من غرفة العمليات إلى ثلاجة الموتى.. قصة نور صلاح كريم التي دخلت المستشفى مشياً وخرجت جثة في تابوت

انفوبلس/..
في صباح يومٍ عادي من تموز اللاهب، حزمت نور صلاح كريم أملها في حقيبة صغيرة، قبّلت أولادها الثلاثة، وربما قالت لهم ما تقوله كل أمّ حين تغادر: “راح أرجعلكم بخير”. لم تكن تعلم أن تلك القبلة هي الوداع الأخير.
كانت نور، ذات الثلاثين ربيعًا، قد قرّرت أن تخضع لعملية جراحية لتقصير المعدة، بعد معاناة طويلة مع الوزن الزائد. رأت إعلانًا على فيسبوك لطبيب يدعى تحسين الثويني، يروّج لنفسه كخبير متمكن، يستخدم “جهازًا ذكيًا لا يمتلكه أحد سواه في العراق”، ويعمل في “المستشفى الدولي” وسط بغداد. لم تتردد كثيرًا؛ توجّهت إليه، وسرعان ما أقنعها بأن عملية قص المعدة لا تكفي، وأن حالتها “خطيرة وتحتاج تحويل مسار كامل”.
“بس عملية بسيطة وتطلعين بنفس اليوم”، قال الطبيب وهو يعدها بكل ما يُطمِئن. وافقت نور، رغم أن كلفة العملية كانت باهظة: 32 مليون دينار. باعت العائلة كل ما يمكن بيعه، حتى خاتم زواجها وأثاث غرفتها، أملاً في بداية جديدة.
دخلت نور غرفة العمليات… ولم تخرج كما دخلت.
*التفاصيل
وتصاعدت قضية وفاة الشابة العراقية نور صلاح كريم بعد خضوعها لعملية تحويل مسار المعدة في مستشفى الدولي ببغداد، وسط اتهامات مباشرة وعلنية من ذوي الضحية للطبيب المشرف على العملية تحسين الثويني، متّهمين إياه بالإهمال الطبي الجسيم والتضليل و”القتل العمد تحت غطاء طبي”.
نور، وهي أم لثلاثة أطفال، دخلت المستشفى بوزن 110 كغم بنيّة إجراء عملية قصّ معدة فقط، لكنها اصطدمت بإصرار الطبيب على إجراء عملية تحويل مسار، زاعمًا أنه الخيار الوحيد لحالتها، ومطالبًا بمبلغ 32 "ورقة"، مع وعود باستخدام جهاز “نادر عالميًا”، على حد وصفه.
ووفقًا لشهادة عائلتها، فإن العملية التي وُعدت أن تكون بسيطة ولا تستغرق أكثر من 90 دقيقة، امتدت إلى أكثر من ثلاث ساعات، لتخرج نور بعدها في حالة حرجة، وتعاني من تقيؤ متكرر لمواد صفراء وسوداء وخضراء، في وقت كان الطبيب يؤكد أن “كل شيء طبيعي”.
رغم التدهور السريع في حالتها، رفض الطبيب نقلها لأي مستشفى آخر أو إجراء فحوصات شاملة، مصرًا على بقائها تحت إشرافه. وعندما ساءت حالتها، تم نقلها إلى مدينة الطب متأخرة جدًا، حيث دخلت العناية المركزة وهي في حالة خطيرة.
*صدمات متتالية وموت غامض
يوم 29 تموز، أعلن الطبيب لذويها أنه سيجري لها “ناظور فموي”، لكنهم فوجئوا لاحقًا أنه أجرى عملية جراحية من الصدر حتى البطن دون علمهم أو موافقتهم، وبرّر ذلك باكتشاف “فطريات في الأمعاء” داخل المسار المحوَّل.
تم نقل نور بعد ذلك إلى مستشفى الكوري بدعوى حاجتها إلى جهاز تنفس صناعي متطور غير متوفر في مدينة الطب، لتتدهور حالتها سريعًا وتموت هناك مساء يوم الجمعة 31 تموز، وسط تضارب في التصريحات وتكتم شديد من الطبيب.
*هروب الطبيب والتعامل المهين مع الجثة
بحسب ذوي الضحية، فقد هرب الطبيب تحسين الثويني من الباب الخلفي للمستشفى بمجرد إعلان الوفاة، وتم إخراج جثمان نور من الباب الخلفي مثل الوفيات المجهولة، دون تنسيق مع العائلة أو بيان واضح عن أسباب الوفاة.
