مشاريع تخرج إلى العلن: العراق يقترب من صناعة سياراته.. خطوات واقعية ومسار مليء بالتحديات
انفوبلس/ تقارير
ليس من السهل أن تتغير صورة سوق السيارات في العراق، فمنذ سنوات طويلة، اعتاد العراقي أن يرى الطرقات مزدحمة بسيارات مستوردة، تصل بعد أن تُدفَع عليها رسوم وجمارك مرتفعة، ليبقى الاعتماد شبه الكامل على الخارج هو السمة الغالبة. لكن خلال الأشهر الأخيرة، بدأت ملامح جديدة تتشكل ملامح تشير إلى أن الصناعة المحلية للسيارات قد تخرج أخيراً من إطار الأمنيات، لتقترب خطوة خطوة من أن تصبح واقعاً ملموساً، رغم أن الطريق لا يزال طويلاً ومليئاً بتحديات قد تعرقل أي مشروع إذا لم يُدار بحكمة.
سوقٌ ضخم ينتظر التحوّل: 9 ملايين مركبة مسجلة
يعرف العراق اليوم واحداً من أسرع أسواق السيارات نمواً في المنطقة، إذ يلامس عدد المركبات المسجلة حاجز التسعة ملايين. هذا الرقم، كما يوضح المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء مظهر محمد صالح، يكشف جانبين متناقضين: قوة سوق محلية قادرة على جذب الاستثمارات، وفي الوقت ذاته هشاشة واضحة نتيجة اعتماد البلد شبه الكامل على الاستيراد.
إلا أن صالح يرى في هذه المعادلة فرصة، لا أزمة. فهو يؤكد أن العراق يمتلك القدرة ليصبح مركزاً إقليمياً لإعادة تصدير السيارات العاملة بالوقود الغازي، أو لخدمة الطلب المتزايد في المنطقة على هذه المركبات الصديقة للبيئة.
ويشرح صالح أن العراق، بثروته الغازية الهائلة غير المستغلة بشكل كافٍ، مؤهل لتبنّي تصنيع أو تجميع سيارات تعمل بالغاز الطبيعي المضغوط أو الغاز النفطي المسال. ويشير إلى أن دخول شركات عالمية كبرى، مثل بي إم دبليو ومرسيدس وشيري وغيرها من الشركات الرائدة، سيشكل نقلة نوعية، مع تأكيده أن هذه الأسماء تُذكر على سبيل المثال فقط، وأن التفاصيل الفنية للمشاريع متروكة للجهات المختصة.
ولا يقتصر التفاؤل على الجانب التقني، فصالح يعتبر أن إنشاء مصانع تجميع سيارات غازية يمكن أن يفتح الباب أمام خلق آلاف الوظائف على المستويين المباشر وغير المباشر، ويحفّز سلسلة كاملة من الصناعات التكميلية، بدءاً من الزجاج والإطارات والبطاريات، وصولاً إلى الأجزاء البلاستيكية والهياكل المعدنية. وهو ما يعني دخول العراق في دورة إنتاج صناعية جديدة، قادرة على إنتاج خبرات ومهارات محلية، وتشجيع الجامعات والمعاهد التقنية على تطوير مناهجها لتواكب هذه التحولات.
مشاريع تخرج إلى العلن: تويوتا كربلاء الصناعية وشراكات دولية جديدة
في الوقت الذي يستمر فيه الجدل حول قدرة العراق على تحقيق الاكتفاء النسبي من السيارات، ظهرت مشاريع جديدة بدأت تتحرك على الأرض، لتمنح المتابعين دليلاً على أن الحديث الرسمي لم يعد مجرد تكرار للوعود السابقة.
أبرز هذه الخطوات كان إطلاق مشروع "تويوتا العراق الصناعي" في بغداد،وهو مشروع يُعد الأول من نوعه داخل البلاد الذي يُبنى وفق مفهوم المصنع الكامل تحت ترخيص رسمي من الشركة اليابانية.
يمتد المشروع على مساحة تقارب 225 ألف متر مربع، واستثمارات تصل إلى 30 مليار دينار، مع هدف واضح يتمثل في نقل التقنية تدريجياً وإشراك العمالة العراقية في كل المراحل، وتقليل حاجة السوق العراقية إلى الاستيراد المستمر.
ولم تكن تويوتا وحدها في المشهد، إذ أعلنت وزارة التجارة توقيع مذكرات تفاهم مع شركات ألمانية وصينية وبرازيلية لتجميع سيارات تعمل بالغاز داخل العراق. هذه الخطوة جاءت في إطار توجه حكومي يهدف إلى توفير سيارات أكثر اقتصادية، مع خيارات تقسيط ميسرة، خاصة للفئات التي أثقلت كاهلها الارتفاع المستمر في أسعار السيارات المستوردة.
