من الطلاسم إلى تيك توك.. ظاهرة تتغذى على الجهل والحرمان.. لماذا تلجأ النساء إلى السحرة والمشعوذين؟

انفوبلس..
في تصاعد لافت لجهود مكافحة السحر والشعوذة في العراق، أصدرت محاكم عدة أحكامًا بالسجن بحق مدانين بممارسات احتيالية استهدفت النساء عبر أساليب روحانية مزعومة. وبينما تتوسع الظاهرة إلى الفضاء الرقمي، تتصاعد الدعوات لتشريع قانون خاص وتجفيف منابع الجهل والفقر التي تغذيها.
ويوم أمس، أصدرت محكمة جنايات البصرة الأولى، حكماً بالسجن المؤقت لمدة خمس سنوات وشهر واحد، بحق اثنين من المتهمين بممارسة السحر والشعوذة والاحتيال المالي والجنسي، بعد ضبطهما بالجرم المشهود من قبل مديرية استخبارات مكافحة الجريمة المنظمة.
وقال رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة البصرة، عقيل الفريجي، إن الحكم الصادر جاء وفقاً لأحكام المادة (5/أولاً) من قانون مكافحة البغاء والشذوذ الجنسي رقم 8 لسنة 1988، المعدّل بالقانون رقم (15 لسنة 2024)، مضيفاً أن القضية تمثل "محاكمة عادلة ومنصفة" بحق المتهمَين وإنصافاً للضحايا والمجتمع.
وأوضح الفريجي، أن المتهمَين استخدما أساليب احتيالية وأعمال سحر وشعوذة لاستدراج عدد من النساء، بهدف الابتزاز الجنسي والحصول على مبالغ مالية، مؤكداً أن المديرية أطلقت حملات موسعة لملاحقة ممتهني هذه الأفعال في المحافظة.
ولفت إلى أن الظاهرة لم تعد تقتصر على الأزقة والأحياء الشعبية، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي، حيث يستخدم بعض الدجالين والعرافين منصات التواصل الاجتماعي لبث فيديوهات مضللة توهم الضحايا بقدرات خارقة، من أجل تحقيق مكاسب مادية.
وأشار الفريجي إلى أن اللجنة الأمنية في المحافظة على أهبة الاستعداد لدعم جهود مديرية مكافحة الجريمة المنظمة وجميع الأجهزة الأمنية في التصدي لمثل هذه الظواهر الخطيرة.
وفي أواخر الشهر الماضي، أعلنت مديرية الجريمة المنظمة في واسط، عن الحكم 10 سنوات بحق متهم بالسحر.
وقالت المديرية في بيان، إنه "تم الحكم بالسجن عشر سنوات على متهم أُدين بممارسة السحر والشعوذة"، دون الكشف عن مزيد من التفاصيل.
وفي السابع من الشهر ذاته، أعلنت شرطة محافظة البصرة، اعتقال متهم بالسحر والشعوذة بحوزته كتب وطلاسم يستخدمها في أعماله لاستدراج النساء.
وقال قيادة شرطة البصرة في بيان إن "مفارز قسم شرطة الحسين ومركز الفراهيدي تمكنت من القبض على متهم يمارس السحر والشعوذة ويحتال على المواطنين، مستدرجًا بعض النساء بادعاءات كاذبة".
وأضافت القيادة، أن "المتهم ضُبط بحوزته طلاسم وكتب تُستخدم في أعمال الدجل".
ودعت القيادة، المواطنين إلى "الحذر من هذه الأساليب، وعدم التعامل مع مدّعي السحر، والإبلاغ الفوري عنهم لحماية المجتمع من الاستغلال والخداع".
وفي الرابع من حزيران الماضي، أصدرت محكمة جنايات ذي قار، حكما بالسجن لمدة ست سنوات بحق مدان مارس اعمال السحر والشعوذة واستدراج النساء.
