من الحروب إلى أبراج الاتصالات.. مَن يتسبب في انفجار أرقام السرطان بالعراق؟

انفوبلس/ تقارير
في أروقة إحدى مستشفيات العاصمة بغداد، تصطف العشرات من العائلات يومياً، يحمل بعضها تقارير تشخيصية تشير إلى مراحل متقدمة من مرض السرطان، بينما ينتظر البعض الآخر دواءً مفقوداً أو موعداً مؤجلاً للعلاج بالإشعاع. هذا المشهد لم يعد استثناءً، بل تحوّل إلى روتين يومي يعكس عمق أزمة صحية متصاعدة في بلد أنهكته الحروب والتلوث والإهمال المؤسسي.
يشهد العراق تفاقماً حاداً في معدلات الإصابة بمرض السرطان خلال السنوات الأخيرة، في ظل غياب شبه كامل لخطط وطنية شاملة، ونقص واضح في التمويل المخصص لمراكز العلاج، وانعدام العدالة في توزيع الخدمات الصحية.
وتبدو هذه الأزمة امتداداً مأساوياً لتاريخ طويل من الإهمال البيئي والاستخدام المكثف للأسلحة المحرمة دولياً، لاسيما خلال حرب 2003، ما جعل من السرطان "العدو الصامت" الأكثر فتكاً بالعراقيين.
تحذيرات برلمانية من انهيار النظام الصحي
وسط هذا الواقع، أطلق نواب في البرلمان دعوات لتشكيل فريق وطني مختص يحقق في أسباب هذا "الارتفاع غير المسبوق" في نسب الإصابة.
النائب مختار الموسوي حذّر في تصريح تابعته "انفوبلس"، من أن معدلات الإصابة "شهدت ارتفاعاً مقلقاً خلال السنوات القليلة الماضية، وتسجل الآلاف من الحالات سنوياً، ومن مختلف الفئات العمرية"، معتبراً أن "الوضع الصحي بات يتطلب تحركاً وطنياً عاجلاً".
وطالب الموسوي بتشكيل فريق علمي يضم مختصين وباحثين لرسم خارطة دقيقة بالأسباب والعوامل البيئية والصحية وراء هذا التفاقم، مضيفاً أن "هناك شبهات تدور حول تأثير أبراج الاتصالات وسوء نوعية مياه الشرب، لكن أي موقف علمي يجب أن يستند إلى تقارير محايدة موثوقة".
وأكد أن "رحلة علاج السرطان في العراق مرهقة جداً من الناحية النفسية والمالية، لاسيما أن نحو 70% من المصابين ينتمون إلى الطبقات الفقيرة بل تحت خط الفقر، ما يجعل المرض يستنزف العائلات اقتصادياً وصحياً".
نقص التمويل وشبه توقف للخدمات
بدورها، أشارت النائب ثناء الزجراوي إلى أن غياب التخصيصات المالية "أضر كثيراً بمراكز معالجة الأورام وأمراض القلب"، مؤكدة أن تلك المراكز تحتاج إلى تمويل مستمر لضمان استمرارية العمل.
وأضافت أن "القطاع الصحي بأكمله بات مهدداً بالانهيار، في ظل الضغط المتزايد على المرافق الطبية وشح السيولة المالية"، محذرة من أن "الخدمات في كثير من المستشفيات والمراكز التخصصية أصبحت شبه متوقفة"، وهو ما يفاقم معاناة آلاف المرضى الذين لا يملكون قدرة الوصول للعلاج في الخارج أو حتى في القطاع الخاص.
وشددت الزجراوي على ضرورة إنهاء الجمود المالي والإداري، والإسراع في إرسال الجداول المالية للعام 2025، محذرة من أن "التأخير قد يتحول إلى كارثة تمس صحة العراقيين وكرامتهم".
سرطان الفقر والتهميش
ووفقاً لبيانات وزارة الصحة، فإن نسبة النساء بين المصابين بالسرطان تصل إلى 57%، بينما تعاني الغالبية العظمى من المرضى من نقص حاد في الأجهزة والمستلزمات والأدوية.
