"الحزب الحاكم" يبطش بالمحافظة.. الأنبار بين تحرّر السلاح واستبداد الإدارة.. هل تُبنى الديمقراطية على أنقاض الخوف؟

انفوبلس..
رغم تحرر الأنبار من سطوة "داعش" عام 2017، تواجه المحافظة اليوم واقعاً جديداً من التضييق على الحريات، حيث تُستخدم السلطة الإدارية بواسطة الحزب الحاكم (تقدم بقيادة الحلبوسي) كأداة لقمع المعارضين السياسيين. اعتقالات ونقل قسري لموظفين وناشطين طالت حتى شيوخ عشائر، وسط صمت حكومي وإعلامي لافت. هذا الوضع يثير مخاوف من عودة الاستبداد بوجه جديد، ويطرح تساؤلات حول مصير الديمقراطية في واحدة من أكثر المحافظات تعقيداً في العراق.
عانت محافظة الأنبار منذ عام 2003 من تقلبات أمنية وسياسية عديدة، تمثلت بسيطرة الجماعات المتطرفة على المحافظة، وتوالي الأحزاب والتيارات التي حكمت مدنها. فما بين التيارات الإسلامية والمدنية والمتشددة، أخيراً، تحررت الأنبار عام 2017، وخلعت ثوب التطرف، إلا أن اهلها يواجهون مشكلة جديدة ألا وهي تضييق الخناق على حرية التعبير وانتقاد الوضع السياسي والفساد في المؤسسات الحكومية، وسط اتهامات لما يوصف بـ"الحزب الحاكم" في المحافظة.
شهدت مدن الأنبار خلال الفترة الماضية، حالات تضييق على ناشطين ومدونين، وصلت إلى حدّ الاعتقال، وذلك على خلفية نشرهم انتقادات لسياسيين أو مسؤولين محليين، ما دفع منظمات حقوقية عراقية إلى التحذير من اتساع الامر، والدعوة إلى احترام القانون الذي يكفل حرية التعبير عن الرأي.
النقل والتضييق
وبحسب إحصائية غير رسمية فإنه خلال العام الماضي 2024، تم اعتقال 13 ناشطاً، بسبب انتقادهم لرئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، وحزبه "تقدم"، فيما تم نقل 43 موظفاً من دوائرهم إلى مناطق نائية وحدودية وبعيدة عن مناطقهم سكناهم، لأسباب مختلفة، منها انتقاد سياسة الحزب الحاكم في الأنبار، أو انتقاد عمل إدارة الدوائر والمحافظة بشكل عام.
وخلال الأشهر الأولى من عام 2025، تم نقل 28 موظفاً من دوائرهم، بسبب آرائهم السياسية، أو لمشاركتهم في نشاط أو فعالية سياسية.
الناشط السياسي عبدالله الذبان يؤكد أنه، منذ 2019، والأنبار تشهد حملة تضييق كبيرة على الناشطين، وخاصة المهتمين بالشأن السياسي الذين يطرحون آراء معارضة للحزب الحاكم في المحافظة.
ولفت إلى أن "هذه الانتهاكات تحدث بشكل صريح، أما عن طريق الدعاوى الكيدية، والاعتقالات أو التخويف بالدعاوى القضائية، لكن الآن اتخذ التضييق على حرية الرأي سلوكاً آخر".
وأضاف، أن "ما يقوم به الحزب الحاكم يتمثل في معاقبة ونقل الموظفين الذين يبدون آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال العمل مع جهات منافسة للحزب الحاكم".
وتابع، أن "هذه السلوكيات زادت في الفترة الأخيرة، وذلك مع قرب الانتخابات واشتداد المنافسة في المحافظة، وهي تمثل انتهاكاً صارخاً لحق حرية التعبير عن الرأي وحرية الانتماء الحزبي والسياسي، وما نأسف له، هو سكوت الحكومة العراقية، عن ما يجري من قمع كبير للحريات في محافظة الأنبار، وكأنه نوع من المجاملة السياسية".
الانتخابات وتفاعلاتها
وخلال الأيام الماضية أصدر ديوان محافظة الأنبار كتاباً بنقل شيخ عشيرة "البو مرعي"، أركان خلف الطرموز، مع 8 أفراد من عائلته، إلى ناحية الوفاء، وذلك بسبب مشاركته الأخيرة في الانتخابات المقبلة، كمرشح عن تحالف "عزم" الذي يقوده مثني السامرائي.