العائلة، التي صُدمت من خبر الوفاة، كشفت أن الجثة تم وضعها في ثلاجة الموتى من دون علمهم، ولم يتم التعامل معها بشكل لائق، رغم أن التحقيقات أثبتت لاحقًا أن نور لم تكن تعاني من أي مرض عضوي أو مزمن قبل العملية.
ذوو نور أعلنوا رفع دعوى قضائية ضد الطبيب تحسين الثويني ومستشفى الدولي، مطالبين بتقرير طب عدلي شفاف، ومؤكدين أن كافة الفحوصات التي سبقت العملية تؤكد أن الفقيدة كانت سليمة تمامًا.
“ما نريد فصل ولا دية”، هكذا عبّر أهل نور عن موقفهم، ورفضوا عروضًا مالية قُدمت إليهم عبر وسطاء من الطبيب خلال مراسم العزاء، مؤكدين: “بتنه منبدلها بفلوس الدنيا”.
وحمّلت العائلة، النظام الصحي في العراق مسؤولية تكرار مثل هذه المآسي، في ظل غياب الرقابة والمحاسبة على الأخطاء الطبية، وطالبت القضاء العراقي بالحكم بالإعدام للطبيب “حتى يشعر بوجعنا ووجع جهالها الأيتام”، على حد قولهم.
*الأخطاء الطبية
ويتكرر في العراق بين الفينة والأخرى تسجيل حالات الوفاة من جراء أخطاء طبية خلال العمليات الجراحية خاصة، أو بفعل مضاعفات جراحات تجميلية مثل شفط الدهون، ويفترض أنها آمنة نسبياً.
ومن أحد أكثر هذه الجراحات المرتبطة بتلك الحالات هي جراحة قص المعدة، حيث يتوالى تسجيل حالات وفيات بسببها في العديد من المستشفيات الخاصة بالعديد من المحافظات العراقية.
ويأتي ذلك وسط تصاعد الدعوات من قبل المواطنين للارتقاء بالقطاع الصحي المتهالك، وبتغليظ العقوبات على مرتكبي الأخطاء الطبية، وتشديد الرقابة على المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية والخاصة، وخاصة فيما يتعلق بجراحات التجميل والتنحيف.
*رأي قانوني
ويقول الخبير القانوني العراقي محمد السامرائي: "انتشرت مع الأسف بالآونة الأخيرة الأخطاء الطبية بشكل واسع بالعراق لأسباب عديدة، أهمها الإهمال وعدم الالتزام بالآليات والقواعد الطبية من قبل مرتكبيها، علما بأن العمل الطبي الجراحي بهدف المعالجة، مباح قانونا وفقا لأحكام المادة 41 من قانون العقوبات".
*تعريف الخطأ الطبي
"الأخطاء الطبية تتمثل وفق القانون العراقي في الإهمال والرعونة أو عدم اهتمام أو عدم أخذ الحيطة والحذر، وعدم الالتزام بالقانون، وفق المادة 35 من قانون العقوبات العراقي"، كما يشرح الخبير القانوني.
وأضاف: "لا بد من أن تكون العمليات الجراحية تقتضيها المحافظة على الحياة وأن تكون ضرورية وملحة، لذلك وبموافقة المرضى أو ذويهم بعد قيام الأطباء بتنبيههم بمخاطر العمليات".
*عقوبة التسبب بوفاة
"فإذا ما لحق ضرر بالمريض أو توفي، بنتيجة استشارات خاطئة أو صرف علاجات غير صحية، أو إجراء عمليات جراحية خاطئة، وبشكل مباشر أو بمضاعفات فإن الخطأ الطبي هو السبب، والطبيب أو مقدم الخدمة الصحية يقع تحت طائلة المسؤولية القانونية، فإن حصلت وفاة عن طريق الخطأ الطبي، وفق المادة 411 من قانون العقوبات، فالعقوبة هي بالحبس لمدة تتراوح ما بين سنة إلى 5 سنوات"، وفق السامرائي.
*عقوبة التسبب بعاهة مستديمة
وتابع: "أما إذا ترتب على الخطأ الطبي أضرار أو عاهة مستديمة، فالعقوبة هي بالحبس لمدة لا تزيد على سنتين، وفق المادة 2/416 من قانون العقوبات".
ويتابع المستشار القانوني: "تزايد حالات العاهات المستديمة والوفيات نتيجة الأخطاء الطبية التي تمثل خروجا عن قواعد المهنة وأصولها، يستدعي الاسراع بتعديل قانون العقوبات وتشديد بنوده كي تكون رادعة للمستهترين بأرواح المواطنين".