وذكر إعلام القضاء في بيان أن "المتهم مدان مارس اعمال السحر والشعوذة واستدراج النساء بقصد ابتزازهن".
وتابع، أن " الحكم صدر بحقه وفقا لأحكام المادة 6/ثانيا/سابعا من قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 28 لسنة 2012".
وقبلها بيوم واحد، أفاد مصدر أمني، باعتقال ثلاثة أشخاص بتهمة "السحر والشعوذة" في محافظة ميسان.
وقال المصدر إن "وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية قسم مكافحة الاتجار بالبشر والاعضاء البشرية في ميسان قام بحملة وفق اوامر قضائية على المشعوذين والسحرة في المحافظة".
وأضاف "تم إلقاء القبض على ثلاثة اشخاص بالجرم المشهود مع كتب ومخطوطات ومواد تستخدم لأغراض السحر والاعمال الروحانية".
وبحسب حقوقيين ومختصين في القانون العراقي لا يجرّم السحر بحد ذاته ولا يعترف بوجوده وانما يعتبره نوع من انواع النصب والاحتيال الذي يهدف الساحر او المشعوذ من ممارسته الحصول على نفع غير مشروع لنفسه إضرار بالآخرين باعتبار أن جوهر النصب هو الخداع وبهذا يكون القانون قد أهمل الركن المعنوي ونظر الى الركن المادي فقط باعتبارها وسيلة من وسائل النصب الواردة، على سبيل الحصر بالمادة (456) من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنه 1969 أولا: يعاقب بالحبس كل من توصل الى تسلُّم أو حيازة مال منقول مملوك للغير لنفسه او الى شخص آخر وذلك بإحدى الوسائل التالية:
-استعمال طرق احتيالية
-اتخاذ اسم كاذب او صفة غير صحيحة او تقرير أمر كاذب عن واقعة معينة متى كان من شأن ذلك خداع المجنى عليه وحمله على التسليم.
ويضيفون، إنه كان الأجدر على المشرع العراقي أن ينظر الى الموضوع بجدية وأن يخصص له مواد مستقلة ومفصلة كونه أصبح من أكثر الطرق الاحتيال والإيذاء انتشاراً في المجتمع الذي يعاني من الجهل والفقر ونقص الوازع الديني والأخلاقي.
وبحسب مراقبين فإن الانتشار المتزايد للسحر والشعوذة في العراق أصبح مثارًا للقلق، خاصة وأن هذه الظاهرة لم تعد مقتصرة على المناطق الريفية فقط، بل انتشرت أيضاً في المدن الكبرى.
ويرصد متابعون للشأن العراقي ومختصون في الشأن الاجتماعي تزايداً ملحوظاً في حالات اللجوء إلى السحر والشعوذة في العراق، إذ تشير تقارير إلى أن العديد من النساء تتوجه إلى العرافين والمشعوذين بحثاً عن حلول لمشاكل شخصية واجتماعية، ما أثار قلقاً واسعاً بين الأوساط الاجتماعية والدينية في البلاد.
وقبل فترة، ألقت قوات الأمن في إقليم كردستان القبض على مشعوذ أوهم عشرات النساء بإطالة قاماتهن، جامعا ثروة طائلة، وبحسب مصدر أمني فإن إحدى النساء قدمت بلاغاً ضد المشعوذ بعد أن منحته مبلغ 2000 دولار مقابل طقوس ونوع من الشراب يساعد على إطالة قامتها بقدر 20 سنتيمتراً.
وأضاف المصدر، أن “فريق التحقيق اكتشف أن المشعوذ احتال على العشرات من النساء، وجمع ثروة كبيرة من هذه العملية”.
وأكدت مديرية أسايش في بيان لها أن “مفارز قضاء خليفان تمكنت من الإطاحة بالمشعوذ الذي كان يدّعي المعرفة بالطب النبوي وشفاء الأمراض النفسية والجلطات القلبية والدماغية وأمراض المعدة والكلى والهرمونات، وتطويل القامات”.