الباحث في الشأن السياسي مهند الراوي يرى أنه، في كل انتخابات، يحصل في محافظة الأنبار ضغط سياسي ومشاحنات، ولكن الموضوع بدأ يأخذ منحى آخر.
وأوضح أن "هناك استخداماً لسلطة حزب تقدم في محافظة الأنبار، وإصدار كتب النقل بالجملة، وإقصاء الخصوم، وبناء دكتاتورية جديدة، وهذه المشكلة قد تؤدي لمنزلق خطير".
وأشار إلى، أن "ما يجري في الأنبار هو محاولة لبناء دكتاتورية جديدة، فبعد الحملة التي أقيمت ضد الحزب الحاكم في السنوات السابقة، بعدما كان يستخدم الأجهزة الأمنية لقمع الناشطين والصحفيين والشباب، بسبب مواقفهم، بات اليوم يستخدم سلطته الإدارية لنقل الموظفين ومعاقبتهم، مالياً وإدارياً".
وتابع، أن "محافظة الأنبار هي محافظة عشائرية، واستمرار سياسة القمع دون رادع حكومي وقضائي، قد يؤدي إلى تطور يضرّ بأمن المحافظة، ونحن بحاجة إلى تدخل رئيس الوزراء، ومجلس القضاء الأعلى".
وذكر أن "هناك شخصاً ضريراً فقد عينيه بحرب داعش، وتمت معاقبته بحرمانه من المستحقات المالية التي يأخذها من دائرة الرعاية الاجتماعية، بسبب منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي"، حسب قول الراوي.
ولفت إلى، أن "ما يجري هو إعادة لإجراءات حزب البعث، وكتابة التقارير، ومراقبة (مجاميع الواتساب) وتصوير ما يكتب هناك، وهذا الأمر ينافي حريات التعبير، والأخلاق بصورة عامة، ويصنع أزمة كبيرة في الأنبار".
وخلال الأعوام الماضية، أعلنت هيئة النزاهة عن أكبر حملة لملاحقة الفاسدين في قضية بيع الأراضي في محافظة الأنبار، بعد الكشف عن فرز 150 ألف قطعة أرض بطريقة غير قانونية.
وكانت قوة أمنية قادمة من بغداد قد اعتقلت في حينها عدداً من موظفي دوائر البلدية والضريبة والتسجيل العقاري في الأنبار، على خلفية وجود عمليات تلاعب في آلية توزيع قطع أراضٍ تعود للدولة.
ويسيطر حزب "تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي على إدارة محافظة الأنبار، بعد فوز حزبه خلال انتخابات مجالس المحافظات السابقة بالأغلبية.
"دكتاتورية جديدة"
من جانب آخر يؤكد رئيس ما يعرف بـ"مجلس إنقاذ الأنبار"، حميد الهايس، أنه لا يوجد ناشط أو صحفي أو موظف يستطيع التعبير عن رأيه، بسبب سياسة الحزب الحاكم المتسلطة، والعقوبات التي يفرضها على المواطنين.
الهايس قال إن "حزب تقدم صوّر للرأي العام بأن محافظة الأنبار عبارة عن أبراج وناطحات سحاب، وشوارع عملاقة ومدن سكنية، لكن الواقع يشير إلى غير ذلك، فالأنبار تعاني من نقص كبير في الخدمات، وارتفاع في معدلات البطالة، وزيادة كبيرة في نسب الفساد والسرقات ونهب المال العام".
وأوضح، أن "الأنبار هي الأكثر فساداً، وخاصة في ملفات الأراضي والتعويضات والتقاعد، وأي موظف أو صحفي أو ناشط يكتب منتقداً عمليات الفساد والسرقات يتم اعتقاله أو نقله لمكان بعيد، مع عقوبات إدارية كإيقاف الترفيعات أو طرده من منصبه لدرجة أدنى".
وأشار إلى، أنه "ما نأسف له هو المجاملة التي تبديها الحكومة العراقية للحزب الحاكم في الأنبار ورئيسه محمد الحلبوسي، بالرغم من استخدامه السلطة لأغراض حزبية وسياسية، وكان لا بدّ من تدخل مجلس القضاء الأعلى، ومفوضية حقوق الإنسان لحفظ الحريات المدنية، وكرامة المواطن التي تتعرض للإهانة".
