من الطقس إلى المؤسسة.. 22 عاماً من التحول التاريخي للشعائر الحسينية في العراق

انفوبلس..
تحوّلت الشعائر الحسينية في العراق من طقس ديني محدود إلى مؤسسة اجتماعية كبرى، تجمع بين التنظيم الدقيق والدعم الحكومي والمشاركة الشعبية الواسعة، وتستقطب ملايين الزائرين سنويًا، كما تعكس تداخل البعد الديني مع الاقتصادي والثقافي، وتقدم نموذجًا فريدًا لإدارة المناسبات الجماهيرية على مستوى عالمي.
لم يعد العزاء في العراق مجرّد طقس ديني يمارس في أيام معدودة؛ بل صار مع مرور السنين مؤسسة اجتماعية ضخمة، تمتد جذورها في عمق الوجدان الشعبي، وتنهض بهياكل تنظيمية تتسع عاما بعد آخر. تحولت المواكب ـ التي كانت تنطلق من أزقة المدن القديمة ـ إلى منظومات محكمة تنسقها لجان مختصة وتديرها شبكات دعم ضخمة، وتشرف عليها جهات حكومية ودينية في آن واحد.
بعد عام 2003، أصبح العزاء الحسيني واحداً من أبرز الملامح الاجتماعية، التي يعيد من خلالها العراقيون تشكيل ذاكرتهم الجمعية، وتعزيز روابطهم المحلية، وتجديد شعورهم بالانتماء. لم يعد الأمر مجرد إحياء ذكرى بل بناءً مجتمعياً فعّال، يُحرّك الاقتصاد، ويمنح مئات الآلاف فرصًا للعمل التطوعي والمشاركة المجتمعية.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، إنه نتاج ثقة الناس، واستقرار النَّفَس الديني، ودور الدولة في حماية هذه الشعيرة وتوفير مناخها العام. فكيف حدث كل ذلك؟ وما الذي جعل من العزاء مؤسسةً لا تقل حضورًا عن أي مؤسسة رسمية؟
لم تعد شعائر العزاء في العراق تقتصر على طقس ديني محلي، بل تحوّلت إلى ظاهرة جماهيرية كبرى تعبّر عن واحدة من أعمق التعبيرات الروحية والاجتماعية في البلاد. هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل تدعمه أرقام وإحصاءات رسمية تكشف عن التوسّع غير المسبوق في حجم المشاركة والتنظيم، ما يعكس بوضوح التحوّل البنيوي في أداء وإدارة هذه المناسبات.
مؤخرا، وفي زيارة الأربعين لعام 2024، أعلنت العتبة العباسية المقدسة أن عدد الزائرين بلغ 21,480,525 زائرًا خلال فترة الزيارة، وهو رقم تم احتسابه باستخدام أنظمة العد الإلكتروني المدعومة بالذكاء الاصطناعي المثبتة على 316 نقطة مراقبة، مما يشير إلى مدى الدقة والانضباط الذي باتت تتسم به هذه المناسبة. وتشير الإحصاءات إلى أن من بين هؤلاء، قرابة 3.5 مليون زائر إيراني دخلوا العراق عبر المنافذ البرية، ووفق ما أكده رئيس هيئة المنافذ الحدودية اللواء عمر عدنان الوائلي أن هذا الرقم يعد قفزة نوعية في المشاركة الإقليمية، ويعكس بوضوح مكانة العراق كمركز ديني عالمي يستقطب الملايين سنويًا، مع ازدياد الدعم الحكومي والمؤسسي في إدارة هذه المناسبات. وإلى جانب الأرقام المتعلقة بالحضور، أظهرت بيانات العتبة العباسية توزيع 300,000 منشور ديني وثقافي، وتم نصب أكثر من 180 محطة تثقيفية للتوعية والإرشاد، إضافة إلى تشغيل 100 محطة قرآنية بإشراف 1,140 معلمًا ومعلمة، قاموا بخدمة أكثر من 532,905 زائرين في فترة الزيارة فقط.
كل هذه الجهود تعكس انتقال الشعائر من كونها فعلًا تعبيريًا دينيًا صرفًا إلى مؤسسة دينية – اجتماعية – خدمية، تشارك فيها الدولة بمؤسساتها، إلى جانب العتبات والهيئات والمواكب، كما تجسّد حقيقة أن الشعائر تُدار بمستوى قريب من إدارة المناسبات العالمية الكبرى، ليس فقط من حيث الحجم بل من حيث البنية التحتية، والتقنيات المستخدمة، ومشاركة مئات الآلاف من المتطوعين من مختلف الفئات، ما يجعلها جديرة بالدراسة كظاهرة دينية ومجتمعية في آن واحد.
