55 عاما على قدوم حزب البعث الثاني للسلطة بقطار أمريكي.. النايف والحاني كانا حلقة الوصل مع واشنطن
انفوبلس/..
قبل 17 تموز عام 1968 كانت إشارات الساحة العراقية، تنذر بانقلاب عسكري بسبب تدهور الأوضاع السياسية، وضعف سيطرة رئيس الجمهورية العراقية عبد الرحمن عارف، وكان المرشح الأقوى لتنفيذ الانقلاب هما الحرس الجمهوري بقيادة إبراهيم الداود، والاستخبارات العسكرية بقيادة عبد الرزاق النايف.
وقد حاول النايف بالفعل التنسيق مع حزب البعث لترتيب انقلاب عسكري، وحدث الانقلاب بالفعل بالتعاون بين الاستخبارات العسكرية والتنظيم العسكري لحزب البعث بقيادة أحمد حسن البكر، ولكن بعد أسبوعين فقط انقضَّ حزب البعث على حلفائه في الانقلاب، فأُقيل النايف الذي عُيّن رئيسا للوزراء بعد الانقلاب، والداود الذي عُيّن وزيرا للدفاع، وقُتِل ناصر الحاني وزير الخارجية.
واشنطن تبحث عن بديل لـ قاسم
مذكرة للخارجية الأمريكية في 5 شباط 1963: "نحن نتفق مع السفارة أن العراق بلا شك أصبح من الناحية الفعلية قاعدة سوفيتية".
بعد انتهاء الملكية في العراق وقيام حركة 14 يوليو 1958 على يد قيادة تنظيم "الضباط الوطنيين"، وخلال فترة حكم عبد الكريم قاسم، بدأت واشنطن التعامل مع الشأن العراقي لإيجاد نظام بديل عن حكم عبد الكريم، فانصبّ اهتمامها في هذا المضمار إلى إيجاد صيغة مشتركة للتعاون مع القوى القومية في العراق تقود الحكومة العراقية الجديدة وتنتهج سياسة متوازنة مع الغرب والدول العربية.
كما أشارت التقارير الامريكية، ومما له مغزاه ما ورد في مذكرة وزارة الخارجية الأمريكية فيما بعد إلى سفارتها في بغداد في الخامس من شباط 1963 ما نصه: "نحن نتفق مع السفارة أن العراق بلا شك أصبح من الناحية الفعلية قاعدة سوفيتية".
ويبدو من تلك الإشارات التي شكلت قناعات كافية لدى الإدارة الأمريكية، أن يستقر رأيها إلى تقديم الدعم للبعثيين، في حال تنفيذهم انقلابا ضد عبد الكريم قاسم، ويمكن الإشارة إلى بعض الدلائل المتوافرة التي تؤكد الدور الأمريكي في انقلاب 8 شباط المشؤوم.
حيث جاء على لسان خالد علي الصالح، عضو قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي 1959-1975 في مذكراته المعنونة (على طريق النوايا الطيبة) أن الحكومة الأمريكية أبدت استعدادها إلى تقديم المساعدات المالية والعسكرية لدعم حزب البعث العربي الاشتراكي ضد حكم عبد الكريم قاسم في العام 1959، ونقلت تلك الرغبة عن طريق طالب شبيب عضو القيادة القطرية للحزب 1958-1963 إلا أن خالد علي الصالح رفض ذلك العرض مرتين وهدد بالاستقالة من الحزب إن تكرر ذلك على حد تعبيره، ومع أن الأخير لم يستبعد تعاون الأمريكان مع البعثيين بعد اعتقاله بتهمة اغتيال عبد الكريم قاسم، وابتعاده عن قيادة الحزب، ويعزز الصالح رأيه بما ذهب إليه علي صالح السعدي أمين سر القيادة القطرية للحزب قبل وبعد سقوط عبد الكريم قاسم في الحادي عشر من تشرين الثاني 1963 ما نصه: "إنه كان على رأس قطار تقوده أمريكا".
