الدولة بحاجة لموقف حازم.. بغداد أمام تحدي التدخلات الخارجية.. السفير البريطاني يهاجم الحشد الشعبي والنظام السياسي
انفوبلس..
في تصريحات أثارت جدلاً سياسياً واسعاً، أبدى السفير البريطاني في العراق، عرفان صديق، تحفظ بلاده على الحشد الشعبي، داعياً لدمجه بالكامل تحت سلطة الدولة، كما وجه نقداً لما وصفه بـ"نظام المحاصصة السياسية". هذه المواقف أعادت الجدل حول حدود التدخل الدبلوماسي الأجنبي بالشأن العراقي.
السفير البريطاني قال في تصريحات متلفزة إن بلاده لا تعارض الحشد الشعبي كجزء من المؤسسة الأمنية العراقية، لكنها تتحفظ على بعض الفصائل المنضوية فيه والتي تمتلك أجنحة مسلحة وتعمل خارج سلطة الحكومة، معتبرًا أن استمرار هذه الفصائل بشكلها الحالي يمثل خطرًا على أمن واستقرار العراق والمنطقة.
وأوضح صديق، أن "بريطانيا تحترم العملية الديمقراطية في العراق وتتواصل مع أي مسؤول منتخب بصفته الرسمية، لكنها لا تجري أي تواصل سياسي أو اجتماعات مع ممثلي الفصائل المسلحة أو الأحزاب التي تمتلك أجنحة عسكرية"، مشددًا على أن "وجود قوى سياسية مسلحة يخل بمبدأ المنافسة العادلة في الانتخابات ويضعف سلطة الدولة".
وأشار السفير إلى أن "بلاده تعترف بالدور الجوهري الذي لعبه الحشد الشعبي في الحرب ضد تنظيم داعش"، معتبرًا أن "ذلك كان دورًا استثنائيًا وضروريًا في مرحلة حرجة، لكنه انتهى بانتهاء الحرب وتحسن الوضع الأمني". وقال: "لا يمكن أن يستمر الحشد في أداء نفس الدور الذي كان عليه أثناء الحرب، بل يجب إعادة تعريف مهامه ودمجه بالكامل تحت قيادة القائد العام للقوات المسلحة، بحيث يتلقى أوامره فقط من الحكومة العراقية".
وفيما يتعلق بمشروع قانون الحشد الشعبي المطروح أمام البرلمان، أوضح صديق أن "بريطانيا لم تجرِ دراسة تفصيلية لمحتويات القانون، لكنها تتحفظ على تمريره دون معالجة وضع الفصائل الخارجة عن سلطة الدولة".
وأضاف: "لدينا موقف مختلف عن الموقف الأميركي، فالولايات المتحدة ترفض الحشد ككل، أما نحن فتركيزنا على معالجة وضع الفصائل التي لا تلتزم بأوامر الحكومة، وبعضها يرتبط بحركات سياسية أو بدول أخرى، وهذا أمر يشكل خطرًا على الدولة".
وحذر السفير من أن "استمرار بعض الفصائل في العمل بشكل منفرد قد يقوض سلطة الدولة ويؤثر على صورة العراق أمام المجتمع الدولي والمستثمرين"، موضحًا أن "بيئة أمنية غير مستقرة تجعل الشركات أقل رغبة في الاستثمار".
ورحب صديق: "بأي مبادرة حكومية تهدف لتنظيم الحشد بشكل أكثر انضباطًا"، داعيًا إلى "برنامج إصلاحي شامل يضمن أن تكون جميع مكوناته جزءًا من المؤسسة الأمنية الرسمية، وألا يكون هناك أي ازدواجية في الولاء أو ارتباطات خارجية"، مؤكدًا أن "اندماج الحشد تحت سلطة الدولة هو السبيل الأمثل لضمان أمن البلاد واستقرارها".
وفي محور آخر، انتقد صديق، ما وصفه بـ"نظام المحاصصة والتوافقية" الذي يحكم المشهد السياسي العراقي منذ عام 2003، مؤكّدًا أن هذا النموذج، رغم أنه كان ضروريًا في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق لتجنب الصراع، أصبح اليوم عائقًا أمام بناء دولة فاعلة وقادرة على تلبية تطلعات شعبها.
وأوضح أن "التوافقية السياسية، القائمة على توزيع المناصب والمواقع العليا وفق الانتماءات المذهبية والقومية، أدت إلى شلل حكومي وضعف في اتخاذ القرارات المصيرية، حيث باتت الأولوية لدى بعض القوى حماية مصالحها السياسية والحزبية بدل التركيز على خدمة المواطنين".
