أيهما أعلى؟ الاتحادية أم التمييز؟.. حالة من الإرباك بعد "إعدام" قرار للسلطة الأعلى في البلاد.. خلافات بحاجة لتفسيرات حاسمة
انفوبلس..
في سابقة هي الأولى في العراق خلال حقبة ما بعد 2003، أعدمت محكمة التمييز الاتحادية قراراً صادراً عن المحكمة الاتحادية العليا واعتبرته غير دستوري، ما أثار جدلاً كبيراً على المستوى القانوني والسياسي والاجتماعي، حيث جرت العادة على سماع جملة تقول إن قرارات الاتحادية باتّة ومُلزمة وغير قابلة للطعن، ولكن محكمة التمييز ترى عكس ذلك، وعلى الرغم من الردود والتعقيبات المتوالية حول الحادثة، إلا أنه لم يظهر حتى هذه اللحظة تفسير حاسم لخلاف المحكمتين، فهل هنالك ثغرة في الدستور؟ وهل من الممكن استغلال ما حدث سياسياً؟
المساجلة القانونية الأولى
يوم الخميس الماضي، فاجأت محكمة التمييز، الأوساط العراقية بقرار مطول من 5 صفحات سعى لتنظيم صلاحيات المحكمة الاتحادية، وتناول أحكاماً خلافية صدرت خلال الفترة الماضية.
ويتوقع خبراء وسياسيون أن القرار الأخير يمثل أول مساجلة قانونية ضد المحكمة الاتحادية، وتوقعوا أن تبدأ نقاشات جادة لتشريع قانون خاص بالمحكمة الاتحادية وآلية الرقابة عليها، وتعيين قُضاتها.
وقالت التمييز، إنها "الهيئة القضائية العليا، ولها الرقابة على جميع المحاكم، بما في ذلك المحكمة الاتحادية"، وحكمت بِعَدِّ "أي حكم صادر من المحكمة الاتحادية معدوماً إذا كان يمس الشأن القضائي".
وتعقيباً على القرار، قال القاضي وائل عبد اللطيف في لقاء متلفز، إن محكمة التمييز ليس لها صلاحية بإلغاء قرارات المحكمة الاتحادية ومسألة إعدام القرار هو رأي فقهي وليس رأي قانوني.
وأيّده بذلك الخبير القانوني فيصل ريكان، وقال إن قرارات المحكمة الاتحادية باتّة وقطعية ولم يصدر قرار من أي محكمة سابقاً يُبطل ما يصدر عنها، ولا يمكن لأي جهة مراجعة قراراتها حتى وإن كانت خاطئة، وفقاً للدستور العراقي.
بداية القصة
بدأت القصة بقيام قاضي محكمة تحقيق الشرقاط، القاضي علي بنيان كحيط، بتقديم طلب الى رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان لإحالته الى التقاعد بنسبة 80% من آخر راتب تقاضاه وفقا لقانون التقاعد الموحد المادة (35 رابعاً أ 4)، إلا أن القاضي فائق زيدان رفض الطلب في 12 أيار 2024، والسبب أن المادة القانونية توجب أن يكون لدى القاضي خدمة قضائية 30 عاماً، إلا أن قاضي محكمة تحقيق الشرقاط لديه خدمة 14 سنة في المحاماة أُضيفت لخدمته البالغة أكثر من 17 سنة في المجال القضائي، بينما يتطلب القانون أن يكون قاضيا لمدة 30 سنة، ولا تُحتسب المحاماة ضمن الخدمة القضائية ما يمنع أن يحصل على التقاعد بنسبة 80% من آخر راتب.
قام القاضي علي كحيط بعد ذلك برفع دعوى لدى لجنة شؤون القضاة، ضد رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان يطالب بها إحالته للتقاعد براتب 80% من آخر راتب له، مستندًا بذلك الى قرار من المحكمة الاتحادية العليا في 15 نيسان الماضي، حيث جاء قرار المحكمة الاتحادية العليا لحالة مشابهة، عندما قامت المحكمة الاتحادية العليا بالحكم بعدم دستورية المادة 35 رابعا أ 4، من قانون التقاعد، وذلك بدعوى طعن رفعها أحد قضاة المحكمة الاتحادية بعدما طلب التقاعد وهو عضو المحكمة الاتحادية عن إقليم كردستان، حيث رفع الدعوى على رئيس مجلس النواب بسبب تضمن المادة واشتراطها بأن "يُتم القاضي 30 عاما في القضاء او الادعاء العام"، وحكمت المحكمة الاتحادية حينها بعدم دستورية هذه العبارة وإلغائها "القضاء أو الادعاء العام"، والإبقاء على أن يتم القاضي 30 عاما بغض النظر عن نوع خدمته.
