موت جماعي وجراحات لم تندمل.. المقابر الجماعية في العراق.. من الإرث القمعي الصدامي الى مجازر الإرهاب الداعشي

انفوبلس/..
منذ عقود، والعراق يعاني من صراعات دموية متتالية تركت خلفها إرثاً مرعباً من الانتهاكات والمآسي الإنسانية، ولعل أبرز الشواهد على هذه الفصول الدامية هي المقابر الجماعية التي امتلأت بآلاف الضحايا الذين اختفوا قسرًا أو أُعدموا خارج إطار القانون. هذه المقابر ليست مجرد حُفر في الأرض، بل هي شواهد على معاناة أجيال كاملة من العراقيين الذين وجدوا أنفسهم عالقين بين أنظمة قمعية وتنظيمات إرهابية حولت البلاد إلى ساحة قتل جماعي.
تكشف التقارير الرسمية عن اكتشاف أكثر من 221 موقعًا للمقابر الجماعية في أنحاء العراق، تضم رفات آلاف الضحايا الذين قضوا في مراحل مختلفة من تاريخ البلاد. ورغم الجهود المستمرة لفتح هذه المقابر وانتشال الجثث، إلا أن العدد الهائل منها يجعل المهمة شاقة، حيث لم يُفتح حتى الآن سوى 134 موقعًا، بينما لا تزال 87 مقبرة جماعية غير مفتوحة، وسط تحديات أمنية وتقنية وسياسية.
إرث النظام البائد: القمع والموت الجماعي
منذ أواخر السبعينيات، وحتى سقوط النظام في 2003، كانت عمليات الإعدام الجماعية والقمع السياسي وسيلة رئيسية لإحكام السيطرة على البلاد. عشرات الآلاف من العراقيين، وخاصة من والشيعة والمعارضين السياسيين والكرد، اختفوا دون أثر، ليُعثر على رفاتهم بعد سنوات في مقابر جماعية انتشرت في مناطق مختلفة من العراق، لا سيما في الجنوب والشمال.
في تلك الحقبة، لم تكن المقابر الجماعية مجرد أحداث معزولة، بل كانت سياسة ممنهجة لإرهاب الشعب وإسكات المعارضين. حملات الإبادة التي استهدفت الأكراد خلال عمليات الأنفال في أواخر الثمانينيات، والتي راح ضحيتها آلاف الأبرياء، تسببت في ترك إرث من الألم ما زال صداه يتردد حتى اليوم. كما أن الانتفاضة الشعبية عام 1991 ضد النظام أدت إلى عمليات قمع شرسة دُفنت خلالها جثث آلاف العراقيين في مقابر جماعية لم تُكتشف إلا بعد 2003.
التقارير تشير إلى أن إجمالي عدد المواقع التابعة لتلك الفترة وصل إلى 96 موقعًا، منها 80 موقعًا تم فتحه، بينما لا تزال 16 مقبرة غير مفتوحة حتى الآن. عدد الرفات التي تم انتشالها من هذه المواقع بلغ 4451 ضحية، فيما تشير التقديرات إلى أن العدد الحقيقي قد يكون أكبر بكثير.
الإرهاب والمجازر الجديدة: جراح لم تلتئم بعد
إذا كان النظام البائد قد خلّف وراءه إرثاً من المقابر الجماعية، فإن الفوضى التي أعقبت سقوطه فتحت الباب أمام موجة جديدة من الجرائم الجماعية، هذه المرة على يد الجماعات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش الاجرامي. فمنذ عام 2014، ومع سقوط الموصل ومدن أخرى في قبضة هذا التنظيم، شهد العراق واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه الحديث، حيث تحولت بعض المناطق إلى ساحات إعدام جماعي، خاصة ضد الأقليات مثل الإيزيديين، فضلًا عن استهداف القوات الأمنية والمدنيين الرافضين لحكم التنظيم.
التنظيم استخدم أساليب وحشية في تنفيذ عمليات الإعدام الجماعي، حيث كانت تتم تصفية المئات في حفرة واحدة، وأحيانًا كان يتم حرق الجثث أو إلقاؤها في الأنهار لإخفاء الأدلة. إحدى أكبر الفظائع التي ارتكبها داعش كانت مذبحة سبايكر، حيث تم إعدام أكثر من 1700 شاب من طلاب القاعدة العسكرية في تكريت بطريقة بشعة، ليُدفنوا في مقابر جماعية لم يُكتشف الكثير منها إلا بعد تحرير المدينة.
تشير الإحصائيات إلى أن عدد المقابر الجماعية التابعة لتنظيم داعش بلغ 125 موقعًا، منها 54 موقعًا مفتوحًا، بينما لا تزال 71 مقبرة غير مفتوحة حتى الآن. عدد الرفات التي تم انتشالها من هذه المقابر تجاوز 3258 ضحية، لكن العدد الفعلي قد يكون أكبر بكثير، خاصة مع وجود مقابر جماعية لم يتم الوصول إليها بعد في المناطق التي كانت تحت سيطرة التنظيم.
