الحكومة تفتح خزائن الأراضي لمستشاري رئيسها وتغلقها بوجه المعلمين والشهداء.. وثيقة رسمية تكشف حجم الفضيحة
انفوبلس/ تقارير
بينما تنتظر آلاف العوائل العراقية بارقة أمل في حل أزمة السكن الخانقة، تُفتح أبواب الدولة على مصراعيها لفئة محددة من "المقرّبين"، في مشهد يعيد إلى الأذهان معادلة قديمة: الامتيازات لمن في الظل، والحرمان لمن في الميدان.
فقد أثار إعلان النائب ياسر الحسيني، نائب رئيس لجنة الاقتصاد النيابية، عن تخصيص وبيع أراضٍ لمستشاري رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، موجة استياء صامتة، لكنها عميقة، لا سيما أن هذه الخطوة تأتي على حساب شرائح خدمية وأمنية وتعليمية طالما رفعت الدولة على أكتافها دون أن تنال من عطائها سوى الوعود المؤجلة.
ورغم أن الحكومة تتحدث عن "إصلاح شامل" و"إنصاف اجتماعي"، إلا أن وثائق التخصيص تُظهر أن العدالة لا تزال تُمارس بانتقائية، وأن الدولة، في كثير من قراراتها، تتذكر النخبة وتنسى القاعدة.
وثائق تثير الشبهات
النائب ياسر الحسيني، نائب رئيس لجنة الاقتصاد والصناعة والتجارة النيابية، فجّر هذه القضية عبر تدوينة نشرها على حسابه الرسمي، أرفقها بوثيقة رسمية تُظهر تخصيص قطع أراضٍ لشخصيات محددة قيل إنهم من الفريق الاستشاري المقرب من رئيس الحكومة.
الوثيقة التي نشرها الحسيني، والتي تلقتها شبكة انفوبلس، توثق إجراءات تخصيص تلك الأراضي وتحديد المواقع الجغرافية، وسط صمت حكومي ملحوظ حتى لحظة كتابة هذا التقرير.
وقال الحسيني في تدوينته: تم "تخصيص وبيع أراضٍ لمستشاري رئيس الوزراء بدل الشرائح المضحية: المتقاعدين، وموظفي الدولة من منتسبي مؤسسة الشهداء والسجناء، والحشد الشعبي، والتربية والتعليم العالي، والصناعة والتجارة، والصحة، والزراعة، والموارد المائية، والكهرباء، والدفاع، والداخلية، والنقل، وغيرها من الجهات الحكومية التي لم تُنصف من قبلكم."
ثم ختم النائب تدوينته بسؤال موجع للرأي العام: هل "الشرائح أعلاه لم تقدم شيئاً للبلاد مقارنة بالمستشارين؟".
ما كشفه الحسيني أثار موجة تساؤلات حول معايير العدالة في توزيع ممتلكات الدولة، وشرعية تفضيل حلقة ضيقة من المقربين على حساب شرائح تعاني التهميش منذ سنوات.
مستشارون يُكرَّمون.. وموظفون يُهمَّشون
ليست هذه المرة الأولى التي تُثار فيها قضية توزيع الأراضي والامتيازات على المسؤولين أو المقرّبين من دوائر السلطة. لكن ما يجعل هذه القضية أكثر حساسية هو أنها تأتي في وقت يُفترض أن تكون فيه الحكومة منشغلة بتحقيق العدالة الاجتماعية، خصوصًا بعد سلسلة من الخطابات والبرامج التي قدّمها السوداني بنفسه، ووعد فيها بـ"إصلاح جذري يعيد التوازن الاجتماعي ويكافئ الكفاءات الوطنية الحقيقية"، بحسب كلمته أمام البرلمان في شباط 2023.
ولكن الواقع يكشف شيئًا مختلفًا، فبينما لا يزال الآلاف من موظفي وزارات كالتربية والتعليم والصحة ينتظرون حقوقًا مؤجلة كالأراضي أو الترفيعات أو مكافآت الخدمة، تحظى مجموعة صغيرة من المستشارين بمكاسب عقارية لا تعكس التوجهات الإصلاحية المعلنة، بل تكشف عن تفاوت طبقي جديد يتشكل داخل أروقة الدولة.
العدالة المفقودة
تُعد قضية توزيع الأراضي واحدة من أكثر الملفات حساسية في العراق، خصوصًا أن الدولة ما تزال تسيطر على أكثر من 90% من الأراضي ضمن الملكية العامة.
