أكثر من قرن على مؤتمر كربلاء.. مَن هم "إخوان من طاع الله" الذين أشعلوا شرارته؟ وما دور المرجعيات الشيعية فيه؟
انفوبلس/ تقارير
في 11 آذار سنة 1922م، أي بعد حوالي 7 أشهر من تتويج فيصل الأول ملكاً على العراق، أغارت قوة كبيرة من المتطرفين الوهابيين على بعض المناطق السكنية في مدينة الناصرية جنوبي العراق فقتلت حوالي سبعمائة شخص ودمرت الكثير من البيوت بعد نهب محتوياتها.
وعلى إثر الحادثة الشنعاء فقد دعا علماء الدين الأفاضل ومن بينهم العلّامة الشيخ "مهدي الخالصي"، إلى عقد مؤتمر موّسع في مدينة كربلاء المقدسة أوائل شهر نيسان 1922م والموافق حينها لحلول ذكرى زيارة النصف من شعبان، من أجل الاحتجاج على غارات الوهابيين، وهو ما كان فعلاً بتاريخ الخامس عشر من شعبان سنة 1340 هـ (12 نيسان 1922م)، حيث عقد المؤتمرون مؤتمرهم هذا في الصحن الحسيني الشريف.
*ما هو مؤتمر كربلاء؟
مؤتمر كربلاء مؤتمر شعبي عُقد في مدينة كربلاء بعد أن أغارَت فرقة من إخوان من طاع الله على منطقة جنوب الناصرية سنة 1922، كان المؤتمر برئاسة المرجع محمد مهدي الخالصي بتاريخ 8 نيسان إلى 13 نيسان 1922 الموافق 15 شعبان 1340 هـ وقد حضره رؤساء عشائر ورجال دين من السنة والشيعة فبلغ عدد الحضور ما يقارب 200000 شخص.
*مقررات المؤتمر
وكان من مقررات المؤتمر الذي حضره جمع من كبار العلماء والشيوخ والزعماء والأدباء وأهل الرأي، فضلاً عن مندوب الحكومة، وزير الداخلية حينها "توفيق الخالدي"، هو التوقيع على وثيقة خاصة بالنظر بما أوقعه الوهابيون الخوارج من أعمال وحشية بالمسلمين العزّل، والمطالبة بجلاء بريطانيا عن أرض العراق وإلغاء الانتداب، حيث تم رفع هذه الوثيقة الى جلالة ملك البلاد.
*تفاصيل وأسباب انعقاده
لقد كان السبب الأول لانعقاد مؤتمر كربلاء هو حماية العراق من هجوم الوهابية، وبعد هجوم "إخوان من طاع الله" - تنظيم عسكري سلفي للقبائل العربية النجدية التي تحالفت مع الملك عبد العزيز أثناء تأسيسه السعودية - في آذار 1922 اقترح الشيخ محمد الخالصي إقامة مؤتمر ليضم القوميات والأديان والطوائف المتعددة في العراق بالإضافة إلى الحكومة والمعارضة لمواجهة هجوم آخر وكان عدد من رجال الدين وأصحاب الرأي قد اشتركوا في التحضير للمؤتمر، منهم الحسن الأصفهاني ومحمد علي بحر العلوم والشيخ عبد الكريم الجزائري والشيح محمد جواد صاحب الجواهر والشيخ عبد الرضا الشيخ راضي والشيخ محمد باقر الشبيبي وغيرهم، فضلاً عن وجهاء ورؤساء العشائر، كما شاركت وفود من بغداد يتقدمهم عبد الوهاب النائب وإبراهيم الراوي وأحمد الشيخ داود وعبد الجليل الجميل ومن الكاظمية برئاسة الشيخ مهدي الخالصي ومن الموصل برئاسة مولود مخلص ومعه سعيد الحاج ثابت وأيوب عبد الله وثابت عبد النور وعجيل الياور ومحمد أغا، وقد خوّل أهالي تكريت والشرقاط مولود مخلص بتمثيلهم في المؤتمر، ومن العمارة برئاسة الشيخ فالح الصيهود ومحمد علي العريبي ومجيد الخليفة وعثمان اليسر وشواي الفهد ومحمد الحطاب وشاركت وفود من الناصرية والسماوة والحلة وسامراء وبعقوبة فضلاً عن سادات ورؤساء العشائر العراقية وأبناء المدن ورجالات الحركة الوطنية وقدر عدد الحاضرين في كربلاء بما يقارب (200000) نسمة.
*قراراته والبرقية الصادرة منه
أما عن قرارات المؤتمر فقد تمثلت بالآتي:
ـ وجوب الدفاع عن البلاد من هجمات الإخوان.
ـ الثقة بسياسة الملك فيصل.
ـ طلب تعويضات المنهوبات وديّات القتلى. وتم كذلك رفع برقية إلى الملك فيصل تتضمن أهم الأفكار التي نوقشت في المؤتمر مع قراراته.
