من ثورة العشرين إلى دحر داعش.. عشائر الجنوب صمام أمان العراق هدف لحملات تحريض إلكترونية ممنهجة على منصات التواصل

انفوبلس/..
في العقود الماضية، شكّلت العشائر في جنوب العراق إحدى أهم دعامات الاستقرار المجتمعي، ومصدرًا للأمان والسلم الأهلي، بل وكانت دومًا في الخطوط الأمامية للدفاع عن الأرض والعرض في كل مراحل التاريخ الوطني الحديث. ومع ذلك، باتت اليوم تُستهدف بشكل منظم ومتصاعد على مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال حملات تحريضية، تارة تحت غطاء “الحداثة” وتارة أخرى بذرائع مناطقية أو طائفية أو عشائرية مشبوهة، ما يثير القلق بشأن أبعاد وأهداف هذا الاستهداف، ومن يقف وراءه.
في هذا التقرير، نغوص في خلفية هذا التحريض المتصاعد، ودور العشائر الجنوبيّة في الحفاظ على السلم الأهلي، وكيف تحولت من صمام أمان إلى مادة للتحقير الرقمي، في وقت أحوج ما تكون فيه الدولة إلى إعادة بناء وحدتها الداخلية.
*العشائر الجنوبية: تاريخ ناصع من التضحيات
منذ اندلاع ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، كانت عشائر الجنوب في مقدمة من تصدّى للاحتلال، وشهدت مدن كربلاء والنجف والمثنى والناصرية بطولات رجال العشائر الذين قاوموا الغزاة بأسلحة بسيطة وإيمان راسخ. تلك الثورة، التي تحوّلت إلى رمز للكرامة الوطنية، لم تكن لتتحقق لولا التلاحم بين العشائر وشيوخها وبين عامة الناس من فلاحين وحرفيين ومثقفين، حيث كان الانتماء إلى العشيرة حينها قرينًا بالانتماء للوطن.
وفي العقود اللاحقة، ظلّت العشيرة حاضرة في محطات مصيرية، مثل انتفاضة 1991، حين انتفضت عشائر الجنوب ضد القمع والاستبداد. ومرورًا بسنوات الاحتلال الأميركي بعد 2003، لعبت العشائر أدوارًا مزدوجة: مرة في التصدّي للفوضى الأمنية، ومرة في احتواء النزاعات المجتمعية، خصوصًا في ظل انهيار مؤسسات الدولة وفقدان الثقة بالسلطات.
لكن الدور الأهم تمثل في الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، حيث خرج آلاف من أبناء العشائر الجنوبية متطوعين إلى جبهات القتال، وقدموا قوافل من الشهداء دفاعًا عن العراق، لا عن مناطقهم فحسب. ورغم أنهم لم يكونوا مستهدفين بشكل مباشر كما كان الحال في مناطق الشمال والغرب، فإنهم قاتلوا ببسالة دفاعًا عن وحدة العراق، متجاوزين الانتماءات المناطقية أو الطائفية.
*مؤسسات الإصلاح الاجتماعي البديلة
في ظل ضعف القضاء العراقي في فترات ماضية كثيرة، كانت العشيرة تلعب دورًا قضائيًا غير رسمي، من خلال “الگعدة العشائرية” التي تحكم بين الناس وتحل الخصومات وفق أعراف راسخة تحفظ الحقوق وتمنع سفك الدماء. لعبت هذه المجالس دورًا مهمًا في منع تطور الخلافات الصغيرة إلى صراعات دامية.
لم تكن العشائر بديلًا عن القانون، لكنها كانت صمّام أمان حين غاب القانون، وملاذًا للناس حين فشلت الدولة في أداء مهامها. وهي حتى اليوم لا تزال تؤدي هذا الدور في مناطق كثيرة من الجنوب، حيث تعمل على وأد الفتن المجتمعية، واحتواء النزاعات، وإصلاح ذات البين.
لكن هذه الوظيفة المجتمعية النبيلة لم تشفع للعشيرة في زمن “الترندات”، فقد وجدت نفسها اليوم هدفًا لحملات تسقيط ممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي.
*التحريض الرقمي: أدوات شيطنة العشيرة
في السنوات الأخيرة، ومع تنامي دور مواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام، شهدنا تصاعدًا في حملات التحريض ضد العشائر الجنوبية. تتضمن هذه الحملات: (تصوير العشيرة كرمز للتخلف والرجعية، ربطها بالعنف المسلح والسلاح المنفلت، وصمها بأنها سبب لتفشي “العرف” على حساب القانون، واتهامها بعرقلة المدنية والتحوّل الديمقراطي).
