شعار على سبورة.. مجزرة الكاظمية 1981 تروي قصة دولة تأكل أبناءها وتدفن الحقيقة بالصمت

انفوبلس..
في ذكرى مؤلمة تعود جذورها إلى عام 1981، جرى الكشف عن تفاصيل "مذبحة ثانوية الكاظمية"، حيث أدى شعار "يسقط صدام" مكتوب على سبورة الصف الرابع الإعدادي إلى اعتقال وإعدام 44 طالباً وتهجير 632 من ذويهم إلى مصير مجهول. المجزرة، التي وثّقتها اعترافات ضباط سابقين، تعكس وحشية نظام صدام القمعي، وسط مطالبات بإحياء الذاكرة ومحاكمة الجناة أمام العدالة.
تفاصيل دقيقة
وكشف رئيس جهاز الأمن الوطني، الخبير في شؤون الجماعات الإرهابية، عبد الكريم عبد فاضل "أبو علي البصري"، اليوم الثلاثاء، عن التفاصيل الأليمة بشأن تلك القصة، وقال في تصريحات صحفية: "بالرغم من أن (الشعبة الخامسة) في مديرية الأمن العامة كانت تتمتع بـ(قدرة مرعبة) على فرز وتنظيم المعلومات التي كانت تتجمع لديها عن حركات المعارضة والأصول الدينية والمذهبية عن الشخصيات المهمة؛ إلا أنها عجزت من الوصول إلى الطالب الذي كتب بيده شعار (يسقط صدام) على (سبورة) صف الرابع عام شعبة (دال) في ثانوية الكاظمية عام 1981، فصدرت الأوامر باعتقال جميع الطلبة في ذلك الصف، وذلك خلافاً للمبادئ الدولية والشرعية لعدالة الأحداث".
وأضاف، أنه "ولما كانت أوامر الاعتقال أو الاغتيال تصدر من صدام مباشرة - بحسب اعترافات اللواء السابق في مديرية الأمن العامة نعمة سهيل الدليمي - فإن (مديرية أمن بغداد استخدمت بتعليمات من الدكتاتور صدام حسين نفسه)، أبشع أساليب التعذيب والإذلال خلال اعتقال وإعدام جميع الطلبة البالغ عددهم 44 مراهقاً وبريئاً، والذين كانوا بأعمار 16 عاماً فما دون، وكذلك أيضاً استخدام الأساليب الإجرامية ذاتها خلال اختطاف نحو (632) مواطناً من آباء وأمهات وإخوة وأخوات وأقارب الطلبة الأبرياء من شوارع مدينة الكاظمية وإعدامهم ودفنهم في مقابر جماعية".
وبصدد التذكير بضحايا النظام المباد، قال البصري "إننا وذوو الشهداء، هذا اليوم الثلاثاء 20 أيار الجاري، نحيي ذكرى هذه المذبحة التي ارتكبها صدام وأجهزته المرعبة في 14 أيار عام 1981 والمكان ثانوية الكاظمية في بغداد التي ارتكبت فيها المجزرة والتي أزهقت فيها أرواح نحو (676) طفلاً وشاباً وشابة ورجلاً وامرأة وكبار السن"، مؤكداً "أهمية أن تتناول الكثير من المدارس والجامعات هذا الموضوع خلال الدروس، وطباعة الكتب التي تتناول السيرة التاريخية وبموضوعية لـ(مذبحة ثانوية الكاظمية)، بعد أن استغرق الأمر نصف قرن لإحيائها، ويجب رفض أي شكل من أشكال إنكار جرائم صدام وعقارب أجهزته القمعية، والمساعدة في منع التنظيمات الإرهابية من أن تنفذ إبادة جماعية في المستقبل".
إلى ذلك، بيّنت اعترافات اللواء السابق في مديرية الأمن العامة (الشعبة الرابعة - طلبة) نعمة سهيل صالح الدليمي، التي أدلى فيها أثناء التحقيق معه عن "نوايا كانت قائمة من جانب المجرم صدام وأجهزته القمعية لإفناء الجماعات المعارضة لنظامه البائد من خلال تهجيرهم إلى معسكرات الاعتقال ثم القضاء عليهم".
