مياه مهدورة.. وشوارع محفّرة: ظاهرة غسيل السيارات العشوائي تتمدّد في ظل أزمة شحّ غير مسبوقة
انفوبلس/ تقارير
وسط أزمة مائية خانقة تعيشها محافظات العراق، تتفاقم ظاهرة غسيل السيارات العشوائي عبر تكسير الأنابيب وحفر الشوارع لاستخراج المياه، في مشهد يُجمع سكان وخبراء على أنه اعتداء مباشر على الشبكة المائية والبنية التحتية، وسبب إضافي لهدر آلاف الأمتار المكعبة شهرياً من الثروة المائية التي يحتاجها ملايين المواطنين.
شوارع تتحول إلى محطات غسيل بدائية
على امتداد الطرقات السريعة وفي بعض الأزقة الداخلية، باتت مشاهد الشبان الذين يباشرون تكسير الأنابيب الرديفة أو حفر الأرض بحثاً عن أي منفذ مائي جزءاً من المشهد اليومي.
يتحرك هؤلاء بخراطيم ومضخات بدائية، يوقفون السيارات، ويعرضون خدمة الغسيل بأسعار رمزية، لتتحول الشوارع شيئاً فشيئاً إلى ما يشبه محطات غسيل بدائية مفتوحة على الهواء الطلق، تتدفق المياه بكميات هائلة بلا أي رقابة، وتختلط بالأتربة والزيوت ومخلّفات المركبات، قبل أن تتسرب إلى المجاري أو تتجمع راكدة فوق الإسفلت.
السكان يعتبرون هذه المشاهد “مظهراً صارخاً من الإهمال”، خصوصاً مع تفاقم شحّ المياه في محافظات عدة، بعضها لا تصلها المياه المنزليّة إلا مرة واحدة كل عشرة أيام. وفي ظل هذا النقص، يبدو المشهد أكثر استفزازاً حين تُهدر المياه في غسيل السيارات بينما آلاف الأسر تنتظر وصول صهريج ماء لملء خزاناتها.
وبالقرب من المفترقات الرئيسة، ينتشر شبان يحملون أدوات بسيطة، يوقفون سائقي المركبات، وما إن يوافق السائق حتى يبدأ العمل: كسر بسيط للطبقة السطحية من الطريق يكشف عن أنبوب مكسور سابقاً، أو يعمد الشبان أنفسهم إلى كسره عمداً لتتفجر المياه بصورة تبدو عشوائية لكنها مقصودة.
يقول أبو أحمد، وهو أحد سائقي الأجرة الذين يمرون يومياً بهذه المناطق: "باتت هذه المشاهد تتكرر كثيراً، ما يستدعي رقابة مستمرة وفرض غرامات؛ لأنه هدر واضح للمياه وإضرار بالبنية التحتية”.
أما السائق رعد عباس، فيشير إلى أن الظاهرة تنتشر غالباً في المناطق التي تفتقر إلى محطات غسيل نظامية أو حيث تغيب خدمات البلدية، مضيفاً: "غياب الرقابة يجعل الأمور أكثر تعقيداً، إذ لا توجد فرق تتابع المخالفات أو تمنع التعديات”.
هدر مائي وخسائر كبيرة في الشبكة
يرى موظفون سابقون في مديرية الماء أن ما يجري لا يمثل سلوكاً شعبياً عابراً، بل تهديداً مباشراً للشبكة المائية نفسها.
يقول علي عبد الله، الموظف السابق في المديرية: "كل نقطة ماء تخرج بهذه الطريقة تُسجّل كفاقد مائي، ومع تكرار الحالات نخسر آلاف الأمتار المكعبة شهرياً”.
ويضيف أن التعديات المتكررة على الأنابيب تُضعف الضغط داخل الشبكة، وتزيد من احتمالات تسرّب الملوّثات، فضلاً عن التكاليف المالية التي تتحملها الدولة لإصلاح الأعطال، فكل عملية كسر صغيرة تتحول لاحقاً إلى مشكلة كبيرة تستدعي حفراً وصيانة وربما استبدال مقاطع من الأنابيب.
ولا يقتصر الضرر على الهدر المائي، بل تؤدي عمليات الحفر العشوائي إلى ترك الشوارع محفّرة ومتهالكة، ما يعرّض السيارات والمارة للخطر.
كما أن انفجار المياه تحت التربة يؤدي إلى هبوط الأسفلت خلال أسابيع قليلة، مخلّفاً حفرًا وتشققات تتحول إلى مشاكل طويلة الأمد.
ويؤكد عبد الله أن معالجة الظاهرة تتطلب خطة متكاملة تشمل توفير محطات غسيل مرخّصة بأسعار مناسبة، تفعيل الدور الرقابي للبلديات لمنع التعديات، إطلاق حملات توعية بخطورة هدر المياه، إصلاح الشبكات المتهالكة ومراقبتها بشكل مستمر.
وفي محافظات تعاني من انقطاع شبه مستمر للمياه، تتضاعف حساسية المشهد.
تقول أم سيف من إحدى المحافظات الجنوبية: "ننتظر ساعات وصول سيارة الماء لنملأ الخزان، وهناك من يكسر الأنبوب ويغسل السيارات! هذا غير منطقي ولا مقبول”.