إلا أن لجنة شؤون القضاة، ردت دعوى قاضي محكمة تحقيق الشرقاط ضد القاضي فائق زيدان، ليقوم قاضي محكمة تحقيق الشرقاط بالطعن لدى محكمة التمييز على قرار لجنة شؤون القضاة، محتجًا أيضًا بقرار المحكمة الاتحادية 102 اتحادية 2024، والصادر في 15 نيسان لصالح أحد قضاتها عن كردستان ضد المادة القانونية.
ومن هنا، أصدرت محكمة التمييز قرارها بتأييد قرار لجنة شؤون القضاة، وتأييد موقف رئيس مجلس القضاء الأعلى برد طلب قاضي محكمة تحقيق الشرقاط، وأنه يجب أن يتم 30 عاما في السلك القضائي، أي أن يكون قاضيا خلال 30 عاما وليس نصف من خدمته في القضاء والأخرى كمحامٍ.
وفي ذات الوقت، اعتبرت محكمة التمييز الاتحادية، أن قرار المحكمة الاتحادية العليا الذي تمسك به قاضي محكمة تحقيق الشرقاط لإسناد طلبه، اعتبرته محكمة التمييز أنه قرار غير دستوري، كون المحكمة الاتحادية العليا تدخلت بعمل السلطة التشريعية ومنحت نفسها حق تعديل نص قانوني، وهو أمر ليس من اختصاصها ولا حقوقها، وبالتالي فهو قرار غير نافذ ولا يترتب عليه أي شيء وغير واجب التطبيق، لأن صلاحية تشريع وتعديل القوانين هو من صلاحيات السلطة التشريعية حصرا المتمثلة بمجلس النواب.
ويطرح هذا القرار والمبدأ الصادر عن محكمة التمييز الاتحادية، الباب حول تساؤلات تجاه العديد من قرارات المحكمة الاتحادية العليا، ولاسيما فيما يتعلق بتعديل وإلغاء نصوص في قانون انتخابات كردستان وقرار إقالة الحلبوسي والعديد من القرارات الأخرى.
آثار مستقبلية
وبعد قرار التمييز، أكد رئيس مركز "كلواذا" للدراسات باسل حسين، إن "محكمة التمييز أكدت أن الاختصاص التشريعي هو من الصلاحيات الحصرية لمجلس النواب، كما نصت المادة (61/ أولاً) من الدستور"؛ ما يعني أن الدستور العراقي "لا يمنح المحكمة الاتحادية سلطة تعديل النصوص القانونية النافذة، بل يقتصر دورها على الطعن في دستوريتها كلياً أو جزئياً بناءً على الدعوى المقدمة إليها".
وأضاف حسين: "قرار محكمة التمييز يصطدم مع المادة (94) من الدستور رغم وجاهة الرأي الذي تبنّته محكمة التمييز؛ ما يعني تعارضاً في النصوص القانونية؛ حيث استندت محكمة التمييز في قرارها إلى المادة (12) من قانون التنظيم القضائي رقم (160) لسنة 1979، لكن هذا الاستناد يتعارض بوضوح مع المادة (13) من الدستور التي تنص على أن الدستور هو القانون الأسمى والملزم في جميع أنحاء العراق، ولا يجوز سَنّ قانون يتعارض معه".
ورجّح حسين ولادة "آثار مستقبلية خطيرة بشأن هذا التصادم"، وأن "الخطورة الكامنة ليست فقط في الأثر الفوري للقرار، بل في الآثار المترتبة على إبطال قرارات المحكمة الاتحادية مستقبلاً، وهو ما يؤدي إلى نتائج كارثية على النظام القانوني والدستوري، ويهدد بانهيار مبادئ عدة، ما يجعل النظام القانوني كله على المحك".