مع تضاعف أعداد الزائرين في مناسبات دينية كبرى، وعلى رأسها زيارة الأربعين، تحوّلت الشعائر الحسينية من طقوس شعبية عفوية إلى حدث مليونـي يتطلب إدارة دقيقة وتنظيمًا على مستوى دولي. ففي كل عام، يتدفق ما يزيد عن 20 مليون زائر إلى مدينة كربلاء، بينهم مئات الآلاف من العرب والأجانب، ما يضع تحديات لوجستية وإنسانية هائلة أمام الجهات المعنية.
هنا، يبرز الدور المحوري للمؤسسات الدينية والجهات المعنية وفي طليعتها العتبتان العباسية والحسينية، اللتان لم تكتفيا بالدور الرمزي أو الديني، بل تبنّتا مشاريع خدمية، صحية، أمنية، وثقافية، تديرها كوادر مدنية متخصصة ضخمة، وتستهدف تيسير سبل الزيارة للوافدين من كل صوب.
وقد أسهمت هذه الإدارة في تحويل زيارة كبرى تحدث في عاشوراء إلى نموذج ديني – مؤسساتي نادر في العالم الإسلامي، يعكس قدرة الشعائر على التحول من ممارسة وجدانية إلى منظومة متكاملة من الأداء الاجتماعي والتنظيمي، وعن هذا يقول معاون رئيس قسم الإعلام في العتبة العباسية المقدسة السيّد جسّام السعيدي إن قسم الشعائر والمواكب والهيئات الحسينية في العراق والعالم، التابع للأمانة العامة للعتبة العباسية، لا يتدخل في الممارسات العفوية للعزاء الحسيني، بل إن مهمته الرئيسة تتمثل في تنظيم جداول نزول المواكب، وهو امتداد تاريخي لما كان معمولاً به منذ قرون، قبل أن يمنع النظام الدكتاتوري تلك الشعائر عام 1977، وحتى استئنافها بعد سقوطه عام 2003. وأوضح أن "استحداث قسم الشعائر جاء ضمن عشرات الأقسام التخصصية التي أُنشئت في إدارة العتبة بعد 9/4/2003، نظراً للتطور الهائل في أعداد المواكب، لا سيما مع انضمام مواكب من دول أجنبية، وتوسع النشاطات والشعائر في محافظات متعددة، ما استدعى تطوير آليات التنظيم ورفع مستوى التنسيق الأمني والقانوني مع الجهات المختصة بما يضمن سلامة الزائرين والمشاركين". وبيّن أن "القسم عمل على إدخال نظم حديثة، منها بطاقات تعريف للمواكب، لتفريق الموكب الحقيقي عن غيره، ومنع حالات التكرار أو التزوير، إضافة إلى تنظيم الجداول الزمنية لمسيرات العزاء بما يمنع حدوث أي تقاطع أو فوضى خلال النزول". وأشار إلى أن "التحديات الأمنية بعد عام 2003، ولا سيما في السنوات الأولى، فرضت إجراءات احترازية، بعد أن ثبت اختراق بعض العناصر الإرهابية للمواكب الحسينية لتنفيذ أعمال إجرامية، ما استدعى فرض إجراءات تعريف وهوية وكفالة لكل موكب، بهدف حماية الجميع". وشدد على "أن ما يقوم به القسم لا يمثل تقييداً، بل هو استجابة لحاجة تنظيمية وأمنية فرضها الواقع وتزايد أعداد المواكب سنوياً".
منذ سقوط النظام الدكتاتوري في 2003، شهدت الشعائر الحسينية في العراق تحولات جوهرية، تكشف عن تحولها من ممارسات عفوية إلى طقوس متجددة أصبحت أكثر تنظيماً وعلانية. يقول عبد الهادي البابي، الكاتب والمحلل السياسي، في هذا السياق، إن التحولات التي شهدتها هذه الشعائر كانت جزءاً من التحولات الكبرى التي مر بها العراق بعد الاحتلال الأمريكي، لا سيما في أعقاب الحرب والحصار.
ويوضح البابي: “كانت الشعائر الحسينية في العراق تاريخياً تعبيراً شعبياً عفوياً عن الحزن والفقد، ولكنها مع مرور الوقت، خاصة في الفترة التي تلت عام 2003، أصبحت أكثر تنظيماً وتكثيفاً بشكل فاق التصور. اليوم، نجد أن بعض المناسبات التي كانت تُقام ليوم واحد باتت تمتد لأشهر، ما كان بالأمس تعبيراً تقليدياً من الشعب، أصبح الآن يحتل مكانة مؤسسية كبيرة".