ويرى مختصون أن سبب ذهاب النساء إلى هؤلاء السحارين، فيعود إلى عدة عوامل نفسية واجتماعية، فغالباً ما تبحث النساء عن حلول سريعة لمشكلاتهن العاطفية أو الصحية أو حتى لتحقيق أحلامهن وطموحاتهن.
وفي مجتمع يعاني من ضغوطات اقتصادية واجتماعية، يصبح البحث عن أي وسيلة للراحة أو النجاح أمراً مغرياً، وهو ما يدفع العرافين والمشعوذين إلى استغلال هذه الأوضاع ويعدون النساء بتحقيق المستحيل مقابل مبالغ مالية كبيرة، مما يزيد من تعقيد المشكلة.
وفي مسعى لمواجهة هذه الظاهرة، أطلقت وزارة الداخلية العراقية حملة واسعة لتعقب هؤلاء السحارين والمشعوذين، حيث تهدف الحملة إلى توعية المجتمع بمخاطر هذه الممارسات وتقديم الدعم للضحايا الذين تعرضوا للاستغلال.
كما تتضمن الحملة إجراءات قانونية صارمة بحق المشعوذين والعرافين، والتعاون مع الجهات الأمنية لضبطهم وتقديمهم للعدالة.
بدورها ترى الباحثة الاجتماعية منى العامري، أن “انتشار ظاهرة السحر والشعوذة يعكس الأزمة النفسية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع العراقي، ما يوجب العمل على تعزيز الوعي المجتمعي وتقديم الدعم النفسي للنساء اللواتي يتعرضن للاستغلال”.
ودعت العامري إلى التركيز على تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية لتقليل الحاجة إلى اللجوء لمثل هذه الممارسات، باعتبارها أن الدافع اليها هو تحقيق الآمال والتطلعات، المرتبطة أغلبها بالمال، وإن كان الكثير منها خارج هذا الإطار”.
ويشدد مختصون على ضرورة أن تأخذ منظمات المجتمع المدني على عاتقها توعية الأفراد بمخاطر السحر والشعوذة، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، فضلاً عن أهمية تعزيز دور الإعلام في نشر الوعي والتصدي لهذه الظاهرة، بالإضافة إلى تشديد الرقابة القانونية على المشعوذين والعرافين
وتفتح سلسلة الأحكام القضائية الأخيرة في البصرة وذي قار وواسط وميسان ملفاً شائكاً طالما أُغلق بالعرف المجتمعي أو وُوجه بتجاهل قانوني، يتعلق بظاهرة السحر والشعوذة وما يرافقها من احتيال مالي واستغلال جنسي ونفسي لضحايا، غالبيتهم من النساء الباحثات عن حل لمشكلة أو تحقيق حلم.
ورغم أن قانون العقوبات العراقي لا يعترف بالسحر كجريمة قائمة بذاتها، بل يدرجه ضمن جرائم النصب والاحتيال وفق المادة 456، إلا أن تكرار الحوادث، وما تكشفه بيانات وزارة الداخلية والمحاكم، يُبرز الحاجة لتحديث تشريعي يستوعب خطورة هذه الممارسات وآثارها الاجتماعية، ويتعامل معها بمواد قانونية واضحة وصريحة، تأخذ بالاعتبار البُعدين المادي والمعنوي للجريمة.
المقلق في الأمر أن هذه الظاهرة لم تعد محصورة في الأزقة الشعبية أو المناطق النائية، بل اتخذت بعداً رقمياً، حيث يستغل بعض المشعوذين منصات التواصل الاجتماعي لبث أوهامهم عبر فيديوهات ومقاطع مدفوعة أو مشاهد "مباشرة" تهدف إلى استدراج الضحايا بوعود باطلة، مثل حل العقد الزوجية، جلب الحبيب، إبطال السحر، أو حتى "تطويل القامة" كما حدث في إقليم كردستان، حيث احتال أحدهم على عشرات النساء عبر وصفات وسوائل مزعومة، مقابل آلاف الدولارات.