ويعد السرطان حالياً أحد الأسباب العشرة الأولى للوفيات في العراق، كما أشار متحدث الوزارة الدكتور سيف البدر، لافتاً إلى أن "معدلات الإصابة لا تزال ضمن المعدل العالمي – أقل من 80 حالة لكل 100 ألف – لكنها تُكتشف في الغالب في مراحل متقدمة (الثالثة والرابعة)، مما يصعّب العلاج ويعقّد نتائجه".
أربيل تتصدر.. والتلوث في الواجهة
وتصدرت محافظة أربيل نسب الإصابة بالأورام بحسب آخر إحصائية صادرة عن "مجلس السرطان" في العراق، حيث أرجع المختصون السبب إلى ارتفاع معدلات التلوث البيئي في الإقليم، بما في ذلك الملوثات الصناعية والانبعاثات غير المنظمة.
وفي حين لا توجد حتى الآن دراسات علمية حاسمة تربط بين انتشار السرطان وأبراج الاتصالات، فإن الحكومة العراقية قررت في عام 2019 إلزام شركات الاتصال بعدم نصب أبراجها داخل الأحياء السكنية. غير أن هذه الشركات – كما تقول تقارير محلية – التفتت على القرار من خلال وضع أبراجها بطرق غير مباشرة، في سياق التنافس على قوة البث داخل المدن.
جذور الأزمة: الحروب واليورانيوم المنضب
وبالعودة إلى جذور الأزمة، تؤكد عدة تقارير دولية ومحلية أن الحروب التي خاضها العراق منذ ثمانينات القرن الماضي، ولا سيما حرب 2003، أسهمت بشكل كبير في تفشي الأمراض السرطانية.
وبهذا الصدد، قالت وزارة البيئة: إن نحو 300 موقع ملوث موزعا على عموم البلاد، من بينها 63 موقعاً عسكرياً في بغداد والموصل والمحافظات الجنوبية، تُعد بؤراً نشطة للتلوث الإشعاعي والبيئي.
من جانبها، تؤكد وزارة الصحة وعدة منظمات دولية أن استخدام القوات الأمريكية لأسلحة محرمة ومشعة خلال حرب 2003 ساهم في تسجيل ارتفاع كبير بالإصابات، ما جعل العراق ساحة مفتوحة لأمراض بيئية مميتة لم تنتهِ آثارها حتى اليوم.
العلاج بالإشعاع.. ترَف مؤجَّل
ويواجه المرضى تحدياً إضافياً يتمثل بكلفة العلاج، فرغم أن جلسات العلاج بالإشعاع تكون مجانية خلال الدوام الصباحي في بعض المستشفيات الحكومية، فإنها تتحول إلى عبء مادي في الدوام المسائي، حيث تصل تكلفة الجلسة الواحدة إلى 40 ألف دينار، في حين يحتاج بعض المرضى إلى عشرات الجلسات التي يصعب على معظمهم تحمل نفقاتها.
بين الأمل والتحذير.. مَن ينقذ العراقيين من شبح السرطان؟
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2023، حاولت وزارة الصحة تبرير تزايد الحالات بالإشارة إلى الزيادة السكانية، مؤكدة أن نسب الإصابة لا تزال "ضمن الحدود العالمية"، لكن هذه التبريرات لا تصمد أمام الواقع القاتم الذي يواجهه المرضى يومياً، وسط نقص الدواء، وقلة الكوادر، وتردي الخدمات.
اليوم، يقف العراق على مفترق خطير في ملف مكافحة السرطان، فبينما يواصل المرض انتشاره الصامت، ويزداد الضغط على قطاع صحي منهك، تظل الحسابات السياسية والتمويلية تعرقل أي تحرك جاد، وهو ما يضع البلاد أمام اختبار حقيقي: إما بناء نظام صحي يستحقه العراقيون، أو التسليم بواقع لا إنساني يتفاقم يوماً بعد آخر.