غياب شروط السلامة مع عدم ردع المخالفين يفاقم الكوارث.. تعرف على أسباب تكرار الحرائق في العراق
انفوبلس..
عند تكرار حادثة ما، يتم البحث في العوامل المشتركة التي تتسبب بها في كل مرة، وخلال العقد الأخير ازدادت الحرائق في العراق بشكل كبير، وفي كل مرة تسبب كارثة بشرية تلحق بالمئات من الأشخاص، وحتى مع وجود شبهات جنائية ببعض حوادث الحرائق، ويُعد غياب أجراءات السلامة السبب الرئيسي بحدوث أكبر خسائر ممكنة، ومع ذلك فإن هنالك قواعد يقرّها القانون لمنع حدوث كوارث كتلك إلا أن عدم الالتزام بهذه القواعد وعدم وجود جدّية بمحاسبة المخالفين يحول دون تجنب الحوادث قبل وقوعها.
فاجعة الحمدانية
حريق قاعة الأعراس في الحمدانية بمحافظة نينوى الذي خلَّف مئات القتلى والمصابين، ليلة الثلاثاء، أعاد مشهد الحرائق المتكرّرة التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، من بينها حريق "مستشفى ابن الخطيب" في بغداد و"مستشفى الحسين" في الناصرية بمحافظة ذي قار، بالإضافة إلى الحرائق التي اندلعت في مبانٍ ودوائر حكومية وغير حكومية شُيّدت بمواد بناء مخالفة لشروط السلامة، علماً أنّها خلّفت مئات القتلى والجرحى.
وعلى الرغم من تمكّن العراق من تشخيص أسباب تلك الحرائق بمعظمها، أي البناء بألواح سريعة الاشتعال وعدم استقرار التيار الكهربائي وعدم الالتزام بشروط وقواعد السلامة في المباني، فإنّ مثل تلك الحوادث ما زالت تتكرّر. فالجهات المسؤولة لم تتخذ أيّ إجراءات لمنع البناء المخالف للشروط الذي يمثّل تهديداً مستمراً باندلاع الحرائق.
وأفاد مدير إعلام الدفاع المدني العراقي العميد جودت عبد الرحمن، في مؤتمر صحافي بأنّ "حريق قاعة الأعراس في الحمدانية بمحافظة نينوى حصل نتيجة الإهمال والمخالفة للقاعة المبنيّة من ألواح سندويتش بانل وجبسوم بورد"، لافتاً إلى أنّ "الألعاب النارية كانت سبباً في انهيار جزئي للقاعة المخالفة المشيّدة بمواد مخالفة لشروط السلامة".
وشرح عبد الرحمن أنّ "السبب الرئيسي لكارثة حريق قاعة الأعراس في الحمدانية يعود إلى عدم توفّر شروط السلامة والأمان، وهذا الأمر يُسجَّل مع الأسف في مبانٍ كثيرة بالمدن العراقية، الأمر الذي يتسبّب دائماً في حرائق وخسائر كبيرة بشرية ومادية". ويضيف، أنّ "استخدام مواد رخيصة في البناء سريعة الاشتعال (على سبيل المثال) بالإضافة الى اختيار نقاط كهرباء رديئة من شأنهما أن يتسبّبا في حرائق بسبب تماس كهربائي، وهذه هي الحالة الأكثر تسجيلاً في العراق".
وبينما يعيد معنيون السبب الرئيسي في وقوع الحرائق بالمباني والمنشآت العامة إلى انعدام إجراءات السلامة وضعف وسائل الحماية مثل الإنذار المبكر ومنظومات الاستشعار والإطفاء، كشفت مديرية الدفاع المدني العراقية عن تسجيل أكثر من 19 ألف حريق منذ بداية عام 2023 الجاري في عموم محافظات البلاد، في حصيلة تؤكّد استمرار تفاقم أزمة الحرائق في البلاد.
ويحمّل مسؤول في مديرية الدفاع المدني الحكومة العراقية مسؤولية تلك الحرائق، إذ إنّها "لم تتّخذ أيّ إجراءات حقيقية لمحاسبة مخالفي شروط السلامة". ويقول مفضّلاً عدم الكشف عن هويته، إنّ "وضع المباني المخالفة للشروط خطر جداً"، مؤكداً أنّ "آلاف المباني الحكومية وغير الحكومية مشيّدة بألواح سندويتش بانل". ويعبّر عن خشيته إذ إنّ "هذه المباني، خصوصاً الحكومية منها، تغصّ بمئات الأشخاص يومياً، وسط غياب شروط السلامة".