وفي الإطار نفسه وحسب رواية أحد القادة البعثيين لحنا بطاطو (لم يذكر اسمه) إن السفارة اليوغسلافية في بيروت قد حذرت بعض القادة البعثيين قبل سقوط عبد الكريم قاسم من أن بعض البعثيين العراقيين قد أقاموا اتصالات خفية مع ممثلي الحكومة الأمريكية.
وهناك رواية أخرى قد تدعم في مضمونها الروايتين السابقتين، ففي مقابلة للباحث البريطاني بينروز مع هاشم جواد وزير خارجية العراق، أكد الأخير للباحث البريطاني أنه كان على علم بوجود نوع من التواطؤ بين المخابرات الامريكية والبعثيين، وفي إشارة أخرى للباحث نفسه أن موظفين عراقيين موثوق بهم ومن ضمنهم بعثيون قد أكدوا له، أن المخابرات الأمريكية قد تعاونت مع حزب البعث للإطاحة بعبد الكريم قاسم، وفضلا عما تقدم فقد ذكر زكي خيري عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، أن السفير الامريكي في بيروت كلّف أحد أقارب عبد الكريم قاسم بتحذيره من مغبة التوقيع على مسودة القانون، إلا أن الأخير رفض الانصياع للتهديد الامريكي ووقّع على القانون، وقد عدّ الإنذار الأمريكي بمثابة الضوء الأخضر للبعثيين، بتنفيذ انقلابهم في الثامن من شباط 1963، واستدل هذا بما ذهب إليه إلى تصريح على صالح السعدي "لقد ركبنا قطار أمريكا".
وفي السياق نفسه، ما ذكره الملك حسين في السابع والعشرين من أيلول 1963 إلى ضلوع المخابرات الأمريكية بتقديم المساعدات للبعثيين لغرض تسلم السلطة في الثامن من شباط 1963.
وأهم رواية على ما تقدم والمتمثلة بالتصريح الذائع الصيت لعلي صالح السعدي ما نصه: "جئنا بقطار أمريكي" والذي كرره مرارا وفي مناسبات عدة، فقد ذكر فؤاد عارف، للباحث سنان الزيدي، أنه استفسر من هناء العمري زوجة علي صالح السعدي وبحضور د. كمال مظهر أحمد في العام 1989 عن مدى صحة تصريح زوجها الآنف الذكر، فأجابت "نعم، لقد قالها زوجي في باريس في لقائه مع مجموعة من العراقيين وكرره في مناسبا عدة. ومن المهم أن نشير هنا أن السعدي أعلمَ يونس الطائي عام 1976 في القاهرة وكررها في بغداد ما نص أنهم جاؤوا من دون قصد بقطار ماكنته أمريكية، وحينما سأله إسماعيل العارف في بيروت كيف فقدتم السلطة؟ أجاب السعدي لم يكن بيدي كل شيء، وكنا نعرف ذلك، ولكن الذين كانوا وراءه غلبونا، لقد كنا في قطار أمريكي، وفي حديث له مع الشاعر مظفر النواب أكد السعدي: أنه والخط القريب منه لم يكونوا إطلاقا على صلة بأية جهة أجنبية وأنه بعد دقائق في الثامن من شباط اكتشف أنه وجماعته يسيرون من دون إرادتهم بقطار ماكنته أمريكية، الأمر الذي يتنافى مع ذكره للقيادي الكردي محمود عثمان في لقائهما في باريس، إذ أكد السعدي له أن الغاية تبرر الوسيلة في معرض إجابته عن صحة تصريحه "جئنا بقطار أمريكي".
