ما بعد بارزاني.. هل يبقى شكل السلطة نفسه في الإقليم أم يعود إلى الوصاية الاتحادية؟
انفوبلس..
يشهد إقليم كردستان تصاعداً خطيراً في أزماته الداخلية، بعد أحداث السليمانية الأخيرة التي فجّرت صراعاً بين أجنحة الاتحاد الوطني، وأعادت الخلافات التاريخية مع الحزب الديمقراطي إلى الواجهة. ومع تعطّل البرلمان وتبادل الاتهامات، تتعالى التحذيرات من اقتراب لحظة انهيار شكل السلطة في الإقليم، خاصة مع تقدم مسعود بارزاني في العمر.
ولا تزال أحداث “ليلة الجمعة” في السليمانية، تتصاعد، ففيما كشف جهاز أمن المحافظة عن اعترافات أنصار لاهور شيخ جنكي المعتقلين معه، عن التخطيط لاغتيال رئيس الاتحاد الوطني بافل طالباني وشقيقه نائب رئيس حكومة الإقليم قوباد طالباني، كشفت مصادر عن “انهيار” كافة الاتفاقات بين الاتحاد والحزب الديمقراطي بشأن تفعيل البرلمان وتشكيل حكومة كردستان.
التوتر في إقليم كردستان، والذي يتزامن مع ذكرى “الحرب الأهلية” بين الحزبين عام 1996، ينذر بتراجع الاتفاق بينهما، حيث يجهز الاتحاد لموجة اتهامات ضد أربيل، أدت لتصعيد حدة الخطاب، وبات كل طرف يلقي بالاتهام على الآخر بشأن تشكيل الحكومة، في ظل مطالبات بموقف حقيقي من العاصمة بغداد لتهدئة الأوضاع ومنع انجرافها نحو “ما لا يُحمد عقباه”.
ويقول مصدر مطلع، إن “الحرب الإعلامية اشتعلت بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وكل طرف يحضّر جملة من الملفات للطرف الآخر، خاصة مع قرب حلول موعد تاريخ 31 آب أغسطس، وهو ذكرى الحرب الداخلية بين الحزبين، وقيام زعيم الحزب الديمقراطي مسعود بارزاني بالاستعانة بالجيش العراقي في عام 1996 إبان نظام صدام حسين، حيث يجهّز الاتحاد وإعلامه جملة اتهامات ضد الديمقراطي وزعيمه مسعود بارزاني”.
ويضيف المصدر، أن “الاتحاد الوطني ورئاسته، وجهت بإيقاف كل الاتفاقات، وتعليق المباحثات مع الحزب الديمقراطي”، مبينا أن “وساطات دولية أمريكية وبريطانية، ومن قيادات سياسية عراقية، تدخلت بين الحزبين الكرديين، لمنع اتجاه الأمور لمنزلق خطير، يهدد انهيار الوضع في الإقليم”.
وشهدت ليلة الخميس– الجمعة الماضية، مواجهات مسلحة في السليمانية، بين قوة كبيرة من جهاز مكافحة الإرهاب، والقوات الخاصة “كوماندوز” المرتبطة ببافل طالباني، من جهة، وبين قوات تابعة لرئيس جبهة الشعب، لاهور شيخ جنكي، خلال محاولة اعتقاله، والتي انتهت فجرا باعتقال شيخ جنكي، وقد أسفرت المواجهة عن مقتل 3 من عناصر القوة المداهمة وشخص من حماية شيخ جنكي، وإصابة 25 شخصا من الطرفين، فضلا عن اعتقال العشرات.
وبثّ جهاز الأمن في السليمانية، يوم الأربعاء، فيديو لاعترافات المعتقلين من أنصار شيخ جنكي، وفيها أكدوا وجود مخطط لاغتيال رئيس الاتحاد بافل طالباني ونائب رئيس الحكومة قوباد طالباني، عبر طائرات مسيرة انتحارية، فضلا عن قناصين، وذلك عبر تدريب وتصنيع للطائرات في اوكرانيا.
