الخطر القادم من الشاشة.. رسائل تُهدد الحياة ووجوه بلا ملامح: حين يتحول الفضاء الرقمي إلى فخٍّ صامت للابتزاز

انفوبلس/..
في زمنٍ باتت فيه الهواتف الذكية أقرب إلينا من أقرب الناس، يتحول العالم الرقمي من فضاء للحرية والتواصل إلى حقل ألغام نفسي، تُزرع فيه التهديدات بالصمت، وتُطلق فيه شرارات الخوف من خلف شاشات لا وجوه فيها ولا أسماء. هنا، لا يطرق الخطر الأبواب بصوتٍ عالٍ، بل يتسلل عبر رسالة عابرة، حسابٍ غريب، أو صورة شاركناها ذات ثقة، فنُفاجأ بأنها قد أصبحت سلاحاً مصوّباً إلى رؤوسنا.
هذه ليست حكاية خيال مظلم أو قصة بوليسية. إنها واقع مؤلم يعيشه كثيرون، وخاصةً النساء والفتيات، في مواجهة ظاهرة تُعرف اليوم باسم “الابتزاز الجنسي الرقمي”، والتي تختبئ خلفها أشكال لا تُحصى من التهديد والضغط النفسي والعزلة.
*بين الزناد والخوف
نور الهاشمي (اسم مستعار)، فتاة من إحدى مناطق بغداد الشعبية، تبلغ من العمر اليوم 28 عاماً. لا تنسى تلك الليلة من عام 2017، حين فكّرت بجدية بإنهاء حياتها بعدما تلقت رسالة على “فيسبوك” من شخصٍ يهددها بنشر صورٍ خاصة، قال إنه حصل عليها من هاتفها القديم بعد بيعه في السوق.
“جبت السكين، وقعدت على الأرض، وكنت أسمع أمي تقرأ قرآن بالصاله.. فكرت: أخاف من الموت، لو من الفضيحة؟” تقول نور بصوتٍ منخفض.
بعد تردد مؤلم، أخبرت والدتها. كان ردّها صادماً بنبل عاطفته: “لو تنسجنين، لو يصير اللي يصير، أنا وياج، ولا تخافي”.
بمساعدة خالها، تواصلت نور مع وحدة مكافحة الجرائم المعلوماتية، وتم تتبّع الحساب، واكتُشف أن المبتز كان يعمل في أحد محال صيانة الموبايلات.
*حين يصبح الحبيب عدواً
في الموصل، مدينة خرجت لتوها من الحرب، وجدت “شهد” (اسم مستعار، 24 عاماً) نفسها في حرب من نوع آخر. بدأت العلاقة بينها وبين شاب على “إنستغرام” بشكل رومانسي، تبادلا الصور والرسائل، ثم بدأ كل شيء يتحول.
“طلب صور بدون حجاب بالبداية، بعدين طلب صوتي، بعدين فيديو.. حسّيت صرت مُلك إلَه، مو إنسانة حرة”، تقول شهد.
حين قررتُ قطع العلاقة، بدأ التهديد: “أنشُر كلشي، وأفضحج كدام اهلج”.
اختار أن يرسل صورة إلى أخيها عبر حساب وهمي. “انهارت الدنيا فوق راسي”، تقول. تدخل أحد المدرّسين الذي كانت شهد تثق به، وساعدها على رفع شكوى رسمية. لكن الضرر النفسي ما زال يلاحقها: “كل ما أشوف رقم غريب، قلبي يوقع، أحس إنه رجع”.
*وسائل التواصل: أدوات تهديد أم نافذة حرية؟
في العراق، مثل كل مكان آخر، تُشكّل تطبيقات مثل “فيسبوك”، “سناب شات”، و”تلغرام”، أدوات مزدوجة: بوابة للتعبير، ومنصة للتهديد.
لكن الخطر في العراق مضاعف، حيث تفتقر الكثير من الفتيات إلى الوعي الرقمي، ولا توجد ثقافة عامة حول الخصوصية. ومع الهواتف الذكية المنتشرة في كل الأيدي، وتحميل الصور بدون حماية، وسهولة اختراق الحسابات، تصبح أي فتاة مرشحة محتملة للابتزاز.
*الثقة والجهل: الثغرة التي يدخل منها المبتزّون
تقول الأخصائية النفسية ربى الجبوري، من كربلاء، إن الابتزاز الرقمي له وقعٌ نفسي شبيه بالاعتداء الجسدي: “الضحايا يعانون من نوبات هلع، كوابيس، رغبة بالانعزال، أو محاولة إيذاء النفس، والأسوأ هو الشعور بالذنب وكأنهنّ المسؤولات عما جرى لهن”.
تتابع: “الثقة الزائدة بالأصدقاء أو الأحبة، وعدم وجود حدود رقمية، تجعل البنات أكثر عُرضة للانكشاف”.
*أسباب الابتزاز: المال ليس دائماً الهدف
بحسب مصدر أمني رفض كشف هويته، فإن أكثر من 60% من حالات الابتزاز الجنسي الرقمي المُسجلة في بغداد وكربلاء والنجف والموصل، لم يكن فيها المال هو الغاية، قائلا: "بعض المبتزّين شباب صغار يريدون يثبتون نفسهم، أو ينتقمون من بنات رفضوهم. وبعضهم عندهم مشاكل نفسية عميقة، يستمتعون بإخضاع الطرف الآخر، ويشوفوها لعبة سيطرة”.
*الفراغ القانوني والخوف الاجتماعي
رغم وجود قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية العراقي الذي يتيح للضحايا تقديم شكاوى، إلا أن معظمهن لا يجرؤن على الوصول إلى مراكز الشرطة. تقول المحامية “أماني قاسم” من البصرة: “البنات يخافن من التشهير أكثر من القانون. يخافن من الأهل، من المجتمع، من نظرة هي السبب”.
وتتابع: “عندنا مشكلة في البنية الاجتماعية، وليست فقط في القانون. لازم تتوفر بيئة آمنة للبنت حتى تكدر تشتكي، حتى لو على زوجها أو أخوها أو صديقها”.
*الصمت القاتل: حين لا تجد من يسمعك
في حالة رُبى، طالبة جامعية في تكريت، وقعت ضحية لشخص استدرجها على تليغرام، ثم بدأ يهددها. لم تُخبر أحداً. أغلقت حسابها، ومسحت كل التطبيقات، وامتنعت عن الدراسة لمدة فصل كامل.
“ماكو أحد يسمع، الكل يتهم. واللي يسمع، يخاف يساعدك لأنه يقول ما أريد أتورط”.
اليوم، بعد عامين، بدأت رُبى تكتب قصتها على شكل خواطر على صفحتها الجديدة: “ما راح أظل ساكتة”.
*الحلول: من أين نبدأ؟
الخبير في الأمن الرقمي، عبد الحسين الدليمي، يقترح حزمة من الإجراءات:
• تعزيز التوعية الرقمية في المدارس والجامعات، خاصة للفتيات.
• تأسيس وحدات دعم نفسي واجتماعي داخل كل مديرية تربية.
• منح الضحية الحق الكامل في السرية والخصوصية أثناء التحقيقات.
• إطلاق حملات إعلامية تكسر تابوه “العار” المرتبط بالضحايا.