وتنطلق هذه الحملات غالبًا من حسابات وهمية أو صفحات ذات طابع ليبرالي أو علماني مزعوم، لكنها في كثير من الأحيان تموّل أو تُدار من خارج العراق. وما يثير الريبة هو التوقيت المتزامن لهذه الحملات، إذ تنشط عادة في أوقات الأزمات السياسية أو الاحتجاجات أو النقاشات الدستورية، ما يرجّح وجود أجندة سياسية وأمنية خلفها.
*أهداف خبيثة خلف التحريض
التحريض الرقمي ضد عشائر الجنوب ليس مجرد تنفيس غضب أو ممارسة نقد اجتماعي، بل هو جزء من استراتيجية أكبر تهدف إلى ضرب النسيج الاجتماعي العراقي. ويمكن تلخيص أهداف هذا التحريض بما يلي:
1. تفكيك المجتمع من داخله: من خلال ضرب البنى التقليدية التي تمثل روابط تضامن اجتماعي قوية، مثل العشيرة، يصبح المجتمع هشًا وأكثر عرضة للاختراقات الأمنية.
2. إضعاف الحشد الشعبي: كثير من أبناء العشائر الجنوبية هم في صفوف الحشد، واستهداف عشائرهم هو استهداف غير مباشر للحشد كمؤسسة مقاومة وطنية.
3. تهيئة الأرضية للتقسيم المجتمعي: بإشاعة خطاب مناطقي يوحي بأن الجنوب “عنيف” أو “غير مدني”، يُمهّد لفكرة الفصل الجغرافي أو الاتهام بالاستحواذ السياسي.
4. تمرير مشاريع سياسية مريبة: حين يُشوّه وجه العشائر، يصبح تغييبها عن المشهد السياسي أمرًا مقبولًا، ويفتح المجال لقوى غير متجذرة اجتماعيًا لتتصدر الساحة.
*الردّ الشعبي والدفاع عن إرث العشيرة
رغم الضخ الرقمي الكبير، إلا أن الكثير من أبناء الجنوب من مثقفين وناشطين ورجال دين وشيوخ عشائر، بدأوا يردّون على هذا التحريض بالأدلة والبراهين، ويُذكّرون بأمجاد العشائر وتضحياتها. كما نشطت في الآونة الأخيرة مبادرات توثيقية تسعى لإحياء السردية الحقيقية عن دور العشائر، من خلال الأفلام الوثائقية، والبرامج التلفزيونية، والمنشورات الرقمية المدعومة بالشهادات.
*العشيرة والدولة: شراكة لا خصومة
ما يجب أن يُفهم جيّدًا أن العشيرة ليست نقيضًا للدولة، بل رافد مهما لها، إذا ما تم تنظيم العلاقة بشكل قانوني ومؤسساتي. فالعشيرة قادرة على: (حفظ السلم الأهلي في المناطق التي تغيب فيها الأجهزة الأمنية، منع تطور المشاكل الفردية إلى نزاعات دموية، المساهمة في إنجاح المصالحات المجتمعية الكبرى، تقديم قيادات ذات قبول اجتماعي واسع للمشاركة في الحكم المحلي).
ولذلك، فإن التحريض ضد العشائر لا يصب في مصلحة الدولة العراقية، بل يقوّض أحد أهم أعمدتها الاجتماعية. وعلى الحكومة أن لا تقف متفرجة، بل أن تُعزّز دور العشيرة عبر الاعتراف القانوني بالمجالس العرفية المشروعة، وتنظيم العلاقة بين الأعراف والقانون.
*لا تُحاربوا مَن حماكم
العشائر الجنوبية ليست ظاهرة عابرة أو مجرد بُنية تقليدية، بل هي جزء أصيل من الهوية الوطنية العراقية. هي التي قاومت المحتل، وحمت حدود الدولة، وحافظت على وحدة المجتمع، ووأدت الفتن، وقدّمت أبناءها شهداء في حرب داعش.
ومن يحرّض عليها اليوم، إمّا جاهل بالتاريخ أو مأجور في الحاضر. ومواقع التواصل، التي يفترض أن تكون منصات للتواصل والتقارب، تحوّلت عند البعض إلى أدوات تحريض وكراهية.
لكن ما لا يُدركه هؤلاء، أن العشيرة التي تجاوزت الاحتلالات والحروب والانقلابات، لن تهزّها حملة إلكترونية. العشيرة ليست خطرًا على الوطن، بل درعه الأخير حين تنكسر كل الدروع.