العلامة مرتضى العسكري بالذكرى الـ17 لرحيله.. مُنظِّر ومحقق تغلّب على كبار محاوريه.. كيف صحح التاريخ وفنّد الافتراءات على المذهب الشيعي؟
انفوبلس/ تقارير
في الذكرى السابعة عشرة على رحيله، تستذكر انفوبلس اليوم الباحث الكبير الراحل آية الله السيد مرتضى العسكري الذي أنفق عشرات الأعوام من عمره في سبيل البحث في علوم الكلام والتاريخ والحديث، وكانت الحصيلة مؤلفات وبحوث حظيت بالإقبال والاستحسان في كل العالم الإسلامي، وسجلت نجاحات قيّمة في إشاعة مدرسة أهل البيت عليهم السلام. فمَن هو؟ وماذا قيل بحقه؟ وما هي مؤلفاته ونشاطاته ومشاريعه؟ ومَن هم أساتذته وتلاميذه؟ وما تفاصيل رحلته إلى قم ثم عودته إلى سامراء؟ وكيف اهتم بالشأن التاريخي والديني ودرس حتى كتب السُنة؟ إليكم كل ما تريد معرفته عن العلامة مرتضى العسكري في سيرة كاملة تضعها انفوبلس بين أيديكم.
*مَن هو العلامة العسكري؟
هو السيد مرتضى بن محمد إسماعيل العسكري من العلماء والمحققين المعاصرين في الوسط العلمي الشيعي،بل الإسلامي، والذي امتاز بذهن وقّاد وقريحة ناقدة وبموضوعية عالية، بعيداً عن التعصُّب والتشدّد المذهبي والديني.
وُلد العلامة السيد مرتضى العسكري في 8 جمادى الآخرة من عام 1332 هـ/1914 م في مدينة سامراء وسط أُسرة علمية الكثير من رجالها هم من الفقهاء أو المحدثين في عصرهم، جدّه لأبيه آية الله السيد إسماعيل الحسيني (المتوفى 1306 ق) ابن السيد محمد كوجك ساوجي، وجدّه لأمّه آية الله الميرزا محمد شريف العسكري الطهراني (المتوفى 1371 هـ).
تسنّم أجداده منصب شيخ الإسلام - والذي يشبه إلى حدّ ما منصب إمامة الجمعة آنذاك- في مدينة ساوة الإيرانية بعد أن دعته الحكومة الصفوية إليها. وكما يُنقل السيد العسكري نفسه فإن الكثير من الناس قد اعتنقوا المذهب الشيعي بتأثير من أجداده.
يُلقب أعلام تلك الأُسرة بشيخ الإسلام إلا السيد مرتضى حيث لُقّب بالعسكري نسبة إلى ولادته في مدينة سامراء. توفي والده وهو لا يزال طفلا صغيرا فتكفّله جده لأمّه الميرزا محمد شريف العسكري الطهراني.
*دراسته والانتقال إلى حوزة قم
تعلّم العلامة العسكري القراءة والكتابة في بيت والده، وحين بلغ العاشرة من عمره دخل الحوزة العلمية في سامراء في عهد الميرزا الشيرازي وطوى فيها المنهج المتّبع آنذاك.
ومع بدء الحكم الدكتاتوري لرضا خان اضطر العلامة العسكري لترك مدينة سامراء سنة 1350 ق /1929م قاصدا مدينة قم في وسط إيران، وقد وصف السيد العسكري ذلك الانتقال بالتوفيق القهري، حيث قال: «طويت مرحلتَي المقدمات والأدب في سامراء حيث كنتُ اعتمد على ما يصلني من عائد ممتلكاتنا التي كانت لنا في مدينة ساوة، فلم أكن بحاجة إلى الأخذ من الحقوق الشرعية (سهم الإمام) شيئاً، ولما تصدى رضاخان أصدر أمراً بمنع تحويل الأموال إلى العراق فألمّت بي ظروف مالية صعبة تركتُ على إثرها سامراء متوجها إلى مدينة قم في عصر زعيمها الشيخ عبد الكريم الحائري ملقياً رحلي في المدرسة الفيضية وكانت تجمعني مع الشيخ علي الصافي حجرة واحدة.
