من الأنبار إلى صلاح الدين.. نبتة سامة ومخدرة تغزو حقول المزارعين وتهدد الإنسان والحيوان

انفوبلس/ تقارير
على امتداد الأراضي الزراعية وأطراف المدن العراقية، بدأت نبتة غريبة المظهر والخصائص، تحمل اسم "الداتورا" أو كما تُعرف محلياً بـ"التيتونة"، تفرض حضورها بصمت، لكنها تحمل في طياتها خطراً مضاعفاً، إذ تجمع بين سمّيتها العالية على الإنسان والحيوان، وقدرتها على التأثير العقلي بما يجعلها مادة قابلة للاستغلال في تصنيع المخدرات.
ورغم أن هذه النبتة ليست وافدة جديدة على البيئة العراقية، فإن توسع انتشارها في السنوات الأخيرة، من قضاء البغدادي في الأنبار غرباً، مروراً بديالى والمدائن، وصولاً إلى الضلوعية في صلاح الدين شمالاً، بات يشكل هاجساً مشتركاً لدى السلطات الصحية والأمنية والمزارعين على حد سواء.
جذور المشكلة.. من نبات برّي إلى تهديد وطني
نبتة الداتورا، التي تُصنّف علمياً ضمن الفصيلة الباذنجانية وتحمل الاسم العلمي Datura stramonium، تعيش في البيئات الحارة وشبه الجافة، وتتميز بقدرتها العالية على مقاومة الظروف المناخية القاسية. أوراقها العريضة المسنّنة، وزهورها البوقية البيضاء أو البنفسجية، وثمرتها القنفذية الشكل المليئة بالبذور، تجعلها مميزة بصرياً، لكن ما يختبئ داخلها أكثر إثارة للقلق.
تحتوي جميع أجزائها – من الأوراق والبذور وحتى الجذور – على مركبات الأتروبين والسكوبولامين والهيُوسيَامين، وهي مواد كيميائية تؤثر بشكل مباشر على الجهاز العصبي، وقد تسبب الهلوسة، وفقدان الإدراك، بل وحتى الوفاة في حال تناولها بجرعات مرتفعة.
وبهذا الصدد، قال مدير إعلام دائرة صحة الأنبار، إبراهيم الشمري في حديث له تابعته شبكة انفوبلس، إن "خطورة الداتورا تكمن في جهل كثير من الأهالي بها، ما قد يؤدي إلى خلطها مع نباتات مأكولة أو استغلالها في أغراض غير مشروعة".
ودعا الشمري المواطنين إلى "الإبلاغ عن أي مواقع تنمو فيها هذه النبتة لتسهيل مكافحتها".
أعراض التسمم.. دقائق قد تفصل بين الحياة والموت
وفقاً للأطباء، تبدأ أعراض التسمم بالداتورا بجفاف شديد في الفم، وتوسع حدقة العين، واضطراب في الرؤية، يليها تهيج عصبي وهلوسات سمعية وبصرية، وفقدان للتوازن، وقد تتطور الحالات الحادة إلى تشنجات وتوقف التنفس.
العلاج الفعال يعتمد على النقل الفوري للمصاب إلى المستشفى، حيث يتم تقديم الرعاية الطارئة وإزالة السموم من الجسم.
ويحذر الأطباء من التعامل المباشر مع النبتة دون ارتداء قفازات ووسائل حماية، إذ يمكن للسموم أن تُمتص عبر الجلد أو تنتقل من اليدين إلى الفم والعينين.
من الأنبار إلى ديالى.. تتبُّع مسار الانتشار
في الأنبار، وخصوصاً في قضاء البغدادي، سجلت فرق الصحة والزراعة عدة مواقع لنمو النبتة على أطراف الأحياء السكنية والحقول الزراعية.
المهندس الزراعي وعد نجم يوضح أن انتشارها قد يكون طبيعياً نتيجة الرياح والمياه، أو بسبب تدخل بشري مقصود أو غير مقصود، مشيراً إلى أن القضاء عليها يتطلب تنسيقاً واسعاً بين المؤسسات الصحية والزراعية والأمنية، مع تكثيف حملات التوعية.
أما في ديالى، فقد عثرت مفارز مكافحة المخدرات في حزيران 2022 على مساحات مزروعة بالداتورا في ناحية المنصورية شمال بعقوبة.