ووفقًا للبابي، فإن تحوّل هذه الشعائر من ممارسات دينية عفوية إلى طقوس أكثر تعقيداً واحتشاداً لا يمكن أن يُنظر إليه بمعزل عن السياق السياسي والاجتماعي للعراق بعد 2003. يشير البابي إلى أن “بعض الأطراف السياسية قد استغلت هذه الشعائر في بناء إمبراطوريات مالية وثروات طائلة، ما أفضى إلى تغيير جوهر الفكرة الدينية وراء هذه الممارسات”.
وفي ظل هذه التحولات، يجد البابي أن الشعائر الحسينية بحاجة إلى العودة إلى جذورها الشعبية والعفوية التي كانت سائدة قبل تحوّلها إلى ممارسات مؤسسية مفرطة، وأن على المجتمع العراقي إعادة النظر في دور هذه الطقوس في سياق الدين والسياسة معاً."
تُمثّل الشعائر الحسينية، وفي مقدمتها زيارتا عاشوراء والأربعين، حالة اقتصادية غير نمطية وهي بالغة التأثير في البنية السوقية العراقية. هذه الشعائر كما يصفها الخبير الاقتصادي مصطفى أكرم حنتوش تُعد نموذجا واضحا وفريدا لما يمكن تسميته بـ”الاقتصاد الموسمي المجتمعي”، الاقتصاد الذي يولّده داخل المجتمع ويعيد توزيع النشاط التجاري بشكل مؤقت، لكنّه واسع المدى.
حنتوش يبيّن أيضا "أنّ هذه المواسم تُعيد هيكلة حركة التسويق والطلب، حيث تشهد أسواق المواد الغذائية، الألبسة، الطباعة، النقل، والإيواء نشاطًا يفوق المعدلات المعتادة، مع بروز واضح لدور القطاع غير الرسمي الذي يستوعب جزءًا كبيرًا من هذه الحركة التجارية."
ويضيف: “ما يميّز هذا النشاط أنه يُعيد إنتاج السوق المحلي خارج قنوات الدولة، لكنه لا يتعارض معها، بل يكملها، نحن أمام اقتصاد يقوم على قيم اجتماعية ودينية، لكنه في الوقت نفسه يخلق بيئة تسويقية نابضة، ويؤكد قدرة المجتمعات العراقية على تحريك السوق من الداخل.”
ويختم الخبير الاقتصادي بالقول: إن هذه المواسم “تعكس مظهرًا إيجابيًا من مظاهر الازدهار المحلي، إذ تُظهر قدرة المدن العراقية على استيعاب الطلب المرتفع وتقديم الخدمات، ما يعني أن البنية التحتية التجارية والمجتمعية، رغم التحديات، قادرة على العمل بكفاءة متى أُتيحت لها الفرصة".
عند الحديث عن الشعائر الحسينية في العراق، تُعد الكاميرا وسيلة فعالة لرصد التحولات العميقة التي شهدتها هذه الطقوس عبر السنين، بدءًا من الممارسات التقليدية وصولاً إلى العصر الحالي الذي شهد تغيرات كبيرة. لا سيما أن قدرة الكاميرا على التقاط تفاصيل دقيقة، من تعبيرات الوجوه إلى مشاهد التجمعات الكبرى، تجعل منها أداة توثيق أساسية لفهم العلاقات المعقدة بين العفوية الدينية، التطور الاجتماعي، والصراعات الاقتصادية والسياسية التي ترافق هذه الظاهرة. فالتصوير ليس مجرد توثيق لحظي، بل هو انعكاس حي لتاريخ الشعائر الحسينية بين ماض وحاضر في العراق، وهو ما يجعل الصورة أكثر من مجرد لقطات جمالية، بل تصبح جزءًا من الرواية المستمرة لهذا الشعب. في هذا السياق يُعرّف المخرج والمصور أمجد عبد الكاميرا بأنها أداة لا تقتصر على التقاط اللحظات فقط، بل هي أيضًا شاهدة على التحولات التي شهدها المجتمع العراقي في العقدين الأخيرين.
يقول عبد: “المصور لا يلتقط فقط مشهدًا عابرًا، بل هو يوثق لحظة من الزمن تحمل في طياتها تحولًا ثقافيًا واجتماعيًا. في السنوات التي تلت 2003، برزت الشعائر الحسينية بشكل علني وبممارسات جديدة، ومنها ما كان محصورًا في أزمنة معينة وأماكن محدودة، ليتوسع إلى ساحة يومية يشهد فيها الجميع هذه الطقوس، وهو ما أضاف بعدًا جديدًا لمفهوم الشعائر”.
