محمد عيسى الخاقاني يغادر بصمت.. الباحث في إعدام الشهيد الصدر ومرافِق الوردي يطوي دفتر أيامه بالمنفى

انفوبلس/ تقارير
في التاسع والعشرين من تموز/يوليو 2025، غيّب الموت الدكتور محمد عيسى الخاقاني في العاصمة البريطانية لندن، عن عمر ناهز الستين عاماً، بعد مسيرة علمية وثقافية أغنت المشهد الفكري والأكاديمي العراقي والعربي. وقد شكّل رحيله خسارة كبيرة للمؤسسات العلمية، وللثقافة العراقية التي طالما دافع عنها بقلمه ومحاضراته ومجالسه.
سيرته
وُلد الدكتور الخاقاني عام 1963 في بغداد، ونشأ في بيئة علمية مشبعة بروح الدين والمعرفة، فهو نجل آية الله الشيخ عيسى الخاقاني، وتتلمذ روحياً وعقلياً على يد رمزين كبيرين من رموز الفكر العراقي المعاصر، هما الدكتور علي الوردي والدكتور حسين علي محفوظ.
وبفعل هذا التأثير المركّب بين الحوزة والجامعة، التقليد والحداثة، نشأ مشروعه الثقافي على ركائز متينة جمعت بين الأصالة والتجديد.
من العراق إلى المنفى: مسيرة أكاديمية واغتراب فكري
نال الدكتور محمد الخاقاني شهادة الدكتوراه في الأدب المقارن، وهو تخصص يعكس اهتمامه العميق بتقاطع الثقافات وتحليل النصوص عبر الأطر الحضارية المختلفة. بدأ مسيرته الأكاديمية في جامعة بغداد – كلية اللغات، قبل أن ينتقل إلى جامعة البحرين – كلية الآداب، حيث قدّم دروساً في الأدب والتاريخ، كما عمل محاضراً في التاريخ والشريعة في الجامعة الخليجية بمملكة البحرين.
لكن سنوات الحصار والملاحقات السياسية في عهد حزب البعث دفعته إلى الهجرة نحو بريطانيا، بعد مضايقات مستمرة بسبب انتماء عائلته المرجعي وعلاقته بـ الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض).
رغم ذلك، لم ينكفئ الدكتور الخاقاني في غربته، بل واصل رسالته في التأليف، والكتابة، والمشاركة الفاعلة في الندوات والمنصات الفضائية والثقافية.
مؤلفات حفر بها بصمته في الذاكرة العراقية
تميّز الدكتور الخاقاني بأسلوب تحليلي موضوعي، جعل من مؤلفاته مصادر مهمة في مجالات التاريخ والفكر السياسي. ومن أبرز أعماله:
"استثمار الدم: إعدام السيد محمد باقر الصدر": دراسة موضوعية في خلفيات الحدث وظروفه وسياقاته السياسية.
"مئة عام مع الوردي": قراءة تأريخية وفكرية لحياة ونظريات الدكتور علي الوردي، الذي كان له دور كبير في تشكيل وعيه النقدي.
"خلف القناع: إيران والولايات المتحدة – مئة عام بالوثائق": عمل بحثي نادر في توثيق العلاقات المتشابكة بين طهران وواشنطن، مستنداً إلى وثائق وتحليلات معمّقة.
إلى جانب كتبه، نشر الدكتور الخاقاني العديد من المقالات والدراسات الأكاديمية، التي عالجت قضايا الأدب المقارن، وتاريخ العراق السياسي والثقافي، كما ساهم بمقالات نوعية في جريدة "العهد" البحرينية، التي شغل فيها منصب رئيس التحرير، حيث فتح من خلالها نافذة للنقاشات الجادة في الشأن الثقافي والاجتماعي.
مجلس الخاقاني الثقافي: منبر الحوار ومختبر الأفكار
ومن أبرز بصماته الفكرية والاجتماعية، تأسيسه مجلس الخاقاني الثقافي في مدينة الكاظمية ببغداد، الذي تحوّل إلى ملتقى للنخب العلمية والدينية.
استضاف المجلس شخصيات مرموقة مثل الدكتور علي الوردي والعلامة حسين علي محفوظ، وغيرهم من الأكاديميين والمفكرين الذين أثرَوا الساحة العراقية بنقاشاتهم.
وقد تم توثيق العديد من تلك الحوارات، والتي تُعدّ اليوم جزءاً من الإرث الفكري الحي للدكتور الخاقاني.
حضور تلفزيوني وثقافي دائم
كان الدكتور الخاقاني ضيفاً دائماً على شاشات قنوات الإمام الحسين (عليه السلام) الفضائية، وشارك في العديد من البرامج الحوارية والتوثيقية، مقدّماً رؤى معمّقة وتحليلات دقيقة للمشهدين العراقي والإقليمي.
وقد انعكست هذه المشاركات على حضوره الجماهيري، ووسّعت دائرة متابعيه من داخل العراق وخارجه.
مزج التراث بالحداثة.. مدرسة فكرية مستقلة
تميّز الدكتور محمد الخاقاني بانتمائه إلى جيل من المفكرين والمثقفين الذين سعوا لدمج التراث الإسلامي بالحداثة الفكرية، فكانت أطروحاته دائماً تسعى إلى بناء جسر بين الماضي والحاضر، بين الأصالة والانفتاح على العالم. وقد شكّل هذا المزج القاعدة التي انطلق منها في تأليفه وتدريسه وحواراته العامة.
وبرحيله، فقدت الساحة الثقافية العراقية صوتاً عقلانياً وعميقاً، قدّم الكثير في صمت، وترك وراءه إرثاً مكتوباً وحضوراً فكرياً سيبقى علامة بارزة في تاريخ الثقافة العراقية المعاصرة.
رحيله.. وتدوينته الأخيرة
في الأيام التي سبقت وفاته، كتب الدكتور الخاقاني تدوينة مؤثرة على صفحته في فيسبوك جاء فيها:
"عند انتها المشوار، نقول أبرونا الذمة جميعاً"، في إشارة واضحة إلى إحساسه بقرب الرحيل، وكأنه كان يودّع الأصدقاء والمتابعين بطريقته الخاصة.
توفي في لندن، بعد صراع مع المرض ومكوثه في إحدى المستشفيات، ونعاه العديد من المثقفين والإعلاميين والطلبة على منصة إكس (تويتر سابقاً)، مؤكدين أن رحيله شكّل فراغاً معرفياً وثقافياً يصعب تعويضه.