هل يعود الحلبوسي؟
وتعقيباً على اللغط المُثار حول إمكانية عودة الحلبوسي لرئاسة البرلمان، رأى الخبير القانوني حسن عزيز الزرفي، أن قرار الهيئة التمييزية ضد قرار المحكمة الاتحادية لا يعني بالضرورة أن ينطبق على قرارات المحكمة الاتحادية بتنحية رئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي من منصبه أو القرارات الأخرى.
وقال الزرفي في حديث تابعته "انفوبلس"، إن "القرار الذي صدر من محكمة التمييز هو قرار أسس لحالة خاصة وهي تخص أحد القضاة الذين يعملون ضمن السلك القضائي وهنا نرى أن هناك حركة لإعدام قرارات المحكمة الاتحادية ونحن نوضح أن هذا الأمر خاص بالقضاة والسلك القضائي فقط".
وأضاف: "الهيئة العامة ومحكمة التمييز عند إحالة القرار وأعدمت قرار المحكمة الاتحادية كونها جانبت الصواب في قرارها بما يخص قانون التقاعد للقضاة وهنا لدينا مشكلة بالأساس منظومة الدستور يجب مراجعتها لأنها هي مَن أوجدت المحكمة الاتحادية والرئاسات الثلاث. أما بالنسبة للقرار فقط وهذا قرار جريء من محكمة التمييز بإعدام قرار للمحكمة الاتحادية والتي قرارها بات وملزم ويمتلك حجيّة الأحكام وقرار الهيئة بات وملزم للأحكام ولكن ملزم لمَن؟".
وأشار الزرفي إلى، أن "قرار هيئة التمييز لا يثير ضجة لأن التنظيم القضائي يوجد فيه تنظيم ونظام داخلي يحكم قراراته ولكن البعض لم يكن يتوقع أن هيئة التمييز تتخذ هكذا قرار جريء وهناك قرارات مهمة على عكس القرار مدار البحث والذي هو بسيط ولكن قد يُستَغَل مثل هكذا قرارات".
وبشأن إمكانية استغلال القرار للطعن بقرار المحكمة الاتحادية بتنحية رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، أكد الزرفي، أن "القضاء غير معرض ولا يستجيب للاستغلال من شخصيات سياسية او اقتصادية او تمتلك مناصب سيادية ولكن هذا لا يمنع من يرى نفسه مظلوما أن يتقدم للهيئة التمييزية للنظر في قضاياهم، على الرغم من أن قرار الهيئة أعدم قرار المحكمة الاتحادية لأن قرار الإعدام غير موجود لدينا في التشريعات القانونية".
رأي نيابي
إلى ذلك كتب النائب والحقوقي باسم خشان منشورا على صفحته في فيسبوك تعقيباً على قرار محكمة التمييز، وقال: قرارات المحكمة الاتحادية العليا، بموجب المادة 94 من الدستور، ليست باتة فحسب، بل هي ملزمة للسلطات كافة، ومنها محكمة التمييز، التي ليس لها أن تُلغي أو تعدم ما هو ملزم لها، ولذا يُعد حكمها مخالفا للدستور الذي هو القانون الأسمى في البلاد، وهذا ما وقعت فيه محكمة التمييز الاتحادية عندما قضت بانعدام القرار رقم 102/اتحادية/2024، ويضاعف هذه المخالفة أن سبب حكمها هو أن المحكمة الاتحادية العليا تجاوزت حدود اختصاصها وعدّلت نص قانون شرّعه مجلس النواب، وهذا غير صحيح لأن المحكمة الاتحادية العليا لم تشرع نصا جديدا، بل مارست اختصاصها الدستوري الأصيل بالغاء جزء من النص بعد أن توصلت الى أنه مخالف للدستور، وهو كذلك.
