37 عاما على رحيل الاديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس.. أسّس الواقعية السحرية ولم ينَل نوبل
انفوبلس/ تقرير
يحلّ اليوم الأربعاء الموافق 14 حزيران/ يونيو ذكرى رحيل خورخي لويس بورخيس، كاتب الأرجنتين الأشهر، والمولود في 24 أغسطس من العام 1899، والذي يُعد من أشهر وأبرز كُتّاب أمريكا اللاتينية في النصف الأول من القرن العشرين، وأحد أهم كُتّاب الواقعية السحرية.
ومن أهم مؤلفاته: "كتاب الرمل"، "الصانع"، "سداسيات بابل"، "مرآة الحبر"، صنعة الشعر"، "وسم السيف"، "تقرير برودي"، "النمر الآخر" وغيرها.
وفي مقدمة ترجمته لكتاب "مرآة الحبر"، للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، يذهب الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم إلى أن: "يعتبر خورخي لويس بورخيس، باكورة الإحياء في القصة بأمريكا اللاتينية منذ إدجار آلان بو، عالم من الدهشة، نمور الحلم، هلوسات الوحشة، مديح الظلام، ومتاهات العدم والوجود.
تعرّفَ خورخي لويس بورخيس على ثقافات الشرق ــ العربية خصوصا ــ من الصغر وقال في هذا الصدد: "طفولتي كلها مرَّت من المكتبة ــ مكتبة أبي الكبيرة، سمح لي بقراءة أي الكتب حتى المحرّمة على سنّي.. قرأتُ "ألف ليلة وليلة" من أولها لآخرها، احتشدت بالسحر، كنتُ مأخوذا به، ثم اكتشفت أني لم أخرج قط عن هذه المكتبة، ولمدة طويلة شعرت أني غير كُفْء لكتابة القصص، رغم ذلك كانت النوع الذي فضّلته على الدوام.
يكاد لا يخلو أيّ حوار مع بورخيس، أو أي كتاب من كتبه، من إشارة إلى "ألف ليلة وليلة". وكان قد اكتشف هذا الكتاب في طفولته المبكرة بعدما قاده تسكُّعه الأدبي في مكتبة أبيه – هذا التسكُّع الذي يحدوه فضول لا نهاية له- إلى العثور على ترجمة بيرتن بالإنكليزية لهذا الكتاب. وهي ترجمة ذكر عنها الراحل: "ترجمة بيرتن الأنثروبولوجية والبذيئة محرَّرَةً بلُغة إنكليزية غريبة يعود قسم منها إلى القرن الرابع عشر، وهي إنكليزية مليئة بكلمات مهجورة وبألفاظ جديدة، إنكليزية لا تخلو من جمال وإن كان يعسر أحياناً فهمها".
وصل هَوَس بورخيس بـ"ألف ليلة وليلة" إلى درجة قراءة ترجماته كافة باللغات التي يعرفها: "نكاد نتحدث عن كتب عدة عنوانها "ألف ليلة وليلة": اثنان بالفرنسية، حرّرهما غالان وماردروس؛ وثلاثة بالإنكليزية بقلم بيرتن ولين وباين؛ وثلاثة بالألمانية بقلم هيننغ وليتمان وفييل؛ وواحد بالأسبانية لكاسينوس أسينس. وكل واحد من هذه الكتب مختلف عن الكتب الأخرى، إذ إن الألف ليلة وليلة لا تزال متواصلة، أو ما زالت تُعيد تشكيل نفسها".
ظهر وَلَع بورخيس بالأدب العربي، وبالقصص التي تدور أحداثها (الخيالية غالباً) حول حياة العرب في الشرق، حتى أنه في مقدّمات بعض قصصه استشهد بآيات من القرآن الكريم، كما في "مرآة الحبر"، "المعجزة السرّية"، "ابن حقّان"، واستوحى من "ألف ليلة" قصّته "حجرة التماثيل" التي دارت حول عرب إسبانيا.
