السوق العراقية
أعربت شركة سبيس أكس (ستارلينك) الأمريكية المتخصصة بتكنولوجيا الشبكات والمعلومات والاتصالات، يوم الخميس الماضي، عن جاهزيتها لتشغيل خدمة الانترنت الفضائي في العراق خلال مدة قصيرة.
جاء ذلك خلال لقاء رئيس مجلس الوزراء المنتهية ولايته محمد شياع السوداني وفداً من الشركة بحضور القائم بالأعمال الأمريكي لدى العراق جوشوا هاريس.
ووفقا لبيان صادر عن مكتب السوداني فقد جرت - خلال اللقاء - مناقشة المراحل النهائية لمنح تراخيص الإنترنت الفضائي ومنها لشركة سبيس أكس، وتعزيز التعاون في مجال الاتصالات والخدمات التي تقدّمها الشركة ومناطق تغطيتها.
ونقل البيان عن السوداني قوله، إن العراق حقق نقلة مهمة في مسار جذب الشركات العالمية المختلفة، وتأمين جميع متطلباتها واحتياجاتها، ومنها منظومات الانترنت الفضائي؛ لإدامة عملها وأنشطتها.
وأكد اهتمام الحكومة وحرصها على مواكبة تطور عالم تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، والتحول الرقمي من خلال التعاون مع شركة "سبيس أكس ودخولها إلى السوق العراقية التي تضم اليوم الكثير من الفرص الاستثمارية الواعدة.
من جانبه، أعرب وفد شركة سبيس أكس ستارلنك عن حرصهم واهتمامهم للعمل وتقديم الخدمات والتعاون في قطاع تكنولوجيا المعلومات، مؤكداً أنّ شركتهم جاهزة للتشغيل والعمل على توفير خدمة الإنترنت الفضائي خلال فترة وجيزة، بعد الحصول على رخصة العمل في العراق بشكل رسمي.
المخاطر السيادية والأمنية
رغم الفوائد التقنية، يحمل الإنترنت الفضائي مخاطر سيادية واضحة، ويقول الباحث في الشؤون الاستراتيجية والسياسية والأمن الإقليمي حسين عمران إن دخول ستارلينك يمثل خطرًا أمنيًا على العراق لأن ستارلينك بطبيعتها نظام اتصالات خارج عن سيطرة الأبراج الأرضية العراقية، وهذا يعني أنه لا يمر عبر شركات الإنترنت داخل العراق ولا يخضع للتجسس والمراقبة والتنظيم المحلي، ولا تستطيع الحكومة قطع الخدمة أو التحكم بها، كما أنه يعمل مباشرة عبر الأقمار الصناعية.
هذا النوع من الاتصال – بحسب عمران - يخلق مناطق معتمة أمنياً إذا استُخدم بلا تنظيم، لأنه يعطي قدرة لأي فرد أو جهة على الاتصال بالإنترنت بدون المرور ببنية الاتصالات العراقية، ويمكن أن يُستخدم من مجموعات مسلحة، شبكات مالية، أو جهات خارجية لتجاوز الرقابة، ويقلّل من قدرة أجهزة الاستخبارات على تتبع الاتصالات الرقمية، ويفتح الباب أمام "جزر اتصالية" غير خاضعة للدولة.
الباحث حسين عمران يؤكد أن الخطر لا يكمن في التكنولوجيا نفسها، بل في غياب الضوابط والتنظيم الحكومي الصارم. ولضمان السيطرة، يجب على العراق: ترخيص رسمي للخدمة، وتحديد الجهات التي يحق لها التشغيل، وربط الأجهزة بهويات المستخدمين، وتحديد نطاق التردد، واستخدام فلاتر وطنية، ومراقبة نقاط الدخول عبر الهيئة الوطنية للأمن السيبراني
إذا تم ذلك، يمكن أن يصبح الإنترنت الفضائي خدمة مشابهة للإنترنت التقليدي، مع جودة أعلى وانتشار أوسع، مع الحفاظ على السيادة الوطنية.
ويستخدم الإنترنت الفضائي اليوم في عدة دول، ضمن أطر منظمة ورسمية: الإمارات، والسعودية، وقطر والأردن، وتركيا (بشكل محدود وتحت التجربة)، وإسرائيل (وقد استخدمته عسكريًا في غزة تحديدًا)، وجهات استخدمته في النزاعات مثل الجيش الأوكراني، وكذلك منظمات الإغاثة في أفريقيا، وشركات نفط وغاز في الخليج، ومنصات تداول دولية تحتاج اتصالًا ثابتًا.
الدول التي سمحت باستخدام الإنترنت الفضائي عمدت إلى وضع قيود واضحة لضمان عدم فقدان السيطرة على الاتصالات، تشمل: تسجيل الأجهزة، وتحديد المناطق المسموح بها، والاشتراط بالمرور عبر فلاتر وطنية.
هل العراق قادر على ضبط الإنترنت الفضائي؟
الجواب نعم – بحسب عمران - بشرط التعامل مع الإنترنت الفضائي كملف سيادي وأمني، وليس مجرد خدمة تقنية. إذ يمكن للحكومة العراقية ضبطه من خلال تنظيم الترخيص ومراقبة التشغيل، وتحديد نطاق التردد، ومراقبة أجهزة الاستقبال وربطها بهويات المستخدمين، ووضع قيود على الاستخدام في المناطق الحساسة.
وبذلك يمكن للعراق الاستفادة من الإنترنت الفضائي في تطوير البنية التحتية الرقمية، وتعزيز الخدمات الإلكترونية، وتحسين الاتصالات في المناطق النائية، مع الحد من المخاطر الأمنية والسيادية المحتملة.
وفي النهاية يمكن القول إن الإنترنت الفضائي يشكل فرصة استراتيجية للعراق للارتقاء بالبنية التحتية الرقمية ودعم التحول الرقمي، خصوصًا في المناطق النائية والصناعات الحيوية. في الوقت نفسه، يحمل هذا النظام تحديات سيادية وأمنية كبيرة إذا لم تُحكم الدولة آليات الرقابة والتنظيم بشكل صارم.
يعكس دخول شركات مثل ستارلينك إلى السوق العراقية الحاجة لتوازن دقيق بين الاستفادة التقنية والالتزام بالضوابط الوطنية، لضمان استمرار الخدمة دون المساس بسيادة الدولة أو أمنها القومي.
ويمكن للإنترنت الفضائي أن يكون عامل تمكين للتنمية والابتكار، شرط أن تتحمل الحكومة مسؤولية وضع الأطر القانونية والفنية اللازمة لضمان السيطرة، وتجنب فتح أبواب قد تستغل داخليًا أو خارجيًا لتجاوز الرقابة الوطنية، ما يجعل هذا الملف من أولويات الأمن السيبراني والاستراتيجي للعراق في العقد القادم.