وللتوضيح، نفترض أن نصا تضمن أن (1+1 لا يساوي 2)، فعرض على المحكمة طعن في صحة عبارة "لا يساوي" لأنها تخالف ثوابت الحساب، وللمحكمة في هذه المسألة، بطبيعة الحال، أن تحكم بعدم صحة النتيجة، وتلغي المعادلة كلها، فتبقى هذه المسألة معطلة ولا جواب لها حتى يصححها المجلس، ولها أيضا أن تصحح هذا الخطأ الفاحش وتلغي "لا يساوي"، وفقا للقاعدة العامة التي تتبناها كل المحاكم العادية في العراق، بما فيها محكمة التمييز: (من يملك الكل، يملك الجزء)، وهذا ما يسمى بالإلغاء الجزئي Partial Strike Down، وهذا ما سار عليه القرار الذي أعدمته محكمة التمييز.
وكانت نتيجة المعادلة القانونية، نتيجة النص قبل إلغاء الجزء المخالف منه بقرار المحكمة الاتحادية العليا هي أن القاضي الذي لديه خدمة في الوظيفة العامة بلغت 30 سنة كلها في القضاء عدا سنة واحدة أو أقل في دائرة حكومية أخرى لا يساوى القاضي الذي تكون كل ثلاثينه في القضاء، وهذا خرق فاحش لثوابت الحساب والدستور والإنسانية، ولذا قضت المحكمة الاتحادية العليا بإلغاء "اللا يساوي" وفقا لاختصاصها القضائي الدستوري الحصري، فهل أخطأت؟
قاعدة خطيرة
إلى ذلك، نقلت وسائل إعلام محلية حديثاً لـ"مصدر قضائي رفيع"، لم تُسمِّه اعتبر ما حدث بين المحكمة الاتحادية ومحكمة التمييز "تطوراً غامضاً" في العلاقة بين المؤسسات القضائية، ووصف المصدر ما جرى بأنه "قاعدة جديدة خطيرة، وتترتب عليها نتائج خطيرة".
وذكر المصدر، إن محكمة التمييز هي أعلى سلطة في القضاء العادي، كما أن المحكمة الاتحادية هي أعلى سلطة في القضاء المختص، والتصادم بينهما يمثل لحظة غير عادية وتسمح بتشكيل مبدأ جديد يتيح للمحاكم العراقية أن تعدم قرار المحكمة الاتحادية في أي وقت، رغم أن البيان المذكور صدر بشأن ملف محدد مثل تقاعد القضاة ونحو ذلك.
وأضاف، إن هذه مشكلة قضائية كبيرة، كيف تصبح قرارات المحكمة الاتحادية غير ملزمة لمحاكم أخرى؟ إذ إننا في القضاء لدينا قاعدة حجيّة الأحكام، أي عندما تكون بحكم القانون باتة، يجب أن يؤخذ بها، لكن يبدوا أننا في العراق لدينا رأي آخر في الموضوع.
وتابع، إن الصفحات الأربع جميعها غير مهمة، المهم هو شيء واحد وهو "مبدأ أن القضاء العادي ومحكمة التمييز القضائية تستطيع أن تحكم بانعدام قرار المحكمة الاتحادية ولا تلتزم به". رغم أن هذا المبدأ غير جديد، وقد صدر نظيره في زمن القاضي مدحت المحمود.
وأكد انعدام الحكم معناه أنهاؤه بشكل كامل، أي إن القضاء العادي لا يعترف به، وهو غير ملزم للقضاء العادي، يعني أن النص الذي يقول إن قرارات المحكمة الاتحادية باتة وملزمة لن يعمل.
وبيّن، إن قرارات المحكمة الاتحادية أعلى من القوانين، وعملياً هي أعلى من الدستور، لكن القضاء هنا يقول إنه لا يعترف بقرارات المحكمة الاتحادية، بحجة أن هذا القرار معدوم، بالتالي هذا ينتهك تماما النص الذي يقول إن قرارات المحكمة الاتحادية باتة وملزمة. ورغم أن هذا صدر الآن بخصوص مسألة حول تقاعد القضاة فقط، لكن هذا أيضاً تحول إلى مبدأ، فإن وجدوا لاحقا أي قرار لا يتوافق مع وجهة نظر القضاء العادي فبالإمكان أن يُقال في حالات أخرى “إن هذا معدوم” ولن نلتزم به، وهذه قاعدة خطيرة، وتترتب عليها نتائج خطيرة أيضاً.