يتميّز بورخيس بأسلوبه في الكتابة، وطريقة قراءاته الشاملة، وجُرأته في إزالة الحدود وكسر الإطار بين الأجناس الأدبية، عند كتابة القصائد – الدراسات، القصص – القصائد، أو الدراسات – القصص، أو هجومه على الرواية. فقد كان على رغم ذلك الأكثر تأثيراً في الروائيين، ووضعه جانباً، في النهاية، الخيال واللاخيال، جعل منه الكاتب الحامل راية الأدب المعاصر.
محطات في مسيرة خورخي لويس بورخيس الإبداعية
وُلِد خورخي لويس بورخيس في بيونس آيرس عام 1899، بعدها عاش في أوروبا حتى سنة 1921، حيث عاد إلى بلاده حتى رحيله في عام 1989، حياته الشخصية كانت غامضة وهادئة، كان أمين مكتبة في الضواحي، أبدله "بيرون" لفترة عملاً كمفتّش دواجن، وما إن سقط حتى قلّدوه منصب الأمين العام للمكتبة القومية بالإضافة إلى محاضراته عن الأدب الإنجليزي في الجامعة.
وظلّ خورخي لويس بورخيس، أحد شعراء الطليعة حتى أواسط الثلاثينيات، اتجه بعدها لكتابة القصة. وقد خَفَتَ نور عينيه سنة 1955 فكان يقول: "أنا كاتب يهتم بالشكل، منذ حين لا أستطيع القراءة أو الكتابة، فأقوم بتصميم النص في ذهني، ثم أفتّش عن الطرائق المؤدّية، ولمّا أجد الشكل قرب النهائي، أبدأ الإملاء".
سألوا خورخي لويس بورخيس لماذا لا يكتب الرواية؟، رد: "لا أستطيع، أنا كسول، والرواية تتطلب مجهودا.. ثم إننا نكتب ما نقدر عليه، المهم أن يبقى أربع أو خمس صفحات من كل ما يكتبه كاتب".
كانت الجائزة التي قاومته دائمًا هي جائزة نوبل للآداب. كما علّق أقرب دائرته، فإن الأسباب تشير إلى القضايا السياسية. قال آخرون إن أسلوبه كان مثقفًا جدًا كما أنه رائع لدرجة أنه لا يمكن منح هذا التمييز.
مهما كان الأمر، فإن هذا الكاتب الأرجنتيني الذي لم يفُز بجائزة نوبل لم يقلقه أبدًا. كان لديه أسلوبه الخاص، دائما لا لبس فيه. كانت القصة هي النوع المفضل لديه لأنه، كما قال، لم يجبر الكاتب على استخدام التعبئة، كما كان الحال، على سبيل المثال، مع الرواية.
خورخي لويس بورخيس لم ينَل طول عمره إلا جائزة متواضعة ــ فومنتور ــ مناصفةً مع صامويل بيكيت.
*كتاب المخلوقات الوهمية
وفي مقدمة كتاب "المخلوقات الوهمية"، يقول خورخي لويس بورخيس: "قد حصل لي بطريق السمع والبصر والفكر والنظم حِكَمٌ عجيبة، فأحببتُ أن أُقيّدها لتثبُتْ، وكرهتُ الذهولَ عنها مخافةَ أن تفلت. وعلى الناظر في كتابي هذا أن يعني في جمع ما كان مُبدّداً أو تلفيق ما كان مُشتّتاً، وقد ذكرتُ فيه أسباباً تأباها طِباعُ الغبيِّ الغافل، ولا ينكرها نفس الذكي العاقل، فإنها إن كانت بعيدةً عن العادات المعهودة والمشاهدات المألوفة لكن لا يستعظم شيء مع قدرة الخالق وجبلة المخلوق وجميع ما فيه من عجائب صُنع البارئ تعالى: "وذلك إما محسوس أو معقول، لا مَيْلَ فيهما ولا خلل، وإما حكاية ظريفة منسوبة إلى رواتها لا ناقة لي فيها ولا جمل، وإما خواص غريبة، وذلك مما لا يفي العمر بتجربتها ولا معني لترك كلها لأجل المَيْل في بعضها".