الملاحظ أن الغالبية العظمى من ضحايا هذه الممارسات هنّ من النساء. وتكشف الحوادث المعلنة عن نمط استهداف مقصود للمرأة العراقية التي تعيش حالة من الضغط الاجتماعي أو الانكسار العاطفي أو الضعف النفسي. ويلجأ هؤلاء النسوة ــ غالبًا ــ بدافع العوز أو الخوف أو الطموح، إلى "حلول سهلة" يجدنها في زيف العرافين والمشعوذين، فيقعن في شباك الاستغلال المالي أو الجنسي أو النفسي.
هذا الواقع يكشف فشلاً مزدوجاً: فشل في احتواء الاحتياجات النفسية والاجتماعية للمرأة، وفشل في الحماية القانونية من أشكال الخداع والاستغلال الجديدة، خاصة في ظل غياب تشريعات صريحة تجرم السحر بذاته لا فقط نتائجه.
حتى الآن، لا يزال القانون العراقي يتعامل مع السحر باعتباره مجرد "وسيلة احتيال"، لا كجريمة ذات بعد روحي ونفسي يمكن أن تهدد الأمن الاجتماعي. هذه النظرة التقليدية تفتح ثغرات خطيرة أمام من يتقن لغة الخداع ويجيد اللعب على أوتار العاطفة والاحتياج.
ويرى خبراء قانونيون أن الركن المعنوي ــ أي النية الإجرامية ــ لا يزال مغيبًا في التعاطي القانوني مع هذه القضايا، ما يجعل من الصعب تصنيف كثير من الحالات ضمن جرائم الاحتيال إلا إذا توفرت أدلة مادية صارخة، وهو ما يمنح المشعوذين هامشاً واسعاً للإفلات من العقاب.
في الأشهر الأخيرة، أبدت وزارة الداخلية بعض التحركات الجادة عبر حملات مداهمة وبيانات تحذيرية، إلا أن حجم الظاهرة يتطلب ما هو أبعد من ردود الفعل الأمنية. إذ لا تكفي الحملات الموسمية ولا الاعتقالات المحدودة، ما لم ترافقها استراتيجية وطنية شاملة تبدأ من التعليم وتنتهي بالقانون، مروراً بالإعلام والمجتمع المدني.
من الضروري أن يتصدى الإعلام الوطني لهذه الظاهرة بوصفها تهديداً للسلم المجتمعي، لا مجرد قصة مثيرة للجدل. فمهمة تفكيك خطاب "الخرافة" و"الروحانية التجارية" تقع على عاتق الإعلاميين، كما أن منظمات المجتمع المدني مطالبة بمدّ يد الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، خصوصاً النساء اللواتي يتعرضن للاستغلال المتعدد الأوجه.
توسع السحر والشعوذة في بلد مثل العراق لا يعكس فقط وجود أفراد مخادعين، بل يُشير إلى أزمة عميقة في بنية المجتمع: أزمة ثقة، وأزمة وعي، وأزمة قوانين، وأزمة خدمات. فحين تفشل الدولة في توفير العدالة والرعاية والطمأنينة، يبحث المواطن ــ وخاصة المرأة ــ عن "بدائل" زائفة، يجدها أحياناً عند دجال يرتدي عباءة الدين أو العِلم أو "الطب النبوي".
في بلد يعيش أزمات سياسية واقتصادية مستمرة، باتت ظاهرة السحر والشعوذة أكثر من مجرد قصة جانبية، بل هي مرآة لانهيار المعايير والضوابط، وضعف الوازع الأخلاقي والديني، وتآكل ثقة الناس في المؤسسات. ولهذا، فإن المطلوب ليس فقط ملاحقة المشعوذين، بل تشخيص أسباب الظاهرة جذريًا، وخلق بيئة واعية ومُحصّنة قانونياً وفكرياً واجتماعياً ضد هذا النوع من الخداع المنظم.