ويضيف عبد، "أن المصور يختار بعناية اللحظات التي تبرز الانفعالات العاطفية كالدموع والحزن، وأيضًا تلك التي تمثل الجانب الإنساني من الشعائر مثل توزيع الطعام والمساعدات". ويوضح عبد أيضًا، أن "الكاميرا في هذا السياق لا تقتصر على التقاط مشهد ثابت، بل هي أداة حية تجسد التحولات الكبيرة في المجتمع العراقي، التي كان لها تأثير واضح في الممارسات اليومية والتفاعلات الاجتماعية في سياق الشعائر الحسينية". ويختم، “إن كل صورة تمثل وثيقة تاريخية للحظة تمر، لكنها أيضًا شاهدة على تطور ديناميكي في شكل وطريقة أداء هذه الشعائر".
وتُعدّ الشعائر الحسينية في العراق ـ وعلى رأسها زيارتا عاشوراء والأربعين ـ ظاهرة فريدة في العالم الإسلامي، لما تحمله من عمق روحي وتماسك اجتماعي، ولما وصلت إليه من تطور تنظيمي غير مسبوق. هذا التحول، الذي تكامل بعد عام 2003، لم يكن مجرد توسع في أعداد المشاركين، بل كان نقلة نوعية في طبيعة أداء هذه الشعائر، من كونها ممارسات وجدانية إلى منظومات مؤسساتية دقيقة، تستعين بالتكنولوجيا الحديثة، وتستند إلى تعاون واسع بين العتبات المقدسة، الدولة، والمجتمع المدني.
إحصائيات زيارة الأربعين لعام 2024، التي وثقت حضور أكثر من 21 مليون زائر، بينهم ملايين من خارج العراق، تعكس حجم الظاهرة ومكانتها العالمية. استخدام أنظمة العد الإلكتروني المدعومة بالذكاء الاصطناعي، وإقامة مئات المحطات التثقيفية والقرآنية، وتوزيع مئات الآلاف من المواد التوعوية، يكشف عن مستوى التخطيط والدقة الذي باتت تتمتع به هذه المواسم.
البعد الاجتماعي لهذه الشعائر لا يقل أهمية عن بعدها الديني. فالمواكب التي تنطلق من أحياء العراق القديمة لم تعد مجرد تعبيرات عفوية، بل هي مؤسسات خدمية وثقافية متكاملة، تديرها لجان مختصة وتخضع لتنظيم محكم، وتوفر فرصًا هائلة للعمل التطوعي وتعزز روح التضامن المجتمعي. في هذا السياق، تلعب العتبتان الحسينية والعباسية دورًا محوريًا، ليس فقط في الإشراف الروحي، بل أيضًا في إدارة الخدمات الأمنية، الصحية، واللوجستية على نطاق واسع.
اقتصاديًا، تمثل هذه المواسم ما يسميه الخبراء "الاقتصاد الموسمي المجتمعي"، حيث تعيد الشعائر تشكيل النشاط التجاري المحلي، وتحفز قطاعات متعددة من الغذاء والنقل إلى الطباعة والإيواء، مع مساهمة واضحة للقطاع غير الرسمي. هذه الديناميكية الاقتصادية، وإن كانت مؤقتة في زمنها، إلا أن أثرها يمتد ليعيد توزيع الحركة السوقية ويؤكد قدرة المجتمع العراقي على تحريك اقتصاده الداخلي دون الاعتماد الكامل على الدولة.
ثقافيًا وإعلاميًا، لعبت الكاميرا دورًا جوهريًا في توثيق هذا التحول. فالمصورون لا يلتقطون صورًا جمالية فحسب، بل يوثقون لحظات تاريخية تكشف تطور الشعائر من فضاء محدود إلى مساحة عامة مفتوحة، تحمل أبعادًا إنسانية عميقة، من مشاهد الحزن والدموع إلى لحظات العطاء والخدمة. الصورة هنا ليست مجرد توثيق، بل شهادة بصرية على مسار التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مرت بها هذه الشعائر خلال العقدين الأخيرين.
في المحصلة، أصبحت الشعائر الحسينية في العراق اليوم ظاهرة مركّبة، تتجاوز كونها ممارسة دينية إلى كونها مؤسسة جماهيرية متعددة الأبعاد، تملك بنية تحتية متقدمة، وحضورًا عالميًا، وقدرة على التأثير في المجتمع والاقتصاد والثقافة. هذا التحول يستدعي دراسات معمقة لفهم آلياته وتحدياته، ولضمان استمرار هذا الزخم دون فقدان الروح الشعبية الأصيلة التي انطلقت منها هذه الشعائر قبل قرون.