صمت إعلامي
إلى ذلك يرى عضو الحراك الشعبي في محافظة الأنبار عبد الله الفهد، أن المحافظة تعيش في عصر "الدكتاتورية الجديدة"، وهناك عدة أطراف أمنية وسياسية واجتماعية وإعلامية تشترك بهذا الأمر.
وأوضح أن "عمليات القمع والترهيب والتضييق على الحريات متواصلة، ولا يسلّط الضوء عليها للأسف الشديد، وهناك سكوت من أغلب وسائل الإعلام، التي لا تغطي ما يجري في الأنبار، وتصور المحافظة على أنها (دبي ثانية)".
وأضاف، أن "هناك أشخاصاً مهمتهم مراقبة ما ينشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وتقديم التقارير للحزب الحاكم، وهؤلاء يقسّمون إلى مجاميع، منها من يتواجد على (الفيسبوك)، ومنهم من يتواجد في (كروبات الواتساب)، ويقومون بتصوير المحادثات، وتحويلها مباشرة".
وقال أيضاً إن "هناك أشخاصاً تم نقلهم من دائرتهم في مدينة الرمادي في مركز محافظة الأنبار إلى قضاء الرطبة أقصى غرب المحافظة، والتي تبعد 300 كيلو متر عن مدينة الرمادي، بسبب (سمايل إيموجي) على إحدى المحادثات في مجموعة واتساب خاصة بالناشطين والصحفيين والنخب المجتمعية".
وتابع، أن "الحكومة العراقية وللأسف الشديدة تقف متفرجة، رغم التقارير التي نرسلها للمنظمات المعنية بحقوق الإنسان، ورغم مناشدتنا المستمرة، لكن العلاقات السياسية تلعب دوراً على حساب معاناة شباب الأنبار ومواطنيها".
ومنذ أكثر من عقدين بدت محافظة الأنبار واحدة من أعقد المحافظات العراقية في تركيبها السياسي والأمني، حيث اختلط فيها الطابع العشائري بالنفوذ السياسي، وشهدت انتقالات دراماتيكية ما بين سطوة السلاح وهيمنة "داعش"، إلى ما يبدو اليوم أنه طور جديد من "الاستقرار المشروط"، والذي يحمل معه هواجس الاستبداد المقنّع لا الاستقرار الحقيقي.
اليوم، ورغم هزيمة الإرهاب عسكرياً، إلا أن ما تواجهه الأنبار هو معركة من نوع آخر؛ معركة "الحق في أن تكون معارضاً"، وهو حق يبدو أنه أُبعد عن ساحة الممارسة اليومية للمواطن الأنباري.
من تطرف السلاح إلى تطرف السلطة
حين كانت الأنبار تعاني من غلوّ الجماعات المتشددة، كان الرأي العام العراقي والدولي يرقب المعاناة اليومية لأهلها، ويشجب خطاب التكفير والسلاح. لكن ما يشهده أبناء المحافظة اليوم، وفقاً لشهادات متطابقة من ناشطين وشخصيات عامة ومراقبين، هو انتهاك مُمَنهج للحريات بأساليب إدارية وقانونية، أقل عنفاً في المظهر، لكنها لا تقل خطراً في الجوهر.
أن يتم اعتقال ناشط بسبب منشور، أو يُنقل موظف إلى أقاصي الصحراء لأنه تفاعل مع تعليق ساخر، فذلك لا يدخل في إطار "إجراءات تنظيمية" كما يروّج له بعض المسؤولين، بل يشير إلى تأسيس منظومة حكم مغلقة لا تتسامح مع النقد ولا تحتمل المنافسة، وهو سلوك سياسي يذكر العراقيين بحقبة لم يُطوَ ملفها بعد.
الحكم المحلي.. من تمثيل إلى تملّك؟
تاريخ الحكم المحلي في العراق بعد 2003 كان يُفترض به أن يؤسس لمبدأ "اللامركزية"، كوسيلة لتقريب الخدمات من المواطنين، ومنح المجتمع المحلي حقه في الرقابة والمساءلة. لكن ما يحدث في الأنبار اليوم يعكس اتجاهاً مقلوباً؛ حيث باتت السلطة المحلية أقرب إلى كيان حزبي يحتكر النفوذ، ويحوّل المؤسسات إلى أدوات لممارسة الضغط السياسي.