الانقلاب في العراق بالكامل لصالح أميركا
وفي مذكرة للدبلوماسي الامريكي روبرت كومر، للرئيس كينيدي في الثامن من شباط 1963، أكد فيها بأن الانقلاب في العراق سيكون بالكامل لصالح الولايات المتحدة الامريكية، واختتم مذكرته بالقول: إن جمال عبد الناصر يحاول أن يحتضن الحكومة العراقية الجديدة، ولكننا نعتقد أنه سيفشل لأنه يصارع الريح، وطمأن كومر الرئيس كينيدي بقول: إننا واثقون أن القائمين بالانقلاب يجلسون بثبات على السرج، وعلى صعيد آخر اتخذت وزارة الخارجية الامريكية خطوة لم تخلُ من تأييد ودعم للقائمين بالانقلاب، وكما أشارت الوثائق الأمريكية المنشورة، أن الخارجية الامريكية وجهت بعثاتها الدبلوماسية في الشرق الأدنى وبريطانيا، برقيا في الثامن من شباط 1963 إلى ضرورة تطمين حكومات البلدان الموجودين فيها أن الحكومة العراقية الجديدة (غير موالية للشيوعية) وهي في جوهرها بعثية وذات توجه قومي، فضلا عن ذلك تنصح البعثات والحكومات أيضا أن يتجنبوا التصريحات التي ربما تثير الأوضاع في العراق.
في الوقت نفسه تؤكد وزارة الخارجية الامريكية للحكومات المعنية أن النظام العراقي الجديد ليس من المناصرين لجمال عبد الناصر.
تبنّت الولايات المتحدة إسقاط حكم عبد الكريم قاسم (عاجلا أم آجلا) في نهاية عام 1961، وكل إشارات ومضامين العديد من تقاريرها الدبلوماسية والاستخبارية إلى إسقاط حكم عبد الكريم قاسم (عاجلا أم آجلا) وحتّم واقع الحال عليها في ظل المساومة ضمن مفاهيم السياسة ولعبتها التعاون مع القوى القومية السياسية المناهضة لحكم عبد الكريم قاسم، مما فرض الوصول في علاقاتها مع الحكومة العراقية الى التوتر ثم التقاطع والتصادم فيما بعد، وكانت نهاية المطاف سقوط حكومة عبد الكريم قاسم في 8 شباط 1963.
الحاني النايف وحلقة الوصل مع واشنطن
حزب البعث ومجيئه إلى السلطة سنة 1963 وللمرة الثانية سنة 1968 كان بتآمر مع المخابرات الأمريكية
وحول ذات الموضوع، يشير محمد حديد في مذكراته إلى أن (مستشار السفارة السوفيتية في بغداد يزورني في محاولة لإقناعي بجدوى تأييد البعث، باعتباره أنه مناوئ للاستعمار، وكنت أرد عليه أن حزب البعث ومجيئه إلى السلطة سنة 1963 وللمرة الثانية سنة 1968 كان بتآمر مع المخابرات الأمريكية، حتى أن أحد قادتهم (وهو علي صالح السعدي) اعترف بأنهم جاؤوا بقطار أمريكي، وأن انقلاب 1968 كان أيضاً باتفاق مع الأمريكيين، وكان الوسيط في ذلك ناصر الحاني حينما كان سفيراً للعراق في بيروت).
كان ضمن كتلة عُرفت بـ(كتلة بيروت) التي ضمت ناصر الحاني ولطفي العبيدي، وتأسست في الأصل من أجل الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم، وكانت لها صلات قوية بالقوى الغربية ومراكزها التجسسية في المنطقة، منذ محاولة انقلاب الشواف عام 1959، يُعرّفنا بها طالب شبيب، بالقول: "الفكرة الوحيدة التي ظلت عالقة في ذهني هي ما تم كشفه عن الاجتماعات التي عُقدت في دار الحاني في بيروت، ودارَي الملحقين الثقافيين الأمريكي والبريطاني في بيروت أيضاً، برفقة عبد الرزاق النايف رئيس حكومة 17 تموز 1968، ولطفي العبيدي وربما اجتمع معهم أحد الأشخاص الثلاثة عماش أو حردان أو صدام، وقد نشر لطفي العبيدي في الصحافة اللبنانية في نهاية الستينيات صور شيكات مسلَّمة إلى قيادة سلطة 17 تموز 1968، مما أدى بالمخابرات العراقية إلى شنّ حملة اغتيالات وملاحقات شملت كتلة العبيدي/ الحاني/ النايف في كل مكان داخل وخارج العراق"، هذه العلاقة لم تأتِ من العدم بل في سياق علاقات قديمة تربط بين العبيدي والحاني وبين عماش وتصل هذه الصلة إلى صدام حسين عندما أقام في القاهرة.