نوعان من المقابر
في هذا السياق، قال مدير عام المقابر الجماعية في مؤسسة الشهداء، ضياء كريم: إن "هناك نوعين من المقابر الجماعية، الأولى الخاصة بجرائم حزب البعث ومن أبرز المواقع التي تضم المقابر الجماعية هي الموجودة في بادية السماوة وتضم المقابر الجماعية أعداداً كبيرة جدا وجميعهم من النساء والأطفال، بالإضافة الى ان هذه المقابر حجمها صغير وأعداد الضحايا فيها كبير جدا مما يدل على ان عملية الإبادة كانت بشكل بشع جدا، بحيث تكون العظام مختلطة ومتداخلة مع بعضها"، لافتا الى أن "عدد المواقع الكلي قبل وبعد العام 2003 بلغ (221) موقعاً بواقع (96) موقعاً للنظام البعثي و(125) موقعاً من قبل الإرهاب وعصابات داعش، والعدد الكلي للمواقع المفتوحة بلغ (134) موقعاً، بواقع (80) موقعاً للنظام البعثي و(54) موقعاً من قبل الإرهاب وعصابات داعش، فيما بلغ العدد الكلي للمواقع غير المفتوحة (87) موقعاً بواقع (16) موقعاً للنظام البعثي و(71) موقعاً من قبل الإرهاب وعصابات داعش".
وتابع أن "العدد الكلي للمقابر المفتوحة بلغ (300) موقعا بواقع (160) مقبرة للنظام البعثي و(140) من قبل الإرهاب وعصابات داعش، فيما بلغ العدد الكلي للرفات المرفوعة (7709) رفات بواقع (4451) رفاتاً للنظام البعثي و(3258) رفاتاً من قبل الإرهاب وعصابات داعش"، منوها الى ان "المواقع غير المفتوحة قبل 2014 بلغ (10) مواقع أما بعد العام 2014 فبلغ عدد المواقع غير المفتوحة (61) موقعاً".
مقابر الإرهاب
وأشار كريم الى أن "أبرز المواقع تخص ضحايا جرائم الإرهاب أو داعش هو مقبرة (بئر علو عنتر) في الموصل، وهذه المقبرة ضمت حالات كثيرة للضحايا وأيضا كانت الجثث والرفات غير متفسخة بل كانت أشبه بالمحنطة لأسباب علمية كون الأرض منخفضة وتمت عمليات القتل في الشتاء، ولا تزال هناك أعداد كبيرة"، موضحا أن "عملية رفع الجثث في هذه المقبرة لا يزال قائما، ومن المؤمل أن تتم العودة اليها في شهر أيار المقبل لرفع ما تبقى من الرفات".
إجراءات حكومية
وبين، "أن دائرة حماية المقابر الجماعية ماضية بإنشاء سجل موحد للمفقودين وبمجرد انه يتم انتهاء السجل ستتم معرفة أعداد الضحايا المفقودين في العراق وعلى مدى السنوات التي سبقت 2003 وما بعد 2003"، منوها الى أن "أحدث مقبرة تم الوصول اليها هي بادية السماوة وأثناء عملية فتح القبر الثاني كانت هناك عمليات تحليل للصور الجوية واستكشاف للمنطقة المحيطة بهذا القبر وتم بعدها الوصول الى مواقع اخرى جديدة ولا تزال هناك من 7 الى 8 مواقع أخرى".
وأشار كريم الى أن "هذا الملف مهم جدا ويحتاج الى تضافر الجهود والعمل في مناطق نائية ما زالت تشهد خروقات أمنية في ظروف بيئية صعبة وأعماق كبيرة ورفات متداخلة ما يتطلب تخصيصات مالية وكوادر بشرية، فضلاً عن الحاجة الى دعم المجتمع الدولي لأن العمل لا يقتصر على فتح المقابر فقط، إنما توثيق لمسرح الجريمة وتوثيق لحالة إجرامية تتمثل بارتكاب جريمة إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية فبالتالي المجتمع الدولي جدا مهم ان يكون نافذة لانطلاق هذا التوثيق".
حقوق
وفي هذا الصدد، قال رئيس مؤسسة الشهداء عبد الإله النائلي أن "قانون مؤسسة الشهداء وقانون ضحايا الإرهاب تضمنا مجموعة من الحقوق المادية والمعنوية لذوي الشهداء تبدأ بالراتب التقاعدي لجميع شرائح الشهداء سواء كانوا شهداء النظام البعثي المباد أو شهداء الإرهاب أو شهداء الحشد الشعبي والأجهزة الأمنية"، مشيرا الى ان "جميع هؤلاء متساوون بالرواتب ويتسلمون مليوناً و200 ألف دينار شهرياً وكذلك ضمنا لهم قطعة أرض سكنية وكذلك شمول ذوي الشهداء بقانون الضمان الصحي والرعاية الاجتماعية".