*العودة إلى سامراء بعد قم
لم تستمر مدة إقامة السيد العسكري في قم كثيراً حيث اتخذ قراراً بالعودة إلى مدينة سامراء، ويظهر أن حوزة قم كانت آنذاك تفتقر إلى درسَي التفسير والحديث، فطلب السيد العسكري وجمع من الفضلاء من الميرزا خليل الكمرهأن يعقد لهم درساً في تفسير القرآن الكريم، إلا أن ذلك لم يرُق لسائر الطلاب فسعَوا إلى تعطيل الدرس، وقد نجحوا فعلا بتعطيل الدرس، الأمر الذي أثار حفيظة العسكري وأزعجه كثيرا فقرر العودة إلى سامراء.
*مدرسة سامراء
وكان للمنهج الذي اعتمده الميرزا الشيرازي في الدرس الحوزوي في سامراء الأثر الكبير في تمييز حوزة سامراء عن غيرها حتى عُرفت «بمدرسة سامراء». حيث أجرى الميرزا تحولات كبيرة في منهج التربية والتعليم هناك، تمثّل بضم علوم جديدة إلى جانب الدرس الفقهي والأصولي، كالفلسفة والحديث والتفسير والكلام و... فضلاً عن الاهتمام بالبعد الأخلاقي والتربوية وإعداد النفس وطريقة التعامل مع الناس سُنةً وشيعة، الأمر الذي أحدث تحولا كبيرا في حياة العلامة العسكري وخلق منه شخصية لا نظير لها تتميز بطريقة بحثية خاصة وفكر رصين.
يضاف إلى ذلك معرفة العلامة بالظروف الفكرية والسياسية والاجتماعية في إيران وما يقوم به رضا خان من بطش وتنكيل بالناس، إضافة إلى معرفته بالخارطة السياسية للنشاطات الحزبية والسياسية والثقافية في العراق، كل ذلك ساعد على رسم مسار العلامة الفكري والثقافي فكان جلّ همه منصبا على عملية التغيير وتحسين الظروف المعاشية والاجتماعية للشيعة خاصة والمسلمين عامة.
*إنشاء وتأسيس الجامعة
يعدّ العلامة العسكري من أوائل العلماء الذين أدركوا ضرورة التغيير في طريقة التدريس المعتمدة في البلدان الشرقية، وأن المنهج الذي أعدته المستشاريات الغربية للتدريس في الشرق لا يجدي نفعا ولا يمكنه أن يلبّي حاجات المجتمعات الشرقية ولا يجيب عن تساؤلات ومشاكل المجتمع الإسلامي، إن لم يكن عامل تخلف وتراجع للمجتمعات الإسلامية، ومن هنا عقد العزم – مستعينا بثلة من المؤمنين المنسجمين معه فكريا- على إيجاد تحوّل في الأسلوب التعليمي في الحوزة ليستطيع من خلاله ترويج وإشاعة المذهب الجعفري الحق.
وبهذا ضم العلامة العسكري الإصلاح العملي فضلا عن الإصلاح النظري وذلك من خلال توجهه نحو تأسيس كلية أصول الدين في بغداد والتي جعل من برامجها التدريسية مادة التفسير والحديث والعقائد والكلام الإسلامي المقارن، وجلب إليها نخبة من خيرة الأساتذة المتمرسين، إلا أن يد الإجرام البعثي طالت هذا الصرح العلمي الكبير لتوصد أبوابه أمام رواد العلم وتفشل مشروع العلامة العسكري.
*اهتمامه بالشأن التاريخي ومؤلفاته
عُرف عن العلامة العسكري اهتمامه بالشأن التاريخي الأمر الذي خلق منه محققا تاريخيا كبيرا انعكس إيجابا على مؤلفاته منذ السنين الأولى لحياته العلمية حيث صبّ اهتمامه على مطالعة كتب التاريخ والسيرة النبوية والفتن التي ظهرت في صدر الإسلام بالإضافة إلى قراءة الرحلات وقصص المستعمرين وتاريخهم.
صدر للعلامة الكثير من النتاج العلمي وخاصة في مجال نشر الثقافة والفكر الجعفري. فقد صدر له في هذا المجال ما يقارب من خمسين كتاباً فضلاً عن اهتمامه بوحدة المسلمين والتقريب بين المذاهب فأصدر في هذا المجال الكثير من المؤلفات القيمة.