وبحسب مصدر أمني، فإن فرق الشرطة أتلفت هذه المساحات، محذرة من تأثيراتها السلبية على القلب والأعصاب، خصوصاً أنها تنشط في أجواء الصيف الحارة والجافة.
المدائن.. زراعة منظمة أم انتشار بري؟
لم تقتصر القصة على المناطق البعيدة، ففي العام الماضي ضبط جهاز الأمن الوطني مزرعة بمساحة 7 دوانم في منطقة اللج بالمدائن مزروعة بالداتورا.
المتحدث باسم الجهاز، أرشد الحاكم، أكد حينها أن المساحة قُدرت بنحو 8 دوانم، وتم إتلافها بالتنسيق مع الجهات المختصة، ما أثار التساؤلات حول ما إذا كانت بعض هذه الزراعات متعمدة بهدف الاستغلال غير المشروع.
صلاح الدين.. مزارعون تحت الشبهة
في الضلوعية وجوارها جنوب صلاح الدين، وجد المزارعون أنفسهم في مواجهة اتهامات بعد أن اعتقلت القوات الأمنية أحدهم على خلفية وجود الداتورا في بستانه.
المزارعون المحليون يؤكدون أن هذه النبتة تظهر تلقائياً منذ عقود، وكانوا يتعاملون معها كأحد الأعشاب الضارة، دون معرفة بخطورتها.
المفارقة أن هذه النبتة تنتشر على امتداد 100 كم على ضفتي نهر دجلة من سامراء حتى جنوب صلاح الدين، ما يجعل من الصعب عملياً السيطرة عليها بالكامل، خاصة مع عدم وعي السكان بمخاطرها الحقيقية.
الداتورا في العالم.. من الطب التقليدي إلى المخدرات
تاريخياً، استُخدمت الداتورا في بعض الثقافات كعلاج عشبي أو في الطقوس الروحية، لكنها لطالما ارتبطت أيضاً بالسموم والمخدرات.
ففي الهند وأمريكا اللاتينية، كانت تُستعمل جرعات صغيرة منها في الطب الشعبي، بينما في أوروبا القرون الوسطى، ارتبطت بأساطير السحر والشعوذة.
اليوم، تراقب وكالات مكافحة المخدرات عالمياً هذه النبتة، إذ يمكن لمركباتها أن تُستخلص وتُستعمل في تصنيع مواد مخدرة قوية أو في جرائم تتعلق بفقدان الوعي والسيطرة العقلية على الضحايا.
التحديات التي تواجه المكافحة في العراق
تواجه السلطات العراقية عدة صعوبات في احتواء انتشار الداتورا منها، الانتشار الطبيعي السريع، حيث إنها قادرة على إنتاج كميات كبيرة من البذور التي تنتقل بسهولة عبر الرياح والمياه.
كذلك من تحديات مكافحتها هي مقاومتها للبيئة كونها قادرة على البقاء في تربة فقيرة وتحمل الجفاف الشديد.
أيضا ضعف الوعي المجتمعي يحد من مكافحتها، فالكثير من السكان لا يعرفون مخاطرها الحقيقية، ما يجعلهم يتجاهلونها أو لا يُبلّغون عنها.
كذلك، فإن احتمالية استغلالها في تصنيع المخدرات يضعها في دائرة الاهتمام الأمني، ما قد يورَّط أبرياء بجريرة نموها الطبيعي في أراضيهم.
استراتيجيات المواجهة
يقترح خبراء الزراعة والصحة خطة مواجهة من ثلاث مراحل:
ـ الرصد الميداني المستمر عبر فرق مشتركة من الصحة والزراعة والأمن.
ـ التوعية الشعبية من خلال المدارس والمساجد ووسائل الإعلام لتعريف الناس بمخاطرها وطرق التعامل معها.
ـ التدخل السريع لإزالة النبتة من جذورها قبل الإزهار والإثمار للحد من انتشار البذور.
خلاصة
من الأنبار إلى صلاح الدين، مروراً بديالى والمدائن، تحولت الداتورا من نبات بري هامشي إلى قضية وطنية تمس الصحة العامة والأمن المجتمعي. وبينما تبذل السلطات جهوداً لاحتوائها، يظل وعي المواطنين وتعاونهم عاملاً حاسماً، فالمعركة ضد هذه النبتة لا تقل خطورة عن مواجهة أي وباء، خصوصاً حين يجتمع السمّ مع إمكانية التحول إلى مخدر في نبتة واحدة.