وأضاف أن "مؤسسة الشهداء لا تستطيع تغطية جميع عائلات الشهداء بسبب قلة التخصيصات"، لافتا الى أن "المؤسسة تعمل على تفعيل صندوق الشهداء الذي تأسس العام 2024 لدعم البرامج الخاصة بذوي الشهداء".
وأوضح النائلي أن "المؤسسة أطلقت رابط الضمان الصحي لذوي الشهداء عبر بوابة أور ومن ثم تقوم المؤسسة بفرز الأعداد بالاتفاق مع المستشفيات داخل البلاد وخارجها لضمان الرعاية لعائلات الشهداء، فضلاً عن توثيق انتهاكات النظام المباد وانتهاكات داعش والقاعدة والإرهاب"، مبينا أنه "تمت المصادقة على عوائل الشهداء وتم إنشاء السجل الوطني للمفقودين الذي تعمل عليه دائرة المقابر الجماعية من اجل إحصاء أعداد المفقودين سواء في زمن النظام البعثي المباد أو المفقودين بعد العام 2003 من اجل توثيق هذه الانتهاكات التي ارتكبت بحق الشعب العراقي للمطالبة بالاستحقاقات المالية لذوي الضحايا".
المحكمة الجنائية
من جانبه دعا الخبير القانوني، عباس العقابي الحكومة الى إعادة النظر بالعودة للانضمام الى المحكمة الجنائية الدولية.
وقال العقابي: إن "العراق عانى من مسألة عدم انضمامه الى المحكمة الجنائية الدولية المعنية بمحاكمة المطلوبين الدوليين لأنه انسحب من هذه المحكمة في العام 2005"، مشددا على "أهمية عودة العراق الى هذه المحكمة وكذلك الانضمام الى اتفاقية روما حتى تستطيع المحكمة محاكمة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم ضد الشعب العراقي لأن من شروط هذه المحكمة أن تكون معنية بالقضايا للدول الأعضاء فيها".
المحاكم
من جهته، قال الخبير القانوني، حيدر الظالمي إن "الدولة عملت بكل الوسائل لإنصاف المتضررين من جرائم الإبادة الجماعية التي قام بها النظام البعثي من خلال تشكيل المحكمة الجنائية العليا وفق قانون رقم 10 لعام 2005 لمحاكمة أزلام النظام الإجرامية وكذلك النظر بجميع الجرائم التي ارتكبت بحق المواطنين، ولكن قانون هذه المحكمة هذا تم إلغاؤه وأصبحت المحكمة هيئة تابعة لمجلس القضاء الأعلى، وتحولت القضايا المتعلقة بتلك الجرائم من صلاحيات محكمة الجنايات المركزية".
وتابع، إن "الحكومة تطمح لمعالجة العديد من تلك الجرائم التي لا تزال غير معالجة من خلال هيئة المساءلة والعدالة وكذلك القبض على بعض المجرمين الذين يمثلون قيادات كبير في النظام المباد والتحقيق معهم في الأماكن التي تمت بها الإبادات الجماعية".
إلى ذلك قال المحلل السياسي، علي التميمي إن "العراق يجب أن ينضم الى اتفاقية روما التابعة للمحكمة الجنائية الدولية حتى يتمكن من المحاسبة الدولية لمرتكبي الجرائم في العراق منذ العام 2003 ومحاكمة جميع المجرمين لأن هذه الجرائم لا تسقط بالقدم".
تحديات
ورغم مرور سنوات على تحرير العراق من النظام السابق ومن داعش، لا تزال قضية المقابر الجماعية تمثل تحديًا كبيرًا للحكومة العراقية والمنظمات الإنسانية. فتح هذه المقابر وانتشال الرفات يتطلب فرقًا متخصصة وأدوات حديثة، كما يحتاج إلى دعم دولي، نظرًا لصعوبة عملية التعرف على الضحايا، خاصة في ظل غياب سجلات دقيقة أو وجود بقايا بشرية مشوهة بسبب الظروف البيئية.
التحدي الأكبر يكمن في التعرف على هويات الضحايا، إذ إن الكثير من الجثث التي يتم استخراجها تكون مجهولة، وهو ما يجعل من الصعب إعطاؤها هوية قانونية أو إعادة دفنها بكرامة. العديد من العائلات العراقية لا تزال تبحث عن أحبائها المفقودين، وتنتظر بفارغ الصبر نتائج التحليلات الجينية التي قد تمنحهم إجابة نهائية حول مصير أبنائهم.