وأشار إلى أن "هذا النظام أنتج حالة دائمة من المساومات، وغالبًا ما أدى إلى تعطيل مشاريع الإصلاح، وإبقاء المؤسسات رهينة للخلافات السياسية، بدل أن تكون مؤسسات مستقلة وفعّالة".
وشدد السفير على أن "بلاده ترى أن إصلاح هذا النهج بات أمرًا ضروريًا، وأن المرحلة المقبلة يجب أن تشهد خطوات جدية نحو تشكيل حكومات على أساس الكفاءة والبرامج، لا على أساس الانتماء الطائفي أو العرقي، مع الحفاظ على التمثيل العادل لجميع مكونات الشعب العراقي".
وأكد صديق أن "تجاوز نظام المحاصصة لا يعني إقصاء أي طرف، بل يهدف إلى بناء عملية سياسية أكثر شمولًا وعدالة، بحيث تُمنح الفرصة لكل عراقي مؤهل للمشاركة في إدارة الدولة، بعيدًا عن الانقسامات التي عطّلت التنمية والاستقرار لسنوات".
تصريحات السفير البريطاني تعكس تدخلاً دبلوماسياً يتجاوز حدود اللياقة السياسية المتعارف عليها، إذ لم يكتفِ بإبداء المواقف، بل دخل في تفاصيل تتعلق بإعادة هيكلة مؤسسة سيادية عراقية خاضعة للقانون، هي هيئة الحشد الشعبي. هذا الخطاب يتجاهل حقيقة أن الحشد الشعبي تأسس بفتوى شرعية وقرار برلماني، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الأمنية الرسمية، بصفته مؤسسة وطنية لعبت دوراً محورياً في حماية العراق من خطر وجودي تمثل بتنظيم داعش، حين كانت الكثير من العواصم الغربية، ومن ضمنها لندن، تتردد في تقديم الدعم العسكري الفعّال.
التحفظ البريطاني على "الفصائل المسلحة خارج سلطة الدولة" يبدو من حيث المبدأ منسجماً مع مصلحة العراق، لكن الإشكالية تكمن في صياغة الموقف وتوقيته وطريقة طرحه، التي تحمل إيحاءات بفرض الوصاية السياسية والأمنية، وكأن القرار العراقي بحاجة لإجازة خارجية. الأسوأ أن السفير البريطاني منح نفسه الحق في تحديد طبيعة مهام الحشد بعد انتهاء الحرب على داعش، متناسياً أن هذا القرار سيادي بحت، يحدده القائد العام للقوات المسلحة والبرلمان العراقي، لا السفارة البريطانية.
كما أن محاولة لندن التفريق بين الحشد كإطار مؤسسي وبين بعض فصائله، تفتح الباب لتأويلات قد تُستغل داخلياً وخارجياً لإضعاف هذه المؤسسة الجامعة، خصوصاً في ظل استمرار التهديدات الإرهابية وبقاء الاحتلال الأميركي على الأراضي العراقية. من هنا، فإن الدفاع عن وحدة الحشد وتماسكه هو دفاع عن سيادة العراق وأمنه القومي، وهو ما يجب أن يدركه أي طرف خارجي قبل الإدلاء بتصريحات تمس هذا الكيان.
أما انتقادات السفير لنظام المحاصصة، فرغم أن جوهرها يعكس رأياً شائعاً بين العراقيين، إلا أن طرحها من منصة دبلوماسية أجنبية، وفي سياق سياسي مشحون، يثير تساؤلات حول الأجندة الكامنة وراءها.
فإصلاح العملية السياسية شأن داخلي، ولا يمكن أن يتحول إلى ورقة تفاوضية في يد سفارة أجنبية، خصوصاً إذا كانت تلك الدولة جزءاً من التحالف الدولي الذي مارس نفوذاً كبيراً على المشهد العراقي منذ 2003.
باختصار، الموقف البريطاني الأخير ليس مجرد رأي دبلوماسي عابر، بل حلقة جديدة في سلسلة تدخلات غربية بالشأن العراقي، تتطلب من بغداد، حكومة وبرلماناً، أن تضع خطوطاً حمراء واضحة أمام أي سفير أو ممثل أجنبي، وتؤكد أن سيادة العراق وقراراته المصيرية، وفي مقدمتها مستقبل الحشد الشعبي، لا تُصاغ في السفارات، بل في مؤسسات الدولة العراقية.