ويُكمل، أنّ "التيار الكهربائي غير مستقر في عموم البلاد ويتسبّب في وقوع حرائق"، مبيّناً أنّه "بموازاة ذلك تأتي إمكانات مديرية الدفاع المدني ضعيفة جداً ولا تلبّي ما يتطلبه حجم تلك المخاطر، لجهة عديد المنتسبين إليها وأعداد الآليات وجودتها، الأمر الذي يزيد من حجم الخطر". ويبيّن أنّ "مديرية الدفاع المدني قدّمت تقارير عدّة للحكومة، وطالبت بوضع حلول ومعالجات لأسباب الحرائق، ودعم مديرية الدفاع المدني وتطوير قدراتها".
ويأسف المسؤول في الدفاع المدني لـ"عدم تسجيل أيّ استجابة من قبل الحكومة، ولإهمال الملفّ"، مؤكداً "لم نجد إلا الوعود غير القابلة للتنفيذ". ويحذّر من أنّ "استمرار إهمال الملف يعني استمرار مسلسل الحرائق والمآسي، وهذا أمر خطر جداً".
أمّا الخبير في الشأن الأمني أحمد الشريفي فيقول إنّ "المباني في العراق، بمعظمها، سواء أكانت حكومية أو غير ذلك، تخلو من شروط السلامة والأمان، وهذا بسبب ضعف الرقابة عليها من قبل اللجان المتخصصة". ويبيّن أنّها "تخلو من منظومات الإطفاء المركزية ومن ممرّات ومخارج الطوارئ، بالإضافة إلى أنّ احتواءها على مواد سريعة الاشتعال. وعلى الرغم من أنّ تلك المواد ممنوعة في مبانٍ مشابهة، فإنّ استخدامها يكثر نظراً إلى ثمنها المتدنّي".
وحذّر الشريفي من "احتمال وقوع ما حصل في قاعة الأعراس بالحمدانية في قاعات ومبانٍ أخرى في مدن عراقية مختلفة"، مشدّداً على ضرورة أن يكون هذا الحريق "درساً، مع وجوب وضع إجراءات صارمة لتطبيق شروط السلامة والأمان في كلّ المباني، الحكومية وغيرها".
في سياق متصل، يقول ناشط مدني إنّ "الفساد هو أبرز أسباب استمرار مسلسل الحرائق في البلاد"، مشيراً إلى أنّ "الحكومة والجهات المسؤولة لم تحاسب المسؤولين عن الحرائق التي وقعت في السنوات الأخيرة في عدد من المؤسسات والمباني الحكومية، على الرغم من أنّ لجان التحقيق التي تابعت الملفات كشفت إهمالاً كبيراً في تنفيذ شروط السلامة".
ويشرح أنّ "عدم محاسبة المقصّرين قضائياً تسبّب في استمرار التقصير والإهمال في معظم المباني التي لا تتوفّر فيها شروط السلامة، الأمر الذي أدّى إلى تكرار الحرائق". ويشدّد على ضرورة أن "تتحمّل الحكومة مسؤوليتها إزاء الملف وتحاسب المقصّرين والفاسدين، وألا تمضي في الاستهانة بحياة المواطنين".
ويرى العميد المتقاعد في دائرة الدفاع المدني العراقي أحمد ناجي أنّ "ضعف ثقافة العراقيين في ما يخصّ إجراءات الأمان سبب من أسباب اندلاع الحرائق"، ويشير إلى "الفساد الذي يضرب إجراءات الأمان والسلامة". ويوضح أنّ "صاحب الفندق أو المطعم أو القاعة قد يستصدروا تراخيص في مقابل مبالغ مالية تُقدَّم كرشوة ويُطلَق عليها محلياً تسهيل أمر. وفي النهاية، الضحايا هم الأبرياء الذين لا ذنب لهم".
ويشدّد ناجي على أنّ "الدولة تحتاج إلى إجراءات صارمة في ما يتعلق بمنح إجراءات السلامة، خصوصاً منظومات الحرائق ومخارج النجاة في حوادث الحريق، حتى لا يتحول المكان إلى فرن نار ودخان يقتل مَن فيه".
ويقول مصدر مطلع إنّ ضحايا حوادث الحرائق منذ مطلع عام 2023 الجاري يفوق عدد ضحايا الإرهاب وعنف الجماعات المسلحة والجرائم الأخرى بأضعاف عدّة، إذ قُتل وأُصيب حتى مساء الثلاثاء، منذ مطلع العام الجاري، أكثر من 500 عراقي بحوادث حرائق مختلفة بعموم مناطق البلاد.