سيطرة حزب "تقدم" على مفاصل الإدارة المحلية في الأنبار، بعد فوزه في انتخابات مجالس المحافظات، لم تقترن بإصلاحات ملموسة على مستوى الخدمات أو الحد من الفساد، بل باتت بحسب تقارير متقاطعة، وسيلة لتصفية الحسابات، وتحييد الخصوم، سواء كانوا موظفين مدنيين أو حتى شيوخ عشائر.
التحضير للانتخابات.. تكميم للأفواه بدل التنافس
اللافت أن تصاعد هذا التضييق تزامن مع اقتراب الانتخابات المحلية والبرلمانية، وهو مؤشر خطير على محاولة "هندسة البيئة الانتخابية" بشكل مسبق، عبر إقصاء الأصوات المنافسة، وتفريغ الساحة من أي بدائل قد تهدد بقاء الحزب الحاكم في المحافظة.
وهنا لا بد من التوقف أمام حادثة نقل شيخ عشيرة الطرموز وعائلته، بسبب ترشحه عن تحالف منافس، وهو تطور غير مسبوق في تقاليد العملية السياسية العراقية، التي كانت -على علّاتها- تحترم مساحة معينة من حرية الترشح والتعددية.
العشيرة.. صمام الأمان أم وقود الأزمة؟
الأنبار ليست بيئة مدنية بحتة، بل تظل العشيرة فيها رقماً صعباً في المعادلة الاجتماعية والسياسية. واستهداف شيوخ عشائر أو عائلات معروفة بسبب موقف سياسي أو انتماء انتخابي، يحمل معه خطرين مزدوجين: الأول زعزعة التوازن المجتمعي الذي حافظ على أمن الأنبار بعد طرد "داعش"، والثاني فتح الباب أمام ردود فعل قد تتخذ طابعاً عشائرياً لا سياسياً، ما قد يعيد المحافظة إلى دوامة اللا استقرار.
السكوت الإعلامي.. وتواطؤ الصمت
من غير الممكن تجاهل الصمت المريب الذي تبديه وسائل إعلام محلية ووطنية تجاه ما يجري في الأنبار، خاصة في ظل شكاوى ناشطين من أن المحافظة تُقدَّم كأنها "دبي العراق"، فيما الواقع يتحدث عن عوز خدماتي وبطالة مرتفعة وقمع سياسي.
هذا التواطؤ الإعلامي، سواء كان ناتجاً عن المال السياسي أو عن الخوف، يعمّق من الأزمة، ويؤسس لرواية سلطوية أحادية، تنفي التنوع وتهمّش المعارض.
الدولة العراقية.. شاهد أم شريك؟
هنا تُطرح علامات استفهام كبرى حول موقف الحكومة العراقية، التي تملك الصلاحية القانونية والشرعية للتدخل، عبر القضاء أو هيئة النزاهة أو مفوضية حقوق الإنسان، لكنها حتى الآن، تبدو وكأنها تغضّ الطرف عن كل ما يجري، لأسباب تتعلق بتوازنات التحالفات السياسية، أو مصالح انتخابية لاحقة.
فهل أصبحت الديمقراطية العراقية، في نظر الحكومة المركزية، خاضعة للابتزاز السياسي؟ وهل تُدار الحريات في المحافظات المحررة وفق معيار الولاء لا القانون؟
الحاجة إلى "تحرير ثانٍ"
لقد تحررت الأنبار من "داعش" بقوة السلاح، لكن يبدو أن معركتها الأهم اليوم هي التحرر من القمع المقنّع، ومن نظام إداري يحاول صناعة "ديكتاتورية جديدة" تحت غطاء التنمية والتمثيل السياسي.
الأنبار لا تحتاج إلى أبراج ولا واجهات زائفة، بل إلى بيئة ديمقراطية حقيقية، تحمي الناشط كما تحمي المسؤول، وتضمن التنافس النزيه لا الإقصاء الممنهج، وتعلي من سلطة القانون على حساب نفوذ الحزب أو العشيرة أو المصالح الفئوية.
وحتى ذلك الحين، فإن الديمقراطية العراقية تظل ناقصة، ومعها يتقلص الأمل في بناء دولة عادلة يَطمئِنُّ فيها المواطن على صوته ومصيره.