وبخصوص تفاصيل "مجزرة ثانوية الكاظمية"، قال المجرم الدليمي: إنه "خلال الساعات الأولى من صباح يوم الخميس 14 أيار 1981؛ قرع جرس الإنذار في مديرية أمن بغداد، وعلى الفور توجهت قوة كبيرة من ضباط ومراتب المديرية يقودها (المجرم علي عبد الله برع) مدعمة بفوج الطوارئ باتجاه (ثانوية الكاظمية للبنين)، يأتي ذلك على إثر بلاغ رسمي من قبل مدير الثانوية عن كتابة شعار (يسقط صدام) على إحدى (السبورات) في أحد صفوف الثانوية".
وأضاف أنه "بعد وصولنا بالقوة القادمة من المديرية تم تطويق الثانوية بالكامل واقتحامها، وبعد التحري عثرنا فعلاً في صف الرابع العام شعبة (دال) على (الشعار) وبكتابة واضحة".
وأكد المجرم، أنه "تم اعتقال جميع طلبة الصف الرابع الـ44 طالباً، وانسحبنا إلى مقر مديريتنا، وجرى فتح أبواب التحقيق على وجه السرعة وباستخدام كافة الأساليب القمعية الجسدية والنفسية بهدف انتزاع اعتراف الطلبة عن الطالب الذي قام بكتابة (الشعار)". واعترف الدليمي، أنه "برغم استخدامنا كل وسائل التعذيب والتدمير النفسي لم نحصل على أهدافنا بالتحقيق والوصول للطالب الذي كتب (الشعار)".
وذكر الدليمي: إن "صدام أبدى تذمره وصبَّ جام غضبه على المحققين وضباط المديرية والقوة الأمنية المنفذة للواجب ومعاقبة ضباطها وذلك لتأخرهم في اعتقال ذوي الطلاب وأقاربهم، الأمر الذي جعل اهتمامنا يصبُّ في خانة إرضاء المجرم صدام بأي شكل من الأشكال".
وأضاف "لذا، أعدَّت مديريتنا "أمن بغداد" خطة لاختطاف جميع ذوي وأقارب كل طالب يتم الإخبار عنه من قبل المخبرين تنفيذاً لتعليمات المجرمين صدام حسين وعلي حسن المجيد الناصري – علي كيمياوي (مدير الأمن العام 1984 – 1987) والعمل بالسياق المعروف بتنفيذ حكم الإعدام ميدانياً بحق المعتقلين المعارضين للنظام البائد".
ولفت المجرم الدليمي في اعترافاته، إلى أن "قرار إعدام الطلبة نُفذ بتاريخ 2 آب 1981 وحسب السياقات المتبعة والمتفق عليها بين المجرمين صدام وفاضل البراك الناصري (مدير الأمن العام 1976 – 1984)، على أن يكون تنفيذ الإعدامات من قبل الضباط والمحققين مباشرة وميدانياً (دون محاكمة) ودفنهم في مقابر جماعية دون محاكمات أو اعترافات".
وبخصوص ذوي وأقارب الطلبة؛ قال الدليمي: "لقد تم إعدامهم بالتسلل خلال ثلاث سنوات لغاية 1983، وذلك بالتسلسل الزمني، أي إنه كلما يتم اعتقال مجموعة منهم يجري تنفيذ الإعدام وحسب السياق المعمول"، مشيرا إلى أنه "تم إخفاء رفاتهم لمدة خمسة عشر عاماً ليتم تسليمهم إلى من تبقّى من أقارب كل عائلة ضمن تعليمات صدرت في عام 1996، وذلك للتخفيف من حالة الغضب والغليان التي سادت الأوساط الاجتماعية وعوائل الشهداء في المحافظات الجنوبية".
وتناشد عوائل شهداء "ثانوية الكاظمية" وذوو ضحايا "المقابر الجماعية" الحكومة العراقية ومجلس النواب إلى "تقديم ضباط الأجهزة القمعية للنظام المباد للمحاكم المختصة، ومطاردة الضباط والمحققين المسؤولين عن إعدام أبنائهم وتعذيبهم باستخدام أنواع الأساليب والضغوط النفسية لانتزاع اعترافاتهم الوهمية"، متهمين "رأس النظام المجرم صدام بافتعال الحادثة بهدف السيطرة على مدينة الكاظمية المقدسة".