وقد التفت السيد العسكري إلى مسألة مهمة تكمن بضرورة تصحيح التاريخ ودراسته دراسة نقدية تمكن الشيعة من الدفاع عن أنفسهم وذبّ الشبهات التاريخية عنهم، فإن تمكّنوا من ذلك يكونوا قد وفّروا على أنفسهم الشيء الكثير في إقناع الآخرين بحقانيتهم. كذلك يرى العسكري أنّ الافتراءات التاريخية كانت هي المادة الدسمة التي اعتمدها خصوم المسلمين - شيعة وسنة- لإثارة الخصومة والنّعرات بينهم وإيقاع الفتنة في أوساطهم، فإذا تمكنا من تبرئة الشيعة من تلك التهم من جهة وتعقّل الإخوة من أهل السنة تلك التبريرات العلمية من جهة أخرى، فحينئذ تزول تلك الإشكالات التي حدثت فيما بينهم، وتتوقف حالة العداء التي وقعت بينهم حسب ما يرى سماحة العلامة العسكري؛ ومن هنا بذل سماحته قصارى جهده في هذا المجال ليرفع به الحيف والظلم والتهم التي ألصقت بمدرسة أهل البيت عليه السلام. والمطالع لمؤلفات العسكري يدرك مدى ما بذله من جهد في تحقيق الوحدة بين المسلمين بوضوح تام، وأنّ ذلك هو الطابع الذي يصبغ مؤلفاته (ره)، والتي منها:
ـ عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى (في مجلدين)، وقد ترجم الكتاب إلى الفارسية.
ـ خمسون ومائة صحابي مختلق (في ثلاثة مجلدات) .
ـ معالم المدرستين (في ثلاثة مجلدات)
ـ السقيفة، تعرَّض فيه للأحداث التي لحقت وفاة النبي الأكرم صلی الله عليه وآله وسلم وكيفية تشكيل الحكومة بعده.
ـ آية التطهير في كتب المدرستين
ـ الأئمة الاثنا عشر
ـ المصحف في روايات أهل البيت
ـ القرآن الكريم و روايات المدرستين (ثلاثة مجلدات)
ـ البكاء على الميت، من سنن الرسول صلی الله عليه وآله وسلم
ـ التوسل بالنبي صلی الله عليه وآله وسلم والتبرك بآثاره
ـ البناء على قبور الأنبياء والأوصياء واتخاذها مساجد وأماكن للعبادة
ـ شيعة أهل بيت النبي صلی الله عليه وآله وسلم
ـ الاحتفال بمواليد الأنبياء ومناسباتهم
ـ عدالة الصحابة
ـ الصلاة على محمد و آل محمد من سنن النبي صلی الله عليه وآله وسلم
ـ الأديان السماوية ومسألة التحريف
ـ عقائد الإسلام من القرآن الكريم (ثلاثة مجلدات)
ـ الأسطورة السبائية (ثلاثة مجلدات)
ـ دور الأئمة في إحياء السنة
ـ مع أبي الفتوح التليدي في كتابه «الأنوار الباهرة»
ـ نقش أئمة در إحياء دين (دور الأئمة في إحياء الدين) (16 مجلدا)
ـ امامت ومهدويت در مكتب خلفاء الإمامة والمهدوية في مدرسة الخلفاء
*دراسته لكتب السُنة
الملاحظ في كتابات العلامة العسكري يرى بوضوح أنّ ما يقلق سماحته بشكل كبير هو عدم الاهتمام بالسنة النبوية (الوحي غير البياني) مقارنة بالوحي البياني (القرآني) وضرورة بحث السنة بعيداً عن التعصب والميول الفئوية، الأمر الذي جرّه لدراسة كتب الفريقين السنة والشيعة أو ما يعبّر عنه (مدرسة أهل البيت ومدرسة الخلفاء) وتحليلها ونقدها نقدا علميا مما وفّر لكتبه إمكانية شقّ طريقها إلى مكتبة القارئ السنّي - فضلا عن الشيعي- واعتمادها كمصدر من مصادر البحث العلمي، خاصة إذا أضيف إلى ذلك طريقة الطرح السلسة والميسرة التي امتازت بها كتب العسكري.
*مناظراته وحواراته
بعد أن انتشرت مؤلفات العلامة العسكري وذاع صيته في العالم حاول الكثير من الباحثين والمحققين وغيرهم الاتصال به ومحاورته وجها لوجه للتعرف على خفايا البحث التاريخي أحيانا ولعوامل مذهبية أحيانا أخرى، وقد أثبت الواقع هيمنة السيد العسكري في مجال الحوار أيضا حيث تغلب على كبار محاوريه، منهم، المفتي الأعظم للوهابية – في حينه- ابن باز، وأبو الأعلى المودودي من كبار علماء أهل السنة، ومنهم خطيب الرقة.