وكانت مديرية الدفاع المدني قد أفادت، في مطلع عام 2023، بأنّ عدد الوفيات من جرّاء الحوادث التي شهدتها البلاد خلال ثلاث سنوات بلغ 855 شخصاً، محذّرة من أنّ العام الجاري سوف يشهد مزيداً من الحرائق، وسوف تكون أبرزها في الأبنية الآيلة إلى الانهيار، وسوف تزداد الخسائر إذ لم تُعالَج المشكلة.
وبالفعل، طالت تلك الحرائق مباني حكومية وأسواقاً ومراكز تجارية وغيرها. ويُعَدّ حريقا "مستشفى ابن الخطيب"في بغداد و"مستشفى الحسين" في ذي قار، اللذان وقعا في العام 2021، من أخطر تلك الحرائق وأضخمها، وقد خلّفا مئات القتلى والجرحى بين المرضى والكوادر الطبية والمراجعين.
رياض صباح، قريب ستّة ضحايا قضوا في قاعة العرس، يقول إنّ "ثمّة أُسراً كاملة قضت في الحريق ولم يخرج منها أحد"، مشيراً إلى أنّ "أطفالاً من أُسرة العروسين لقوا مصرعهم".
من جهته، يقول الناشط المدني ريان داوود، من بلدة قره قوش في الحمدانية حيث وقعت المأساة، إنّ "عدد الضحايا الدقيق ما زال مجهولاً، وثمّة جثثاً لا يمكن التعرّف على هوية أصحابها من دون فحص الحمض النووي". ويلفت إلى أنّ القاعة كانت قد تحوّلت إلى "كتلة نار ضخمة بسبب سقفها القابل للاشتعال".
تجدر الإشارة إلى أنّ مديرية الدفاع المدني سبق أن أقرّت بصعوبة التحديات التي تواجهها فرقها، نتيجة الحوادث اليومية المختلفة التي تُسجَّل في البلاد، مبيّنة أنّ ثمّة ضعفاً عاماً في المؤسسة. وقد حذّرت من أنّ إهمال المؤسسة يزيد من حجم مخاطر الحوادث اليومية.
أمانة بغداد وشروط السلامة
بتصريحات صحفية في شهر أيار الماضي، قال مدير عام دائرة العلاقات والإعلام في الأمانة محمد الربيعي، إن "رغبة أي صاحب مشروع ببناء مجمع سكني أو تجاري أو مطعم وغيرها من المشاريع تتطلب الحصول على موافقة دائرة التصاميم وهنالك لجنة خاصة تضع معاييراً لتطبيق شروط السلامة في المشاريع والمصانع".
وأضاف الربيعي، "وبناءً على ذلك من يريد بناء مصنع للغذاء أو غير ذلك يجب عليه أن يقدم تصاميمه وأخذ الموافقات من هذه اللجنة التي يتواجد فيها عضو ارتباط وكذلك هناك عضو مسؤول عن الجانب الفني يمثل مديرية الدفاع المدني في وزارة الداخلية وهذا يعني أن اللجنة تضم عضوية دائرة التصاميم في أمانة بغداد واللجنة المعنية بشروط السلامة زائداً بلدية منطقة المشروع سواء كانت المنصور أو الكرادة او الصدر وهكذا وكذلك عضوية الدفاع المدني".
وتابع، أن "هؤلاء يوقعون على الموافقات بسلامة البناء من ناحية التصاميم وشروط السلامة والتي تتضمن اتخاذ إجراءات أصولية ووجود غرفة حصينة ومصعد للهروب وسُلّم إضافي وعدم استخدام (السندويج بنل) في البناء كونه سريع الاشتعال، فضلاً عن تدقيق جميع التفاصيل قبل التصديق على المعايير".
وأضاف الربيعي، أن "هؤلاء المعنيين إذا لم يصادقوا على المعايير فلن يصدّق أمين بغداد على الموافقات الأخيرة، فلا بد من المصادقة على المعايير لتخرج الموافقة بالأوراق الأصولية، لكن للأسف يحصل أحيانا هو غض النظر عن الأوراق الأصولية في التنفيذ والمعنية بالتصاميم وشروط السلامة، تظهر للأسف عمليات الغش والمحسوبية وهذا الملف للأسف حصل فيه فساد كبير طوال عشرين عاماً".