الناجي الوحيد من "مذبحة الكاظمية" والد الشهيد (عبود عبد الوهاب حسن يعقوب)، قال إن "مسؤولية النظام المباد في التخطيط للجريمة واضحة، فقد تسلل أحد (عقارب الأمن) إلى صف الرابع شعبة (دال) وكتب (الشعار)، مستغلاً وجود الطلبة في ساحة الثانوية عند بدء الدوام صباحاً للمشاركة في (رفع العلم) المعتاد كل خميس"، مبيناً أن "ترتيب المذبحة بهذا الشكل كان يهدف لغرس الخوف والإرهاب بين الأوساط الاجتماعية والطلبة وزرع الفتنة على أساس طائفي في مدينة الكاظمية المقدسة".
وأشار الوالد المفجوع بنجله البريء، إلى أنه "منذ يوم اعتقال ولدي الشهيد في أيار 1981؛ وبعد مرور 4 عقود من الزمن على إعدام الشهيد، ما زلت آمل في تحقيق حلمي بإنزال القصاص العادل بحق المجرمين ضباط الأجهزة القمعية الذين اعتقلوا ولدي وكان لايزال فتى صغيراً بتهمة كتابة شعارات ضد الطاغية".
وتساءل الأب بغضب "إذا أُعدم ولدي في معسكرات الموت الصدامية بسبب شعار واحد لم يكتبه، فلماذا لم يعدم كل ضابط أو محقق أو منتسب للأجهزة القمعية ممن ارتكب جرائم القتل والتعذيب، وإنصافاً أن نتوقف دائماً عند علامات التحذير حتى لا تتحول جرائمهم إلى مزايدات سياسية لا تليق بالعراق وشعبه وحضارته وتاريخه الإسلامي".
وأضاف، أن "صدام مجرم وإرهابي وقاتل وطائفي، ولابد من اعتبار فترة حكمه أداة لتنفيذ الإبادة الجماعية التي تعرض لها أبناء الشعب على مدى 3 عقود من الزمن، ولابد من الكشف عن مصير أبنائهم وذويهم الضحايا ومكان دفنهم، ومحاكمة الضباط والمحققين المسؤولين عن قتل أكثر من 500 ألف مواطن في معسكرات الأمن ببغداد".
مشهد تمثيلي
وقبل نحو عام، أنتجت شبكة الإعلام العراقي وثائقي تمثيلي لتلك المجزرة يلخص الحادثة بتفاصيلها مع تضمينه شهادات لذوي الضحايا وشهود عيان عليها في ذلك الحين.
للاطلاع عليه اضغط هــنــا
عندما تصبح الكلمة جريمة
وتمثل "مذبحة ثانوية الكاظمية" واحدة من أكثر الفصول دموية في تاريخ النظام البعثي، ليس فقط لبشاعتها ودمويتها، بل لأنها تكشف نموذجاً مكثفاً عن طبيعة الحكم في عهد صدام حسين، القائم على الرعب المنهجي، وعبادة الفرد، وتجريم النية قبل الفعل. الحادثة التي بدأت بشعار كُتب على سبورة، تحولت إلى مجزرة جماعية طالت مئات الأبرياء، وجسّدت كيف يمكن لنظام شمولي أن يجعل من الخوف أداة حكم ومن الانتقام سياسة دولة.
في الأنظمة الاستبدادية، لا تُقرأ الكلمات كما هي، بل كما يُراد لها أن تُؤوَّل من قبل الحاكم. وعبارة "يسقط صدام"، التي كُتبت على سبورة صف دراسي في ثانوية الكاظمية للبنين، كانت كافية لتقود عشرات الأطفال والمراهقين إلى الإعدام دون محاكمة، ولتفتح شهية الأجهزة الأمنية لمطاردة أهاليهم حتى الإبادة. لقد قرأ النظام العبارة لا كصرخة غضب مراهق أو احتجاج عابر، بل كتهديد وجودي يجب الرد عليه بالدم.
