من زمن الحصار إلى عصر البطالة في حكومة السوداني: "العتاكة" مهنة العراقيين المنسيين.. هل من تغيير؟

انفوبلس/ تقرير
تُعد ظاهرة "العتاكة" أو تجارة السلع المستعملة، من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية التي تنمو بهدوء في المدن العراقية، لتصبح ملاذًا لعشرات الآلاف من الشباب والنساء الذين لم يتمكنوا من إيجاد فرص عمل بديلة خلال حكومة محمد شياع السوداني. هذه المهنة، التي يراها البعض عشوائية، باتت تشكل "اقتصاد ظل" حقيقيًا، يتأثر بالركود الاقتصادي ويواجه تحديات من القرارات الحكومية.
و"العتاكة" (من العتيق) هي مهنة قديمة يزاولها العديد من العراقيين خاصة إبان زمن الحصار الاقتصادي على العراق في تسعينيات القرن الماضي، إذ يلجأ الناس، خاصة الفقراء منهم، إلى جمع ما تيسر لهم من أغراض عتيقة مرمية في الشوارع، ويقومون بجمعها ثم بيعها لبعض المصانع كمواد أولية من الممكن إعادة صنعها واستخدامها من جديد.
ملاذ لعشرات الآلاف من الشباب والنساء في العراق
بحسب الخبير الاقتصادي منار العبيدي، فإن "العتاكة" تُعد اليوم ملاذًا لعشرات الآلاف من الشباب والنساء في العراق، ممن لم يجدوا فرص عمل بديلة، ولم يمتلكوا الحد الأدنى من المؤهلات العلمية أو المهارات المهنية التي تؤهلهم للالتحاق بوظائف رسمية أو في القطاع الخاص. إنها ليست مجرد مهنة عشوائية، بل ظاهرة اجتماعية واقتصادية متنامية تسير بهدوء بين أزقة المدن وشوارعها دون أن تلتفت إليها الدولة أو المجتمع.
رغم بساطتها الظاهرة، تلعب هذه الفئة دورًا حيويًا في عجلة الاقتصاد الوطني، وخصوصًا في قطاع إعادة التدوير. وتشير بيانات استيراد دول مثل تركيا، إيران، الصين، الإمارات والسعودية إلى تزايد ملحوظ في استيرادها لأنواع متعددة من المخلفات العراقية، مثل:
مخلفات الورق
مخلفات الألمنيوم
مخلفات الحديد
مخلفات الأخشاب
وغيرها من المواد القابلة لإعادة التدوير
ويقول العبيدي، إنه كل صنف من هذه المخلفات يفتح المجال أمام سلاسل تشغيلية توفر ما لا يقل عن 20 الف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، مما يجعل هذا القطاع غير الرسمي أحد أكبر مولدات فرص العمل، خاصة في ظل محدودية البدائل.
وبسبب تسارع النمو السكاني وضعف قدرة الاقتصاد الرسمي على استيعاب الأيدي العاملة الجديدة، إضافة إلى محدودية التعليم والتدريب، أصبحت هذه المهنة خيارًا شبه وحيد للكثيرين، ما أدى إلى زيادة التنافس عليها بشكل لافت، وفقا للعبيدي الذي أشار الى انه رغم أهمية هذا القطاع، إلا أنه يعمل خارج نطاق رقابة الدولة، بل ويتعرض أحيانًا لهيمنة شبكات منظمة تقسم مناطق النفوذ حسب نوع المخلفات وطبيعة المواد، وتفرض رسومًا وإتاوات على العاملين فيه، ما يعكس وجود اقتصاد خفي موازٍ يفتقر إلى التنظيم والعدالة.
ويضيف العبيدي، إنه مع تزايد الاستهلاك المحلي وتنامي حجم المخلفات، إلى جانب ارتفاع أعداد الباحثين عن العمل، من المتوقع أن يزداد اعتماد القطاع الصناعي – خاصة الصناعات التحويلية – على المواد الأولية المستخرجة من هذا النشاط. ومع ذلك، لا توجد حتى الآن رؤية حكومية واضحة لمعرفة أين تذهب هذه المخلفات، وكم تبلغ قيمتها الحقيقية، ومن المستفيد من تصديرها، ولماذا لا تُعاد معالجتها داخل العراق لتحقيق قيمة مضافة محليًا.
ويؤكد، "لسنا بصدد المطالبة بتنظيم هذا القطاع بشكل بيروقراطي، لكن لا بد من أن تعي الدولة أن "العتاكة" أصبحت، بالنسبة لآلاف العراقيين، الفرصة الوحيدة المتبقية لكسب لقمة العيش. فهي تمثل شريحة منسية من المواطنين الذين حُرموا من التعليم والتدريب، ولم يجدوا طريقًا آخر سوى جمع المخلفات والعمل على بيعها لتأمين حاجاتهم الأساسية".
"نخاطر بحياتنا بحثا عن لقمة العيش"
يقول إبراهيم خلف، وهو شاب أسمر يبلغ من العمر (30 عاما) إن "المهنة التي نعمل عليها ليست سهلة بل هي أصعب المهن وخاصة ونحن نبحث في بقايا مواد أو حديد ونعمل على نقل ما نجده عبر سيارات صغيرة لبيعها بالوزن الى التجار، لنربح ونجني المال فنحن يطلقون علينا (العتاكة) وهي لغة محلية تدل على اننا نبحث عن الاشياء القديمة العتيقة لبيعها وجني الاموال فهكذا نحن نخاطر بحياتنا بحثا عن لقمة العيش".