شركة التأمين الوطنية تتحدث عن الفاجعة
قال مسؤول في شركة التأمين العراقية، إنه كان سيرفض التأمين على قاعة الهيثم التي شهدت فاجعة الحريق ليل الأربعاء، لو تقدم مالكها طلباً بذلك بسبب انعدام شروط السلامة، واستخدام مواد منخفضة الجودة في بنائها، مشيراً إلى أن الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، يقف وراء تراجع التأمين على العقارات والسيارات والبضائع في العراق، خلافاً لما كان عليه الوضع قبل 2003، حين كان القانون يلزم الجميع بالتأمين على كل شيء.
مدير القسم الإداري في شركة التأمين العراقية، إياد حسن كاظم، كشف أن قانون التأمين العراقي رقم 10 لسنة 2005، الذي وضعه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، نص على تحويل التأمين من إجباري إلى اختياري، ولم تجرِ عليه أي تعديلات لغاية الآن.
التأمين الاختياري كان وراء تراجع وعي المواطنين بأهميته الحفاظ على الممتلكات، خلافاً لما كان عليه الوضع قبل 2003؛ حينها كان التأمين ملزماً للجميع، ولا يمكن لأحد شراء عقار أو سيارة دون تقديم صك بأموال التأمين مودعة لدى مصرف حكومي.
الحصول على بطاقة التأمين يبدأ بملء استمارة خاصة تضم المعلومات الشخصية كافة للمواطن ومواصفات العقار أو الشركة أو أي شيء يُراد التأمين عليه.
الاستمارة تتضمن فقرةً لتقييم البضائع أو المحال أو الشركة المراد التأمين عليها، ونوع البناء والتفاصيل كافة التي تخص الأسعار بشكل دقيق، تقوم لجنة مختصة بمطابقتها مع نتائج الفحص الميداني.
التقرير يتضمن أيضاً معلومات دقيقة عن الموقع المراد التأمين عليه وسعره بشكل دقيق من خلال اللجان التي تقدره وتؤيد السعر المقدم من قبل المواطن، أو رفض السعر المقدم في الاستمارة، لتقديم سعر منطقي ومطابق.
بعد توقيع عقد التأمين، تقوم لجان الكشف بتقييم الإجراءات المتخذة بشأن شروط السلامة عبر تقرير مفصّل يُقدَّم إلى شركة التأمين، وفي حال عدم توفرها تعمل شركة التأمين على زيادة سعر التأمين على الموقع، أو فسخ العقد مع المستفيد.
في حال حدوث حريق أو سرقة ممتلكات مواطن يمتلك وثيقة التأمين وتكون نافذة وفق الشروط، فضلاً عن دفع قسط التأمين الشهري، تعمل الشركة على دفع مقدار الخسارة المتحققة جراء حدوث خطر مغطى بوثيقة التأمين خلال مدة التأمين.
أقساط التأمين تختلف حسب نوع البضاعة أو العقار المؤمَّن عليه، لكن دائماً ما ترفع المواد سريعة الاشتعال سعر التأمين.
بالنسبة للأبنية والمرافق الترفيهية التي تشبه قاعة الهيثم في الحمدانية، فإن قيمة التأمين السنوي تُقدر من قيمة العقار والبناء، إلى جانب نوعية المواد المستخدمة في البناء.
كلما كانت شروط السلامة مطابقة، فإن قيمة التأمين تُقدر بالحد الأدنى، لكن استخدام مواد مثل “السندويچ بانل” يرفع سعر التأمين إلى أقصاه.
تأمين البناء يحتسب بنحو 15 ألف دينار لكل مليون دينار من القيمة الفعلية، فإذا كانت قيمة البناء 100 مليون دينار فإن دفعة التأمين السنوية عليه تبلغ 150 ألف دينار.
تأمين الأثاث داخل العقار يُحتسب بنحو 3 آلاف دينار لكل مليون دينار من القيمة، تدفع سنوياً لشركة التأمين.
إذا كان البناء بالطابوق والسقف مسلح بالكونكريت، فإن سعر التأمين يكون هو الأقل، وإذا انخفضت المواصفات إلى مواد أقل جودة ترتفع رسوم التأمين، وفي حالة السندويچ بانل فإن الشركة هي من تقيّم القسط، لكنها لا تفضل الموافقة عليه.
في حالة قاعة الهيثم، التي شهدت فاجعة الحريق مساء الثلاثاء الماضي، فإنه من المستبعد كثيراً قبول التأمين عليها، على الأغلب سيُرفض التعاقد مع ملاكها، لكن إن وافقنا فإن الشركة ستضع رقماً عالياً دون شك.