محاكم غابت عنها العدالة
لم يُقدَّم أيٌّ من مرتكبي الجريمة إلى المحاكمة حتى اليوم، رغم توفّر الاعترافات العلنية من ضباط شاركوا في التنفيذ، وعلى رأسهم اللواء نعمة سهيل الدليمي، الذي لم يتردد في سرد وقائع الاعتقال، والتعذيب، والإعدام الجماعي، دون أي إشارة إلى محاسبة أو ندم. لا يزال كثير من المتورطين في تلك الجرائم أحراراً، وبعضهم عاد إلى العمل العام بعد 2003 بواجهات مختلفة. هذا الغياب للعدالة، لم يُسهم فقط في مضاعفة جراح ذوي الضحايا، بل أرسل رسالة خطيرة مفادها أن الجرائم يمكن أن تُنسى، بل وربما يُكافأ مرتكبوها.
في ظل موجات النسيان السياسي والاجتماعي التي تهيمن على المشهد العراقي، تأتي ذكرى "مجزرة الكاظمية" كتذكير قاسٍ لكنه ضروري. تذكير بأن الجرائم لا تُمحى بالتقادم، وبأن المصالحة لا تعني العفو عن القتلة، بل تبدأ بمحاسبتهم. لا يمكن بناء عراق عادل دون تصالحه مع ذاكرته الدموية، ولا يمكن الوقوف بوجه عودة الفكر الاستبدادي دون فضح تاريخه الدموي أمام الأجيال الجديدة.
هدف سياسي وطائفي
تحمل الكاظمية، المدينة ذات الرمزية الدينية الكبيرة، أهمية استثنائية في حسابات النظام السابق، الذي سعى دائماً للهيمنة على المناطق ذات الأغلبية الشيعية عبر القمع و"سياسات الترويع الجماعي". وتكشف شهادات الناجين وذوي الضحايا، بأن المذبحة لم تكن رد فعل على شعار، بل جزء من مشروع ممنهج لترهيب المكوّن الشيعي، وإسكات أي نزعة معارضة عبر تصدير الفوضى والدم إلى الحواضر الدينية والاجتماعية الحساسة.
ورغم مرور أكثر من أربعة عقود على الجريمة، ما زالت المجزرة خارج المناهج الدراسية، ولم تُوثّق رسمياً إلا من خلال مبادرات فردية أو وثائقيات محدودة. وتُعد دعوة رئيس جهاز الأمن الوطني بإدراج تفاصيل المذبحة ضمن المناهج التعليمية خطوة في الاتجاه الصحيح، فالمجتمعات لا تضمن منع تكرار الجرائم إلا حين تُدرَّس وتُناقش ويُعرّف بها الأجيال، لا حين تُهمّش وتُستبدل بالصمت.
منذ عام 2003 وحتى اليوم، طُرحت عشرات الملفات التي توثق جرائم النظام السابق، لكن المذبحة التي طالت 676 ضحية مباشرة، وامتدت لعوائلهم، لم تنل حقها من التحقيق الجنائي أو السياسي. السؤال الذي طرحه والد أحد الضحايا: "إذا أعدموا ولدي بتهمة كتابة شعار، لماذا لم يُعدم من قتل عشرات الأبرياء؟"، ليس مجرد تعبير عن حزن شخصي، بل إدانة واضحة لخلل بنيوي في منظومة العدالة الانتقالية التي لم تُنجز مهامها حتى اليوم.
مجزرة الكاظمية ليست مجرد جريمة تاريخية بل درس مستمر. إنها تقول بوضوح: عندما تغيب المساءلة، وتتحول أجهزة الدولة إلى أدوات قتل، يصبح المستقبل كله رهينة للماضي. وبين سبورة كتب عليها شعار، ومقبرة جماعية طُمست فيها الأجساد، يبرز الفرق بين دولة تحمي أبناءها، ودولة تفترسهم. وعلى العراق أن يقرر في أي صف يقف الآن: مع الذاكرة أم مع النسيان، مع العدالة أم مع الإفلات منها.