*خورخي لويس بورخيس الرجل غير المرئي
أما المترجم صالح علماني، فيذهب إلى أن خورخي لويس بورخيس، عندما وصل إلى جامعة هارفرد الأمريكية في العام 1967، كمحاضر زائر ليلقي سلسلة محاضرات عن الشعر، كان يُنظر إليه منذ زمن طويل، على أنه رأسمال ثمين، وبنبرته المميزة في التقليل من قيمة نفسه كان يؤكد على أنه: "رجل مغمور، نوع من "الرجل غير المرئي" في بلاده، أما معاصروه الأمريكيون فكانوا واثقين من أنه أحد الأسماء المكرَّسة للبقاء طويلا على مرّ السنين.
ووفقًا للناقد الأدبي إنجيل فلوريس، بدأت الواقعية السحرية مع قصة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عام 1935، لتأتي فيما بعد مجموعة من الأسماء ساهمت في بلورة هذه الحركة الفنية الأدبية، مثل كافكا، وميغيل أنخيل، ولورا إسكيفيل، وغابرييل غارسيا ماركيز، والرسّام ألفريد كاهلو وإدوارد هوبر وكذا جورج أوكفي، واليوم أصبحت الواقعية السحرية اتجاهًا شائعًا يعتمده كُتّاب وفنانون من مختلف أنحاء العالم.
الواقعية السحرية، أو الواقعية المتخيّلة، هي مقاربة في الفن والأدب تعتمد على نسج الخيال والأسطورة في الحياة اليومية الواقعية، بحيث يصبح ما هو حقيقي وما هو خيالي سيّاناً في عالم الواقعية السحرية.
تُعرف أيضًا بالواقعية العجائبية، وهي ليست أسلوبًا أو صنفًا معينًا في الأدب بقدر ما هي طريقة للتساؤل حول طبيعة الواقع، وترتبط عادة بالقصص والشعر والمسرحيات والأفلام، وكذا بالأعمال الفنية كالرسومات ومجسّمات النحت، حيث يعمد الفنان على تسليط رؤى خيالية بعيدة لمساءلة المجتمع والطبيعة البشرية، مما يعطي الأعمال التي تتجسد فيها الواقعية السحرية طابعا فريدا من الغموض والسحر الخاص.
إثارة الغرابة في ققص تتناول الناس العاديين، ليس بالجديد في تاريخ الحكي البشري، لكن الواقعية السحرية كاتجاه واضح المعالم بدأ مع أعمال إميلي برونتي سنة 1848، وقصة فرانس كافكا، الذي يصور شخصية عادية تحولت إلى حشرة عملاقة سنة 1915. وفي عام 1925 كان الناقد الألماني فرانز روه أول من صاغ مصطلح (Magischer Realismus- الواقعية السحرية) لوصف عمل الفنانين الألمان الذين يصورون الموضوعات الروتينية مع انفصال غريب عن الواقع، ومع ذلك لم تنشأ "الواقعية السحرية" كمدرسة متكاملة سوى في منتصف القرن العشرين مع الحركة الفنية والأدبية.
لا تزال أعمال الشاعر والأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس تشكّل حضوراً متميزاً في النسيج الثقافي العالمي والعربي، وتأثيراً كبيراً بين الأوساط الثقافية، حتى الآن، رغم مرور 37 عاماً على رحيله.
بالنسبة إلى شخصيّته، فكانت مُبهمة بمعنى ما، شأن كتاباته، فبين أعوام 1924 و1961 لم يغادر منطقة ريفر بليت أبداً. وكان لديه بعض المعارك والنزاعات الشخصية، واحتفظ باشمئزازه المديد والعلني لديكتاتور الأرجنتين خوان بيرون، ومن المعروف أنه عاش مع والدته حتى وفاتها عام 1975، ولم يكن موفّقاً في علاقاته مع النساء.