أما الحاج أبو حسين فيرى أن الظاهرة “تستحق الوقوف عندها بجدية”، لما لها من تأثير مباشر على البنية التحتية وعلى المورد الأهم للحياة وهو الماء.
تحذيرات متكررة.. ولا إجراءات حاسمة
الخبير في الزراعة والموارد المائية تحسين الموسوي يؤكد أن المشكلة ليست مجرد سلوكيات فردية، بل ترتبط أساساً بضعف الإدارة الحكومية للملف المائي.
ويشير الموسوي إلى تقرير البنك الدولي لعام 2022 الذي كشف أن نحو 70% من مياه الإسالة والاستخدامات البشرية تُفقد بسبب تدهور البنى التحتية والضغط السكاني.
ويشرح الموسوي بأن وزارة الموارد المائية “جهة فنية” دورها ينحصر في إيصال المياه الخام، بينما تتحمل أمانة بغداد والبلديات مسؤولية الاستخدام والخدمات داخل المدن، وهي الجهات التي تُحاسب على الهدر وسوء الإدارة.
ويرجع الموسوي انتشار ممارسات غسيل السيارات في الطرقات إلى ضعف الوعي وثقافة المياه، إضافة إلى غياب الحملات الإرشادية والرقابة الفاعلة، رغم التحذيرات المتكررة من تفاقم الأزمة المائية.
ويبين أن أحد الحلول المُفترضة كان اعتماد تعرفة مائية عادلة تساهم في الحد من التبذير، وقد طُرح مشروع مشابه في الوزارة، لكنه لم يُنفّذ بسبب ضعف الإجراءات.
ويرى أن اعتماد التعرفة سيغيّر سلوك المستهلك بشكل واضح، لأن الماء سيصبح ذا “قيمة” يشعر بها المواطن.
كما يشير الموسوي إلى تجربة إقليم كردستان في محطات غسل السيارات حيث تُستخدم أحواض لإعادة تدوير المياه، وهو نظام يمكن تطبيقه في باقي المحافظات وحتى في المنازل، لولا غياب الوعي والمتابعة.
ويؤكد أن قضية المياه ليست فنية فقط، بل قانونية وأخلاقية وشرعية، وتتطلب جهداً توعوياً واسعاً تشارك فيه المؤسسات الإعلامية والثقافية والدينية، إضافة إلى المدارس.
ويضيف أن الأمم المتحدة دعت إلى إدخال ثقافة الاستخدام الرشيد للمياه ضمن المناهج التربوية، وهو ما يعدّه “أحد أساسيات الحل”.
قوانين رادعة وغرامات قاسية
من الجانب القانوني، يقول الخبير القانوني علي التميمي إن تخريب الممتلكات العامة – بما فيها الأنابيب والشوارع والمنشآت الحكومية – يعد جريمة خطيرة يعاقب عليها القانون بشدة.
ويقول التميمي إن المادة 197 من قانون العقوبات قد تصل بالعقوبة إلى السجن المؤبد وقد تُشدّد لتصل في بعض الحالات إلى الإعدام، باعتبار أن الممتلكات العامة ملكٌ لجميع أفراد الشعب.
ويؤكد أن القانون يتعامل بحزم مع هذه الأفعال، وأن الأجهزة الأمنية والاستخبارية ملزمة بمتابعة الحالات وتطبيق الإجراءات؛ لأن الجرائم التي تستهدف الممتلكات العامة تمس أمن المجتمع واستقراره وخدماته.
ويضيف: “الهدف من العقوبة هو الردع وتحقيق العدالة الاجتماعية. من أمن العقاب أساء الأدب”.
وفي هذا السياق، أصدرت أمانة بغداد قراراً جديداً يهدف إلى تنظيم استخدام المياه الصالحة للشرب والحفاظ على الثروة الوطنية يقضي بمنع غسل السيارات في الشوارع العامة والرئيسة، مع تسجيل المخالفات من خلال توثيق رقم المركبة وإرسال بياناتها إلى مديرية المرور العامة لوضع قيد على المركبة.
وقال المتحدث باسم الأمانة عدي الجنديل إن الغرامة المفروضة على المخالف تصل إلى 500 ألف دينار، وهي غرامة تُعد بسيطة مقارنة بالكلفة الكبيرة لإنتاج المياه. ويبيّن أن من يغسل سيارته داخل منزله لا يشمله القرار.
وأضاف أن الأمانة مستمرة في حملات التوعية عبر وسائل الإعلام وبرامج الوعي المجتمعي، بهدف رفع مستوى الوعي بأهمية الحفاظ على المياه وتشجيع الاستخدام الرشيد لها، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات متزايدة تتعلق بالمناخ والانحسار المائي والسدود الخارجية.
في النهاية، وبين هدر المياه وتخريب الشوارع وكسر الأنابيب وتضرر البنية التحتية، تقف ظاهرة غسيل السيارات العشوائي شاهداً على تحدٍّ مركّب تتداخل فيه السلوكيات الفردية مع ضعف الرقابة وتراجع الوعي، تزامناً مع أزمة مائية تُعد الأخطر في تاريخ العراق الحديث.