*مواكبة تطور التشريعات الطبية
"ولهذا على البرلمان تشريع قانون المسؤولية الطبية، والذي يجب أن يتضمن بيان العمليات الجراحية المحظورة، وتشكيل لجان مركزية لتلقي الشكاوى عن الأخطاء الطبية، كون العراق يفتقر لمثل هكذا قانون مهم، قياسا بالتطور التشريعي الطبي بمعظم دول العالم"، كما يطالب السامرائي.
ويختم المتحدث: "فنطاقات العمل الطبي وجراحاته تطورت واتسعت، وبات لدينا بالعراق تزايد بوتيرة العمليات الجراحية التجميلية والتنحيفية، وهي غير مغطاة قانونا".
*ماذا تقول "الصحة"؟
يقول مدير عام بوزارة الصحة العراقية نبيل حمدي بوشناق: "كغيره من دول العالم فإن ثمة أخطاء طبية تقع بالطبع في العراق، وبعضها ربما يتم خلطها مع مضاعفات العمليات الجراحية التي قد لا تكون بالضرورة بفعل خطأ طبي، حيث أن أي عملية جراحية تترتب عليها ولا شك مضاعفات تتراوح حدتها وخطورتها تبعا لطبيعة العملية والحالة الصحية للمريض وغير ذلك من تفاصيل كل حالة، بل حتى أن أي حبة دواء نأخذها عادة لها أعراض جانبية".
*من هب ودب يصبح جراحاً
ويضيف المسؤول الصحي العراقي: "علاوة على أن كثيرا من العمليات الجراحية التجميلية مثلا أو المشابهة لعملية قص المعدة، وخاصة في عدد من المستشفيات والعيادات الخاصة، تجري بأيد غير آمنة وغير محترفة، حيث كل من هب ودب في غالبية المستشفيات الأهلية يقوم بإجراءاها، فمثلا نحن كوزارة صحة نمنع إجراء عمليات غير ضرورية في المستشفيات الحكومية، من قبيل عمليات قص المعدة مثلا أو تعديل حاجز الأنف وتجميله، أو تصغير الثدي أو تكبيره، وغيرها من عمليات لا تعتبر منقذة للحياة، وعدم إجراءها أصلا لا يشكل خطرا حتى".
*ماذا عن الرقابة الطبية؟
وتابع: "المستشفيات الخاصة هي تحت رقابة نقابة الأطباء، ورغم أن النقابة أيضا متقيدة عامة بتعليمات ولوائح الوزارة حول شروط إجراء العمليات الجراحية المختلفة، لكن مع ذلك قد يحدث أحيانا خرق لها وإخلال من قبل مستشفيات القطاع الخاص".
*عمليات قص المعدة نموذجا
"مثلا في عمليات قص المعدة يتم أحيانا وضع كابسات زهيدة الثمن لربطها، لكنها قد تفلت داخل المعدة فيما بعد مسببة نزيفا حادا بسبب رداءتها وقلة جودتها، فمتوسط تكلفة عملية ربط المعدة يبلغ نحو 5 آلاف دولار أميركي، لكن عندما يتم إجراءها مثلا بمبلغ 3 آلاف دولار، فإن هذا يعني ولا شك استخدام مواد وأدوات طبية رخيصة الثمن وغير آمنة"، كما يشرح بوشناق.
*آليات المحاسبة على الخطأ الطبي
يقول المتحدث: "في حالة وقوع أخطاء طبية خلال مثل تلك العمليات، نرجو من المتضررين من ذلك اللجوء لنا، نحرص ولا ريب على الدفاع عنهم وإحقاق حقوقهم وتعويضهم، ومحاسبة مرتكبي تلك الأخطاء الطبية، عبر الجهات القضائية".
*جشع على حساب صحة الناس
ويتابع المسؤول الصحي: "وهكذا فبفعل الجشع لدى البعض في الوسط الطبي مع الأسف، والتنافس غير الشريف والبعيد عن أخلاق مهنة الطب النبيلة بين أطباء ومستشفيات خاصة، يتم إجراء عمليات كبيرة كجراحة تكميم المعدة بأدوات رديئة، وبطرق لا تستوفي الشروط الصحية الصارمة اللازم توفرها، سعيا وراء زيادة الأرباح على حساب صحة المرضى وسلامتهم".