ومن ضمن الاعترافات، فإن الطائرات المسيرة كانت جاهزة وقد دخلت السيلمانية، ومنها طائرات كانت بمقر شيخ جنكي خلال عملية المداهمة، وتم إطلاق اثنين منها نحو منطقة بداشان، حيث مقر طالباني، خلال عملية الاعتقال.
وكشف مصدر، عن صدور أمر قبض من السليمانية بحق ازي أمين، رئيس مجلس الأمن في أربيل، بموجب نفس المواد القانونية التي صدرت مذكرة القبض بحق شيخ جنكي، وذلك في إطار التحقيقات التي تجريها محكمة تحقيق الأمن في المحافظة بنفس الملف.
تغطية على حدث
وبالتوازي مع هذه الأحداث، فإن تغطية وسائل الإعلام التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، وتحديدا القنوات والمواقع التابعة لمسرور بارزاني رئيس حكومة الإقليم، لم ترق للاتحاد الوطني، الذي عبّر عن غضبه، من هذه التغطية، متهماً إياهم بمحاولة نشر الأكاذيب وزعزعة الاستقرار في السليمانية.
ويقول عضو الاتحاد الوطني الكردستاني، غازي كاكائي، إن “عملية المبالغة الإعلامية ونشر الأكاذيب التي مارسها إعلام الحزب الديمقراطي بعد أحداث السليمانية، كانت للتغطية على شيء أو حدث معين”.
ويضيف كاكائي، أنه “بدلا من دعم القانون وسلطة القضاء من قبل رئاسة الحكومة، واحترام الشريك السياسي وهو الاتحاد الوطني، دعموا الفوضى والمؤامرات ضد مدينة آمنة ومستقرة مثل السليمانية، وأرادوا القضاء على سلطة الاتحاد الوطني، من خلال نشر الأكاذيب من قبل وسائل الإعلام”.
ويتابع أن “المواطن الكردي كانت ينتظر خطوات أكبر، ولديه بصيص أمل للاتفاق على تشكيل الحكومة وتفعيل البرلمان، وحل المشاكل مع بغداد، لكن ما جرى أعاد الوضع للمربع الأول، والحزب الديمقراطي يتحمل ما جرى، لأن الاتحاد الوطني بادر أكثر من مرة، وحاول التوسط وتقريب وجهات النظر بين بغداد وأربيل، لكنه يكافئ بهذه الطريقة”.
ويلفت إلى أنه “على ما يبدو فالديمقراطي يماطل في عملية تشكيل الحكومة، ويريد لهذه العملية أن تتأخر لما بعد الانتخابات العراقية، حتى يساوم على منصب رئاسة الجمهورية، والمناصب الأخرى”، مشددا على أن “من يستهدف السليمانية يستهدف أمن الإقليم، ويحاول إضعاف الكيان الدستوري، وهذا واضح من خلال عدم احترامهم لسلطة الأمن والقضاء، التي قالت كلمتها في الأحداث الأخيرة”.
وكان الادعاء العام في إقليم كردستان، أعلن الاثنين الماضي، أن رئاسة الادعاء العام في السليمانية ستباشر إجراءاتها في التحقيق بشأن الأحداث التي وقعت ليلة اعتقال رئيس حزب “جبهة الشعب” لاهور شيخ جنكي.
وفي وقت سابق، كشفت مصادر، أن شيخ جنكي مثّل أمام محكمة الأمن (الأسايش) في “قلاجولان” في محافظة السليمانية للإدلاء بإفادته أمام قاضي التحقيق.
والاتحاد الوطني الكردستاني هو ثاني أكبر الأحزاب في إقليم كردستان، ويتمتع بنفوذ كبير داخل محافظة السليمانية، وشهد الحزب خلال السنوات الأخيرة سلسلة صراعات، كان أبرزها انشقاق نوشيروان مصطفى (توفي في 9 أيار مايو 2017) من الحزب وتشكيله حركة التغيير، ثم انشقاق برهم صالح، وتشكيله تيارا سياسيا، قبل أن يعود للحزب ويتسلم منصب رئاسة الجمهورية كمرشح عن الاتحاد.
