معاقبة 5 ضباط بسبب "دَوسهم" على العلم الأمريكي.. كركوك غاضبة جرّاء الانحياز لحساسيات الخارج

انفوبلس/ تقارير
في مشهد يعكس مفارقة صارخة بين ما يُفترض أن يكون موقفاً سيادياً وبين واقع القرارات الميدانية، قررت وزارة الداخلية إعفاء خمسة ضباط من مناصبهم، إثر مشاركتهم في فعالية دينية شهدت دوس العلم الأمريكي في محافظة كركوك. القرار، الذي قوبل بموجة انتقادات حادة على منصات التواصل الاجتماعي وفي بعض الأوساط السياسية والشعبية، أعاد طرح سؤال قديم جديد: لمَن تنحاز المؤسسة الأمنية؟ هل لكرامة العراق، أم لحساسيات الخارج؟
ماذا حدث؟
يوم الاثنين الماضي – أي قبل يومين - شارك الضباط المعنيون في فعالية دينية تخص عاشوراء نظمها مواطنون تم خلالها وضع العلم الأمريكي على الأرض، تعبيرًا عن الرفض الرمزي. وكما هي العادة في هذه الفعاليات، كان المرور فوق العلم فعلًا احتجاجيًا معروفًا يرمز إلى رفض الهيمنة، لكن هذه المرة كان الثمن باهظًا لمن وطأت أقدامهم ذلك الرمز.
القرار الصادر عن وزارة الداخلية لم يُعلّق بشكل مباشر على خلفيات الإعفاءات، مكتفيًا ببيان مقتضب أشار إلى "مخالفة الضباط للسياقات والانضباط"، ما فتح باب التأويل واسعًا. لكن مصادر مقربة من الوزارة لمّحت إلى أن “ضغوطًا خارجية” ربما لعبت دورًا في اتخاذ القرار، خصوصًا في ظل التوقيت الحرج الذي تمر به العلاقات العراقية-الأمريكية، وتزامن ذلك مع حوارات أمنية حساسة بشأن مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في العراق.
اللافت أن قرار الإعفاء لم يترافق مع أي إجراءات بحق عناصر أمنية أخرى سبق أن ارتكبت تجاوزات بحق المواطنين أو فشلت في مهامها، ما جعل من هذا القرار مثارًا للجدل واتهامات "بالكيل بمكيالين". إذ كيف يمكن لضباط أن يُعاقبوا بسبب خطوة رمزية تتعلق برفض التدخلات الأجنبية، بينما يفلت آخرون من المحاسبة رغم ثبوت تورطهم في فساد أو تقصير أمني؟
مَن هم الضباط المعاقبون؟
كما ذكرنا، جاء قرار وزارة الداخلية بعد انتشار صور لمراسم إقامة طقوس عاشوراء في بلدة طوزخورماتو، أمس الأول الاثنين، وظهر فيها اللواء حسين رشيد علي، قائد شرطة البلدة، مع عدد من ضباط الاستخبارات والأمن وهم يدوسون العلم الأميركي الذي رُسم على الشارع العام وسط البلدة إلى جانب علم الاحتلال الإسرائيلي.
وتقام هذه الفعالية سنوياً ضمن مراسم طقوس عاشوراء في مدن مختلفة من العراق، وتحظى بتفاعل شعبي واسع من المواطنين، بما فيها إحراق تلك الإعلام.
ونقلت وسائل إعلام محلية إيضاحاً عن مسؤول في وزارة الداخلية تأكيده تشكيل لجنة للتحقيق في الموضوع، وأنها قررت إدانة الضباط لمشاركتهم في فعل سياسي خارج نطاق تخصصهم والواجبات الموكلة إليهم، وفق زعم الوزارة التي أكدت أنه تقرر إعفاء كل من اللواء حسين رشيد علي، مدير شرطة مدينة طوزخورماتو، والعميد محسن سفر آمرلي، قائد فوج الطوارئ السابع، والعميد سامر علي، مدير قسم مكافحة المخدرات، والعقيد فيصل يونس إبراهيم آمرلي، والعقيد محمد إسماعيل، مدير مرور طوزخورماتو.