وفي الخامس عشر من شعبان، والثاني عشر من نيسان، عقد المؤتمرون اجتماعهم الأخير في صحن الإمام الحسين بن علي، ووقّع الرؤساء والزعماء وثيقة بنسختين لتُرفع الأولى إلى الملك، وتُحفظ الثانية لدى العلماء وهي:
بسم الله الرحمن الرحيم نحن الموقِّعون أدناه: سادات وزعماء وأشراف مدن العراق، أصالة عن أنفسنا ونيابةً عن ممثلينا تلبيةً لدعوة حجج الإسلام دامت برکاتهم الذين يمثلونا والرأي العام الإسلامي قد حضرنا الاجتماعات المنعقدة في كربلاء للنظر في قضية الإخوان، تلك الاجتماعات المبتدئة من العاشر من شعبان والمنتهية بالخامس عشر منه سنة الألف والثلاثمائة والأربعين، وبناءً على ما أوقعه الخوارج الإخوان بإخواننا المسلمين من الأعمال الوحشية، من القتل، والسلب، والنهب، قد اتفقت كلمتنا، حيث لم يتخلف منا أحد، في كل ما تقتضيه مصلحة بلادنا عامة، وحفظ المشاهد المقدسة، وقبور الأولیاء خاصة وسلامتها من جميع طوارئ العدوان، وعلى الأخص عادية الإخوان، وقررنا معاونة القبائل بكل ما في وسعنا واستطاعتنا المدافعة ضد الخوارج الإخوان ومقاتلتهم، العائد أمر تدبيرها لإرادة الملك فيصل الأول، الساهر على حفظ استقلال بلادنا، وبناءً على تعلُّقنا بعرش السدة الملوكية فإننا نطلب من جلالته إسعاف مطلوب الأمة في أمر القتلى والمنهوبات التي أوقعها الخوارج الإخوان حسب القوانين المرعية. وقد نظمنا بذلك نسختين: فقدمنا واحدة منها لأعتاب الملك، والثانية للعلماء الأعلام. والله المستعان.
*رأي الملك فيصل ببرقية المؤتمر
وقد أُعجب الملك فيصل الأول بهذه البرقية فأرسل إليهم برقية وهي:
إلى حضرات حجج الإسلام العلماء الأعلام والرؤساء الكرام -کربلاء- لقد بلغنا ما تحلّى به اجتماعكم هذا التاريخي من مظاهر الحمية الشريفة، والوطنية الصادقة ومآثر الحكمة والروية، وما أظهرتموه من الإخلاص نحونا، جزاكم الله عنا، وعن الدين والوطن والأمة خير الجزاء، وإنا نبتهل إلى البارئ عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما فيه حفظ کیان الوطن المحبوب، وتعزيز كلمة الأمة، وإعلاء شأنها والله خير مجيب والسلام عليكم أجمعين. بغداد ۱۰ شعبان ۱٣٤٠ - ۱۲ نیسان ۱۹۲٢.
*سعي بريطانيا لإفشال المؤتمر
إنّ السير برسي كوكس، المندوب السامي البريطاني، والحاكم الفعلي للعراق، أراد أن يجهض مؤتمر كربلاء فأمر الملكَ الهاشميَّ فيصل الأول بعدم الحضور فامتثل هذا الأخير لإرادته وأوفد شخصاً يمثله. وأوعز كوكس الى عدد من الشيوخ والوجهاء المعروفين بعلاقاتهم ”الودية” مع التاج البريطاني بالعمل على إفشال مؤتمر كربلاء، فإنْ لم يستطيعوا ذلك فعليهم تشويه سمعته وسمعة القائمين عليه والانشقاق عليه وعليهم تنظيم مؤتمر آخر موازٍ.
في الواقع، فليس من العسير فهم دوافع كوكس الذي رأى هذا الجمع الحاشد من القادة العراقيين الوطنيين من الطائفتَين الأكبر في البلاد، إلى جانب وجود ممثل للأكراد العراقيين، وجُلُّهم من أبطال ثورة العشرين الذين لقّنوا الجيش البريطاني دروسا قاسية لا تُنسى، يجتمعون في مكان واحد لإدانة هجمات حلفائهم السعوديين ويدعون إلى تشكيل قوة تتعاضد مع الجيش العراقي الفتيّ للدفاع عن سيادة العراق. وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن نضع شكوك عدد من المؤرخين في أن السعوديين الوهابيين قد دُفعوا أو شُجعوا من حلفائهم البريطانيين أنفسهم للقيام بتلك الغارات الإجرامية على الجنوب العراقي ورموزه الدينية الطائفية بهدف جعل العراق عاجزا عن الدفاع عن نفسه بقواه الذاتية ما يضطر حكومته الملكية للاعتماد الدائم على القوات البريطانية.
*هل دافعت الحكومة الملكية عنه؟
لقد أوفد الملك فيصل الأول الذي أبدى بعض التعاطف مع مؤتمر كربلاء، وزير داخليته توفيق الخالدي ليمثله في المؤتمر باقتراح من كوكس، ولأنه لم يكن يثق بالخالدي، فقد أوفد نوري السعيد أيضا إلى هناك ولكن بشكل شخصي إلى كربلاء.