غياب الموقف الحكومي
من جانبه، يبين رئيس مركز الرفد للدراسات عباس الجبوري، أن “ما حصل من صراع في السليمانية، ليس وليد اللحظة، والتوتر الأخير بين الحزبين، يحصل مع قرب موعد كل انتخابات في الإقليم، أو انتخابات البرلمان العراقي”.
ويوضح أن “هناك حزبين رئيسين في الإقليم، ولكن في الفترة الأخيرة نشأت أحزاب جديدة تنافسهما، وما حصل مؤخرا يعبر عن حالة من التشتت”، متابعا أنه “يفترض على الحكومة الاتحادية فرض سيطرتها على الإقليم، لضمان عدم انزلاق الوضع إلى ما لا يحمد عقباه، خاصة في ظل تبادل الاتهامات، وتصاعد التوتر بي حزبين رئيسين، لهما ثقلهما في المشهد السياسي العراقي”.
ويستطرد “لكن، للأسف لم يكن أي موقف للحكومة، ولو على سبيل الوساطة وتقريب وجهات النظر، وبالتالي موقف الحكومة ضعيف نسبيا بهذا الاتجاه، خاصة وأن الإقليم ومدنه هي جزء من العراق”.
يذكر أن شيخ جنكي شغل منصب الرئيس المشترك للاتحاد الوطني الكردستاني، قبل أن يعزل بقرار من بافل طالباني في تموز يوليو 2021 إثر خلافات حادة داخل الحزب. وبعدها أسس حزب “بەرەی گەل” الذي شارك لأول مرة في انتخابات برلمان كردستان عام 2024 وحصل على مقعدين.
وشهدت السنوات الماضية وتحديدا في عام 2021، قيام بافل طالباني، بتجريد ابن عمه لاهور شيخ جنكي من منصب الرئيس المشترك للحزب، فضلا عن الاستيلاء على جميع المؤسسات التي يمتلكها، وتجريد أشقاء جنكي من جميع المناصب التي كانوا يسيطرون عليها، وسحب جميع الامتيازات منهم.
"اتهامات باطلة"
من جانبه، يرى عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني، شيرزاد حسين، أن “الاتحاد الوطني يحاول تحويل مشاكله الداخلية، ويصدرها إلى الأخرين، وهو يريد بدء الحملة الانتخابية من خلال استهدافنا”.
ويضيف حسين، أن “الحزب الديمقراطي كان منذ الأول مع الإسراع بتشكيل الحكومة، وتفعيل البرلمان، وتوحيد القوى الكردية، ولكن الاتحاد الوطني هو الطرف المعطل ويريد أكبر من استحقاقه”.
ويشير إلى أن “ما يساق من اتهامات، هي كاذبة ولا تستند إلى دليل، وهدفها تحريض الشارع في السليمانية ضد الحزب الديمقراطي، وتحميل فشلهم وأفعالهم ضد الأخرين، ومن يقوم بهذه التصرفات، لا يريد للإقليم الخير”.
ومنذ أشهر، لا يزال برلمان الإقليم معطلاً، رغم إجراء الانتخابات فيه بإشراف من مفوضية الانتخابات الاتحادية، ولم يصل الحزبين الكرديين الرئيسيين لأي اتفاق يفضي إلى تشكيل الحكومة، وقد جرت العديد من الاجتماعات في السليمانية وأربيل لحسم النقاط الخلافية وطبيعة المناصب، لكن دون جدوى.
إدارة هشّة
منذ تأسيس إقليم كردستان العراق ككيان سياسي شبه مستقل بعد حرب الخليج عام 1991، ظلّ محكوماً بمعادلة هشّة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني، والاتحاد الوطني الكردستاني الذي قاده الراحل جلال طالباني. هذه المعادلة، رغم مرور ثلاثة عقود، لم تُترجم إلى دولة مؤسسات حقيقية، بل ظلت قائمة على مبدأ تقاسم النفوذ والمناطق والثروات، وهو ما جعل الإقليم أقرب إلى "نظام كونفدرالي داخلي" بين أربيل والسليمانية.