وفي كربلاء المقدسة، برز مشروع آخر لا يقل أهمية: أول مصنع من نوعه لتجميع الشاحنات الثقيلة في القطاع الخاص. المشروع بدأ بطاقة أولية تصل إلى 400 شاحنة سنوياً، مع خطط للتوسع تدريجياً، وهو ما يمهّد لتطوير قطاع المركبات التجارية، الذي يعد حيوياً في حركة النقل داخل العراق وخارجه.
أما وزارة الصناعة، فقد دخلت على خط التفاوض مع شركات من اليابان وكوريا وماليزيا، لصياغة رؤية تهدف إلى تصنيع سيارة عراقية بالكامل في المستقبل. رؤية قد تبدو طموحة، لكنها، بحسب المسؤولين، ليست مستحيلة إذا ما تهيأت بيئة إنتاج مناسبة وتم تأهيل الشركات المحلية المختصة بصناعة أجزاء السيارات.
الحد من الاستيراد.. خطوة أولى نحو صناعة حقيقية
يشرح الخبير الاقتصادي حيدر الشيخ أن العراق يستورد سنوياً نحو 200 ألف سيارة من مختلف الشركات العالمية، وهو رقم يعكس حجم الطلب لكنه يضع ضغطاً كبيراً على الاقتصاد الوطني.
ويشير الشيخ إلى أن دخول شركات إنتاجية إلى العراق يمكن أن يقلل نسبة الاستيراد بنحو 10% في المرحلة الأولى، وهو ما تعتبره الحكومة خطوة مهمة باتجاه خلق توازن بين الاستهلاك والإنتاج.
ولأجل دعم هذه التحركات، رفعت الحكومة الرسوم الجمركية على واردات السيارات من 15% إلى 22%، بهدف تشجيع المواطن على شراء السيارات المنتجة أو المجمعّة محلياً.
ومع استمرار هذه السياسات، يتوقع الشيخ أن ينخفض عدد السيارات المستوردة بحلول عام 2028 إلى نحو 170 ألف سيارة أو أقل، وهو انخفاض ملموس إذا ما تحقق فعلاً.
ويؤكد الشيخ أن العراقيين ما زالوا يعتمدون بشكل كبير على السيارات ذات المواصفات العالمية والمتانة العالية، وهو ما يضع تحدياً أمام المنتج المحلي لتقديم جودة تنافسية يمكن أن تكسب ثقة المواطن، خصوصاً في ظل وجود 9 ملايين مركبة تجوب الطرق، يعاني جزء كبير منها من مشاكل في قطع الغيار والصيانة وكلفة الوقود.
تحديات جسيمة
ورغم كل المؤشرات المشجعة، فإن الطريق أمام صناعة السيارات في العراق ليست خالية من العقبات. فالبيروقراطية، كما يقول الخبراء، ما تزال واحدة من أكبر التحديات التي تعيق إطلاق أي خط إنتاج جديد. فاللوائح والتراخيص لا تزال معقدة، والهيكل الإداري في بعض المؤسسات الحكومية لا يمتلك المرونة الكافية لمواكبة احتياجات المشاريع الصناعية الحديثة.
أما الجانب المالي، فيزداد تعقيداً مع تأثير سعر الصرف والديون الحكومية على تكلفة الإنتاج. فإقامة مصانع ضخمة تتطلب استثمارات كبيرة، وكل تغير في السعر أو الرسوم يمكن أن يرفع بشكل مباشر كلفة السيارة على المواطن، ما يجعل المنافسة مع السيارات المستوردة أكثر صعوبة.
كما تبقى الثقة مشكلة أخرى، فالمستهلك العراقي، الذي اعتاد على السيارات اليابانية والكورية والصينية ذات الجودة المعلومة، ما يزال متردداً في الإقبال على منتج محلي جديد بخبرة صناعية محدودة وتجربة غير مكتملة. وبدون بناء ثقة حقيقية عبر جودة واضحة وخدمة ما بعد البيع، قد تواجه الصناعة الناشئة منافسة شرسة.
المستقبل بين يدي التنفيذ: هل نرى سيارة عراقية كاملة؟
إذا نجحت الحكومة في تنفيذ مشروع تويوتا وغيره من المشاريع وفق الجداول الزمنية، وإذا تم تفعيل تشريعات لحماية المنتج المحلي وتحفيز الاستثمار، فإن العراق قد يدخل مرحلة جديدة: مرحلة "السيارة العراقية". هذه المرحلة ستكون إنجازاً اقتصادياً وتاريخياً، لكنها تحتاج إلى التزام طويل الأمد، واستثمارات مستمرة، وأهم من ذلك: تطبيق فعلي على الأرض.
فحلم صناعة السيارات في العراق لم يعد مجرد شغف وطني، بل أصبح ملفاً يتحرك فعلاً، وما بين الطموح والتنفيذ يبقى السؤال: هل سيتجاوز العراق العقبات ليمتلك صناعة حقيقية، أم تبقى هذه المشاريع مجرد لافتات جميلة تُرفع في المعارض والمؤتمرات دون أثر واضح في الشارع؟