وأكد عضو البرلمان عن مدينة طوزخورماتو، كريم شكر، القرار في تصريحات للصحافيين قال فيها: "خلال مراسم عاشوراء، داس هؤلاء الضباط بأقدامهم العلم الأميركي، وعليه أصدر وزير الداخلية العراقي، عبد الأمير الشمري، قراراً بإعفائهم". فيما أوضح ياسين الداوودي، عضو مجلس محافظة صلاح الدين عن المكون الكردي، أن الضباط الذين أُعفوا من عملهم من المكونين العربي والتركماني وليس بينهم أكراد، وذلك في إطار تأكيده للقرار.
بدوره، قال الخبير الأمني والمستشار الأسبق لوزارة الداخلية ، فاضل العيداني: إن "المعلومات المتوفرة عن الصورة، ومشاركة الضباط في الفعالية، سببت حرجاً للحكومة العراقية، ولوزارة الداخلية التي تسلمت قبل فترة "مساعدات" وسلسلة دعم فني وتقني أميركي".
بالمقابل، لمحت مصادر مطلعة إلى وجود "استياء من السفارة الأميركية" حيال الحادثة، وأنها أرسلت استفسارات مباشرة عبر القنوات الرسمية. ويبدو أن الرد الرسمي كان سريعًا، في محاولة لاحتواء أي توتر محتمل مع واشنطن.
تضامن واسع
في الأحياء الشعبية بمحافظة كركوك، حيث جرت الواقعة، عبّر كثير من الأهالي عن تضامنهم مع الضباط المعاقَبين، معتبرين أن ما قاموا به يمثل موقفًا وطنيًا، لا سلوكًا مخلًا بالنظام. ورفعت لافتات في بعض الأحياء تندد بالقرار، وتصفه بـ"الإهانة للكرامة الوطنية"، بينما كتب أحدهم على جدار مركز أمني: "إن لم يدوسوا على العلم الأمريكي، فليدوسوا على كرامتنا؟".
كذلك، نظم الأهالي تجمعًا رمزيًا أمام أحد مراكز الشرطة، رافعين لافتات كتب عليها: "أعيدوا الضباط.. إنهم وقفوا معنا".
وقالت إحدى الأمهات وهي ترفع صورة ابنها الضابط الذي تعرض للعقوبة: "إذا كان ابني أخطأ لأنه داس العلم الأميركي، فأنا أفخر به.. هذا علم قصف أبناءنا، وقتل أولادنا، ولن أندم".
أما في الإعلام، فقد تباينت التغطيات بين من رأى أن القرار إجراء انضباطي بحت، ومن وصفه بأنه تراجع مريع عن السيادة الوطنية. في حين اعتبره بعض المراقبين "رسالة سياسية" تعكس توازنات داخلية وخارجية ضاغطة على حكومة بغداد.
مفارقة
وفق مراقبين، فإنه في الوقت الذي تُستباح فيه أجواء العراق بطائرات مسيّرة، وتُرتكب فيه الخروقات على الحدود دون رد، يبدو أن من يدوس على علم يمثل تلك السياسات، هو وحده من يواجه المحاسبة. إنها مفارقة العصر العراقي الجديد، حيث يصبح الشعار الوطني موضع مساءلة، والكرامة الوطنية مادةً لعقوبات إدارية.
وفي ظل هذا القرار، يبقى السؤال مفتوحًا: من الذي يحدد هوية العراق، ومن يملك حق الاعتراض؟ هل أصبحت السيادة مجرد ورقة تُطوى عند أول هاتف دولي؟ وهل سنرى مستقبلاً عقوبات على من يرفع راية "كلا كلا أمريكا"، بحجة الإخلال بالأمن العام؟
في النهاية، فإن قرار إعفاء الضباط لن يُنسى بسهولة. إذ أشعل النقاش مجددًا حول السيادة، والانتماء، وحدود القرار الوطني. وربما الأهم من ذلك، أنه وضع المجتمع أمام مرآة السؤال الأكبر: إلى متى سنبقى نعيش على إيقاع الرضا الأميركي؟ وهل أصبحت الكرامة فعلًا يُعاقب عليه القانون؟