اليوم، ومع تفاقم الخلافات بين الحزبين، وظهور تصدعات داخلية في كل منهما، يطرح مراقبون وسياسيون نظرية "اقتراب انهيار إقليم كردستان" بالشكل الذي نعرفه، وصولاً إلى لحظة قد تعيد الإقليم إلى مربعات ما قبل التسعينيات.
بارزاني ونهاية مرحلة
يرتبط الحزب الديمقراطي الكردستاني بشخص مسعود بارزاني، الذي لا يزال يشكل الرمز الأعلى والضامن لتماسك حزبه. لكن السؤال المطروح بجدية داخل الأوساط البحثية هو: ماذا سيحدث بعد رحيله؟
غياب بارزاني قد يفتح الباب أمام تنافس حاد بين نجله مسرور بارزاني (رئيس وزراء كردستان) وابن أخيه نيجيرفان بارزاني (رئيس كردستان) على الزعامة، خصوصاً أن كلاً منهما يملك قاعدة مؤسساتية وإعلامية وأمنية مستقلة. مثل هذا الصراع الداخلي قد يضعف الديمقراطي ويفقده القدرة على فرض الهيمنة التي مارسها خلال العقدين الماضيين.
اتحاد ممزق وأزمات متراكمة
الاتحاد الوطني نفسه يعيش حالة انقسام حاد منذ وفاة جلال طالباني عام 2017. بروز لاهور شيخ جنكي، ثم عزله على يد بافل طالباني، وما تبعه من مواجهات مسلحة، كشف أن الحزب فقد "التوازن الأبوي" الذي كان يضبط خلافاته.
مراقبون أكدوا أن الاتحاد لم يعد كتلة واحدة، بل شبكة من أجنحة وعائلات ومصالح اقتصادية، ما يجعله عرضة للانشقاقات المتكررة.
العامل الاقتصادي.. النفط والرواتب
الأزمة الأعمق تكمن في فشل الإقليم بإدارة موارده الاقتصادية. بعد قرارات المحكمة الاتحادية العراقية التي أبطلت عقود النفط الكردية، باتت أربيل أكثر اعتماداً على بغداد لصرف الرواتب. هذا الواقع الاقتصادي قلّص قدرة الحزبين على المناورة السياسية، وزاد من نقمة الشارع الكردي، الذي لم يعد يرى في الإقليم مشروع "حلم قومي"، بل عبئاً من الفساد والمحسوبية.
السيناريوهات المستقبلية
انهيار تدريجي للسلطة المركزية في الإقليم: مع استمرار تعطيل البرلمان، وفشل تشكيل حكومة، ستتكرس ثنائية أربيل–السليمانية أكثر، ما يعني تحول الإقليم فعلياً إلى إدارتين منفصلتين.
تصاعد دور بغداد: غياب الحل الداخلي قد يمنح الحكومة الاتحادية مبرراً أقوى للتدخل المباشر في الإقليم، سواء عبر الرواتب أو الأمن، وهو ما يدفع نحو "إعادة دمج" كردستان تدريجياً ضمن السلطة المركزية.
تفكك داخلي بعد بارزاني: رحيل مسعود بارزاني سيُفقد الحزب الديمقراطي مرجعيته، ما قد يعجّل بظهور انقسامات مشابهة لما حصل في الاتحاد الوطني.
دور القوى الخارجية: واشنطن ولندن ما تزالان تضغطان لمنع انهيار الإقليم، لكنهما تفتقدان استراتيجية واضحة لحل الخلافات البنيوية. تركيا وإيران تترقبان المشهد، وتسعيان لتوظيفه بما يخدم مصالحهما الأمنية والاقتصادية.
نحو نهاية شكل السلطة الحالي
النظام السياسي في إقليم كردستان، المبني على زعامات شخصية أكثر من مؤسسات، يبدو أقرب إلى نهايته الطبيعية. ومع استمرار الانقسامات، واحتقان الشارع الكردي من الأزمات المعيشية، فإن موت مسعود بارزاني سيشكّل لحظة فارقة، قد تعجّل بتفكك الصيغة الحالية للحكم، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة، قد تكون أشد اضطراباً، وربما تقود إلى إعادة رسم علاقة الإقليم ببغداد بالكامل.