يروي الوردي أن هذا الأخير، وبمجرد وصوله، بادر إلى خلع لباسه الرسمي ولبس النعال واللباس الشعبي العراقي وأخذ يتصل بالوطنيين المشاركين في المؤتمر يعاونه في ذلك مدير شرطة كربلاء هاشم العلوي.
غير أن الراوي لم يوضح شيئا عن طبيعة نشاط نوري السعيد وأهدافه آنذاك، ولماذا لم يحضر المؤتمر وكيف كان رد المؤتمرين عليه وهو المشهور بتبعيته الكاملة للسياسة البريطانية، ولكن الأكيد هو أن أهداف السعيد لم تكن بعيدة عن أهداف برسي كوكس إنْ لم تكن جزءاً منها.
*هل تعرضت الحكومة الملكية للضغط من برسي كوكس
نخلص إلى القول، إنَّ صراعا شديدا اندلع آنذاك بين المندوب السامي البريطاني برسي كوكس والملك فيصل الثاني الذي لم يتجرّأ على الوقوف في وجه تلك الهِبَة الوطنية فيقمعها كما طلب منه المندوب السامي أو يرفضها علناً.
وهنا لجأ كوكس إلى إطلاق بعبع ”المؤامرة البلشفية الشيوعية والأتراك لإثارة العراقيين ضد الإنكليز”، وأرسل تقريرا بهذا المعنى إلى لندن بتاريخ 19 نيسان من ذلك العام.
والراجح، أنّ ضغطا قويا قد سُلِّط على فيصل الثاني الذي خضع لإرادة كوكس في نهاية المطاف، كما كان يفعل في كل أزمة، وقرر التخلي عن الوطنيين ومضبطتهم، فكتب كوكس مجددا إلى لندن يبلغها بأن فيصل اعتذر له واعترف بأنه ارتكب بعض الأخطاء.
*دور المرجعيات الشيعية في المؤتمر
إزاء موقف الحكومة الضعيف وموجة القلق الشعبي, أخذ رجال الدين في النجف ورؤساء العشائر زمام المبادرة, وعقدت العديد من اللقاءات والاجتماعات مع قادة الرأي وزعماء الحركة الوطنية في النجف, وقد تمخض عن هذه اللقاءات التحرك باتجاه الجماهير لتهيئة مستلزمات الدفاع عن العراق ومواجهة الاعتداءات الوهابية بعد أن عكس موقف الحكومة العراقية عدم الجدية واتخاذها الإجراءات التقليدية التي لا ترقى إلى مستوى الحدث وخطورته, وقد اتخذ رجال الدين من مناسبة قرب زيارة منتصف شعبان التي يحضر فيها عادة الزوار من مختلف مناطق العراق للاحتفال بمولد الإمام المهدي المنتظر (عج) - موعداً لعقد الاجتماع من 8-13 نيسان 1922, الذي سيكون بمثابة مؤتمر يحضره كبار رجال الدين وسادات العشائر ورؤسائهـا وعامـة الناس, فضلاً عن دعوة الملك فيصل لحضور المؤتمر ورعايته.
ويذكر علي الوردي أن الملك فيصل كان راغباً بالتوجه إلى كربلاء في 12 نيسان, بعد أن وُجِّهت إليه الدعوة من الشيخ محمد مهدي الخالصي, إلا أنه اعتذر عن الحضور تحت ضغط المندوب السامي وقد أرسل الملك فيصل مدير الشرطة العام نوري السعيد لحضور المؤتمر ورعايته والعمل على حضّ المؤتمرين على تأييد الملك وسياسته الرامية إلى تخفيف الاعتماد على البريطانيين والمطالبة بإنهاء الانتداب البريطاني على العراق، ويبدو أن الملك فيصل حاول استثمار المناسبة في كربلاء لحصوله على الدعم الشعبي في مطاليبه بإنهاء الانتداب .
أخذت الخطوات تتسارع لانعقاد المؤتمر في كربلاء حينما أرسل السيد أبوالحسن الأصفهاني والميرزا محمد حسين الناييني برقية إلى الشيخ محمد مهدي الخالصي في الكاظمية جاء فيها: (... لا ينبغي الاتكال على وعد السلطة البريطانية في دفع شر الخوارج الوهابيين عن المسلمين فعليه نأمل حضوركم إلى كربلاء قبل الزيارة بأيام وتأمرون رؤساء العشائر كالسيد نور وأمير ربيعه وسائر الرؤساء بعد إبلاغهم سلامنا بالحضور كما أننا نحضر مع من في طرفنا من الرؤساء لأجل المذاكرة في شأنهم إن شاء الله).
واستناداً إلى ذلك هيَّأ الخالصي في الحادي من نيسان مائة وخمسين برقية إلى رؤساء العشائر يدعوهم فيها إلى حضور المؤتمر في الثامن من نيسان بما نصه:(بمناسبة تجاوز الوهابيين على حدود العراق تقرر أن يحضر العلماء وجميع رؤساء القبائل في اليوم العاشر من شعبان العظيم فيلزم حضوركم في الموعد المذكور إلى كربلاء).