وعن الكميات التي يجنون منها من العمال يقول خلف، إن "الرزق على الله نخرج في الفجر ونعود في المغيب وفي كل يوم يصل معدل جمعنا الى نحو 30 كغم من الحديد وبعد جمعه نقوم بنقله الى موقع الجملة حيث يتم بيعه حسب الكميات ويصل سعر حمولة السيارة الى 100 دولار في اليوم وفي ايام نحصل على 50 دولار واقل وهو رزق من الله".
وتُعد البطالة المرتفعة، خاصة بين الشباب، أحد أبرز الأسباب التي تدفعهم نحو هذه المهنة. فغياب الوظائف الحكومية أو في القطاع الخاص، يدفع الأفراد إلى البحث عن مصادر دخل بديلة، حتى لو كانت من خلال جمع وبيع المخلفات والسلع المستعملة، بحسب خبراء اقتصاد.
في زمن الانتخابات
تكفل "العتّاكة" و"الدَوّارة" في شوارع بغداد و15 محافظة عراقية، باستثناء إقليم كردستان، برفع صور المرشحين واللوحات الإعلانية للقوائم المرشحة في الانتخابات العراقية بعد انتهائها، لاستخدامها كمواد أولية أو لبيعها، لكنهم بهذا الفعل جنبوا المرشحين أيضاً عناء رفع هذه الدعايات والعقوبات القانونية في حال تركها بالشوارع والحدائق العامة حسب قانون الانتخابات.
وفي هذا السياق، قال أحد "العتّاكة" الملقب "حسوني أبو الحديد" (20 عاماً) من محافظة كربلاء، إن "فترة الانتخابات تمثل موسماً لجميع العتاكة والدوارة الذين يتسابقون فيما بينهم لجمع أكثر كمية من الحديد خاصة من القطع الدعائية الكبيرة الحجم".
وأضاف "حسوني"، "حصلت من بيع الحديد على 200 ألف دينار خلال الانتخابات الماضية، أما في الأيام العادية فلا يتعدى ما أكسبه في اليوم الواحد 10 آلاف دينار، لذلك نستعد في فترة الانتخابات ونعمل بسرعة فائقة لاستغلال فرصة كسب المال الكثير بوقت قصير دون جهد يذكر".
من جهته، أشار الحداد أبو علي (45 عاماً) من محافظة بغداد، إلى أن "تكلفة إنشاء إطار الدعاية الانتخابية يختلف حسب الحجم، وعموماً فإن تكلفة الصورة ذات الحجم المتوسط من 20 إلى 25 ألف دينار، أما الأحجام الكبيرة فهي تتخطى حاجز 100 ألف دينار"، مبيناً أن "سعر السكراب الذي يشترى من العتاكة فهو من 3 آلاف دينار وصعوداً، حسب نظافة الحديد".
بدوره، أكد الخبير القانوني، أحمد العبادي، أن "رفع الهياكل الحديدية من مسؤولية المرشح نفسه سواء فاز في الانتخابات أو خسر فيها، أما في حال تركها فهي مباحة ويمكن للجميع أخذها ولا تعتبر سرقة، صحيح هي ملك لأشخاص ولكن هؤلاء الأشخاص تركوها، كما هي في الوقت نفسه ليست ملكاً للدولة، لذلك يمكن للعتاكة الاستفادة منها".
وبين العبادي، أن "من واجب المرشح رفع دعاياته الانتخابية بعد الانتخابات مباشرة، لأن في قانون انتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات والأقضية رقم 12 لسنة 2018 المعدل بالمادة 26 ثانياً تنص: إن على الأحزاب أو التنظيمات السياسية أو الفرد المرشح بقائمة منفردة إزالة ملصقات الدعاية الانتخابية بموجب تعليمات تصدرها المفوضية".
ولفت إلى أن "تعليمات المفوضية تنص على أن المرشحين والأحزاب السياسية والتحالفات إزالة مفردات الدعاية الانتخابية خلال 30 يوماً من اليوم التالي للاقتراع، وبعكسه يتم إزالتها وتحميلهم كلفة إزالة المخالفات وتستقطع من مبلغ التأمينات المودع لدى المفوضية، وفي حال عدم تغطية المبلغ يطالب المخالف بتسديد المبلغ المتبقي خلال 10 أيام، وبخلافه يتم اتخاذ الإجراءات القانونية بحقه".
وتعتاش أعداد غفيرة، على حطام السلع والأدوات المنزلية فضلاً عن وظيفة اشتهرت خلال السنوات الماضية عرفت بجمع "قناني"، المشروبات الغازية التي يصل قيمة الكيلو جرام منها نحو 3 آلاف دينار عراقي بما يعادل نحو دولارين. ويعاني العراق من زيادة سكانية بلغت مؤخراً نحو 45 مليون شخص يقابلها انعدام في الخدمات وضعف معاشي تسبب بارتفاع نسب الفقر والبطالة إلى مستويات خطيرة.
والخلاصة، فإن "العتاكة" لم تعد مجرد مهنة، بل تحولت إلى ظاهرة اجتماعية واقتصادية تعكس التحديات التي يواجهها المجتمع العراقي. وعلى الرغم من أن هذه المهنة قد توفر دخلاً لآلاف الأفراد، إلا أنها تشير في الوقت نفسه إلى فشل السياسات الاقتصادية في توفير فرص عمل مستدامة ومناسبة لجميع فئات المجتمع.