وفي ظل غياب خطة إسكان وطنية عادلة، تتحول هذه الأراضي إلى أدوات "مكافآت" تستخدمها الحكومات المتعاقبة لكسب الولاءات أو تدعيم التحالفات الضيقة.
وبحسب تقرير سابق صادر عن ديوان الرقابة المالية لعام 2022، فإن عدد قطع الأراضي الموزعة خارج سياق الاستحقاق القانوني بلغ أكثر من 47 ألف قطعة خلال أربع سنوات فقط، بعضها ذهب لمسؤولين تنفيذيين وبرلمانيين و"مستشارين بلا ملفات".
الواقع يقول إن العراق يعاني من أزمة سكن تفوق 3 ملايين وحدة، حسب وزارة التخطيط، لكن الحكومة الحالية – التي رفعت شعار "العدالة الاجتماعية" – تُتهم اليوم بتعزيز الفجوة بدل سدها.
صوت البرلمان.. هل يُسمع؟
تصريحات النائب الحسيني تعيد تسليط الضوء على ضعف دور البرلمان في مراقبة تنفيذ السياسات الحكومية، رغم أن الدستور العراقي في مادته (61) يمنح المجلس صلاحيات رقابية وتشريعية واسعة، بما في ذلك استجواب رئيس الوزراء وأعضاء حكومته.
لكن، وحتى اللحظة، لم يصدر أي تعليق رسمي من رئاسة البرلمان أو لجانه ذات العلاقة بشأن ما أثير. فيما اكتفى بعض النواب بإعادة نشر تدوينة الحسيني، وسط غياب موقف موحد يطالب بفتح تحقيق فوري في هذه التخصيصات، أو على الأقل تعليقها مؤقتًا لحين التحقق من قانونيتها وعدالتها.
صمت حكومي يفتح باب التأويل
في الوقت الذي كان متوقعًا فيه أن تبادر رئاسة مجلس الوزراء أو الدائرة الإعلامية التابعة لها بنفي أو توضيح الحقائق حول هذه القضية، فضّلت الحكومة الصمت. وهو ما يفتح الباب أمام التأويلات والاتهامات، ويضعف الثقة الشعبية بالخطاب الرسمي.
وبالعودة إلى التجارب السابقة، فإن قضايا مشابهة تم التعتيم عليها أو تجاهلها، ما يجعل البعض يتساءل: هل نحن أمام نمط جديد من "الامتيازات المقنّعة" التي تُمنح لنخبة بعينها، بينما تُترك غالبية الشعب تُصارع يوميًا من أجل الخدمات؟
المستشارون في دولة ما بعد 2003
منذ عام 2003، برزت ظاهرة "المستشارين" في الدولة العراقية، حتى بات يُنظر إليهم بوصفهم الطبقة الرمادية التي تدير مفاصل الدولة خلف الستار.
ولا توجد لائحة واضحة تُحدد مهامهم أو عددهم، كما أن معظمهم لا يخضعون لرقابة ديوان الرقابة المالية أو لجان البرلمان بشكل مباشر.
في عهد السوداني، ازداد عدد المستشارين بحسب تقارير إعلامية إلى ما يفوق الـ 100 شخص في مواقع مختلفة، من دون الإفصاح عن مؤهلات بعضهم أو طبيعة مهامهم، ما يثير مزيدًا من الشكوك حول آلية اختيارهم ومبررات امتيازاتهم.
بين وعود الإصلاح وواقع التمييز
في النهاية، تكشف قضية تخصيص الأراضي للمستشارين عن تناقض فجّ بين الخطاب الرسمي وبين الواقع الميداني، حيث تُمنح الامتيازات لمن هم داخل "دائرة الضوء"، بينما تُترك شرائح خدمية وأمنية وتعليمية دون إنصاف.
وفي ظل عدم توفر توضيحات حكومية أو خطوات تصحيحية، تتعزز القناعة العامة بأن الدولة لا تزال أسيرة الولاءات على حساب الاستحقاقات. وقد تكون هذه القضية فرصة أمام الحكومة لتصحيح المسار، إن أرادت فعلاً كسب ثقة الناس، بدل أن تتحول المستشارية إلى بوابة جديدة للامتيازات غير العادلة، في بلد كل ما يحتاجه هو عدالة بسيطة.. وشعور بالإنصاف.