*أساتذته
روح الله الإمام الخميني
محمّد حسن شريعتمدار الساوجي .
شهاب الدين المرعشي النجفي .
عبد الكريم الحائري اليزدي .
حبيب الله الاشتهاردي .
مهدي بايين شهري .
خليل الكمرئي .
*تلامذته
ـ نجله الدكتور السيّد کاظم
ـ الشيخ محمّد علي جاودان
ـ الشيخ محمّد باقر أدیبي
ـ السيّد سامي البدري
ـ الدكتور مجید معارف
ـ الدكتور محمّد الدزفولي
ـ السيّد محمّد السيّد محمّد طاهر الحيدري.
*مشاريعه
نذكر منها ما يلي:
مدارس الزهراء للبنات، بإشراف الشهيدة بنت الهدى، بغداد.
مدارس الإمام الجواد في الكرّادة الشرقية، بغداد.
روضة الزهراء للأطفال، بغداد.
مدارس الإمام الصادق، البصرة.
ثانوية الإمام الحسن، الديوانية.
مدارس الإمام الكاظم، بغداد.
ثانوية الإمام الباقر، الحلّة.
تأسيس كلّية أُصول الدين، بغداد.
مدارس بغداد الجديدة، بغداد.
مركز تعليم البنات، بغداد.
*نشاطاته
ـ تأسيس كلّية أُصول الدين في بغداد عام 1384ﻫ، ومن ثمّ افتتح لها فروعاً في قم عام 1417ﻫ، وطهران عام 1418ﻫ،ومدينة دزفول عام 1418ﻫ، ومدينة ساوة عام 1433ﻫ.
ـ تأسيس المجمع العلمي الإسلامي في طهران عام 1397ﻫ، ومن نشاطات المجمع: إرسال المبلّغين، تأسيس المدارس، تهيئة المناهج، طبع الكتب.
ـ كان عضو المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام).
* ما قيل في حقّه
ـ قال الشيخ جعفر السبحاني ـ أحد مراجع الدين في قمالمقدسة ـ: «كان العلّامة العسكري من روّاد الفكر والتغيير، حيث بذل جهداً عظيماً من أجل النهوض بالمستوى الذي أراده الله سبحانه من أجل تحكيم الإسلام».
ـ قال السيّد عبد العزيز الحكيم ـ رئيس المجلس الأعلى الإسلامي العراقي "آنذاك" ـ في بيان تعزيته: «لقد كان الفقيد الراحل محقّقاً بارعاً في التاريخ الإسلامي، ترك مجموعة من الكتب القيّمة التي تدلّ على باعه الطويل في التحقيق والتدقيق، كما كان من أوائل روّاد الحركة الإسلامية ومؤسّسيها في العراق، وقد أسهم في بناء وتأسيس الكثير من المشاريع الحركية والثقافية والعلمية التي خرّجت العديد من الأجيال التي خدمت العراق والإسلام ومذهب أهل البيت(عليهم السلام)».
*وفاته
توفي العلامة العسكري في يوم الأحد 16/ 9/ 2007 م، المصادف لـ 4 رمضان 1428 هـ، في مستشفى ميلاد بطهران ودفن بجوار مرقد فاطمة المعصومة بمدينة قمالمقدسة.
*بيان تعزية السيّد الخامنئي بوفاته
«أُعزّي العلماء الأعلام والحوزات العلمية بمناسبة رحيل المحقّق والباحث الكبير، المرحوم آية الله السيّد مرتضى العسكري رحمة الله عليه، وأُعزّي كذلك تلاميذه ومحبّيه، وأتقدّم بالعزاء الخاص لعائلته المكرّمة وأبنائه المحترمين.لقد أنفق هذا العالم الجليل المثابر عشرات الأعوام من عمره المبارك في سبيل البحث في علوم الكلام والتاريخ والحديث، وكانت الحصيلة المباركة لذلك مؤلّفات وبحوث حُظيت بالإقبال والاستحسان في كلّ العالم الإسلامي، وسجّلت نجاحات قيّمة في إشاعة مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).رحمة الله على هذا العالم ذي الهمّة العالية، والجهود التي لم تعرف الكلل أو الملل».
هذه كانت تعزية قائد الثورة الإسلامية السيد الخامنئي (دام ظله) بوفاة المحقق والعلامة والباحث الكبير السيد مرتضى العسكري رحمه الله برحمته الواسعة.