العدالة الانتقالية في عراق ما بعد 2003.. قوانين ومؤسسات لتطبيقها.. وهيئات جديدة لإنصاف المظلومين
انفوبلس/ تقارير
ظهر مفهوم العدالة الانتقالية في العراق بعد التغيير السياسي الذي حدث في 9 نيسان 2003 وعلى إثر ذلك شُرِّعت قوانين وأوجِدت مؤسسات تُعنى بتطبيق العدالة الانتقالية، منها وزارة حقوق الإنسان التي أخذت على عاتقها توثيق الانتهاكات ووزارة الهجرة والمهجرين والمحكمة الجنائية العليا والهيأة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة، والهيأة العليا للمصالحة الوطنية، ومؤسسة السجناء ومؤسسة الشهداء، وهيئة دعاوى الملكية العقارية، وقانون إعادة المفصولين السياسيين، وقانون تعويض المتضررين الذين فقدوا جزءا من أجسادهم، فضلا عن النص على عدد من المؤسسات التي تأخذ على عاتقها تعويض ضحايا النظام البائد، لذلك سلّطت انفوبلس الضوء على هذه التشريعات، وأشّرت القفزة التي حققها العراق في مجال العدالة الانتقالية فضلا عن حجم الإنفاق وتعدّد المستفيدين.
*ما هي العدالة الانتقالية؟
كمصطلح، ظهرت "العدالة الانتقالية" في تسعينيات القرن الماضي، لتوصيف الانتقال من الأنظمة القمعية إلى الديمقراطية، وسط وشرق أوروبا، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 فضلاً عن تجارب شبيهة في بلدان أخرى في أميركا اللاتينية وإفريقيا مثل تشيلي وجنوب إفريقيا، ضمن ما عُرف على نحو أوسع بالموجة الثالثة للديمقراطية في العالم، بحسب صامويل هانتنغتون.
مع ذلك، سبقت تجارب العدالة الانتقالية ظهورَ المصطلح الذي وصفها بنحو أربعين عاماً. نقطة البدء الأشهر بهذا الصدد هي اجتثاث النازية في المجتمع الألماني، بعد الحرب العالمية الثانية، لتسهيل الانتقال الناجح إلى مجتمع ديمقراطي يتجاوز الإرث القمعي للدولة الشمولية النازية.
*العدالة الانتقالية في العراق بعد 2003؟
كانت المرّة الاولى حين شرع المركز الدولي للعدالة الانتقالية، بنيويورك، بالعمل داخل العراق، مباشرة بعد الاحتلال. حيث قام بإصدار أربعة تقارير، متوفرة باللغتين العربية والانكليزية، عن محاكمة الأنفال، والدجيل المحاكمة والخطأ، وأصوات عراقية: مواقف من العدالة الانتقالية وإعادة البناء الاجتماعي، وإرث مُر: دروس من عملية اجتثاث البعث في العراق 2004 – 2012. استند التقرير الأخير، إلى أبحاث ميدانية ومقابلات مع مسؤولين في الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث، مُركّزاً على «عملية تطهير المؤسسات من أعضاء حزب البعث» وهي، حسب التقرير، أكبر وأشهر عملية عزل موظفين لأسباب سياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وتضمن دروسا مُستقاة من دول أخرى عاشت تجربة العدالة الانتقالية بالإضافة إلى توصيات أساسية لصانعي القرار لتلافي الأخطاء.
*قوانين ومؤسسات تُعنى بتطبيق العدالة الانتقالية
شرّع العراق بعد 2003 العديد من القوانين والمؤسسات التي تُعنى بتطبيق العدالة الانتقالية في البلاد، والتي كانت كفيلة بإحداث قفزة في تطور هذه العدالة وكالآتي:
أولا: المحكمة الجنائية العراقية العليا
شُكِّلت هذه المحكمة، والتي سُمّيت في بادئ الأمر بالمحكمة العراقية المختصة بالجرائم ضد الإنسانية بأمر من سلطة الائتلاف المؤقتة بموجب الأمر (/4) لسنة 2003 لمحاسبة مرتكبي الجرائم في ظل النظام البائد.
*جدوى إنشاء المحكمة
إن إنشاء المحكمة الجنائية العراقية العليا استدعى إدراج الجرائم الدولية في القانون العراقي، وقد أثار هذا القانون الكثير من التساؤلات بخصوص جدوى إنشائها فأُعيد تشكيلها في ظل القانون الوطني وتم تغيير اسمها في تشرين الأول 2005، ويخضع تنظيم إجراءات المحكمة لقانون تأسيس المحكمة الجنائية العراقية العليا وقواعدها الخاصة بالإجراءات وجمع الأدلة، كما يعتمد إلى حد كبير على قانون الإجراءات الجُزئية العراقي (القانون 33 لسنة 1971) وقانون العقوبات العراقي وللمحكمة ولاية على العراقيين والمقيمين بالعراق ممن يزعم أنهم ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو انتهاكات لقوانين عراقية.
*أبرز القضايا التي تناولتها المحكمة
كانت من أبرز القضايا التي تناولتها المحكمة هي محاكمة المتهمين بقضايا الدجيل والأنفال والجرائم المرتكبة أثناء انتفاضة عام 1991 وقد استهلّت المحكمة عملها بمحاكمة قضية الدجيل والتي بدأت في 14 تشرين الأول من العام 2005 وأصدرت المحكمة الجنائية حكمها في قضية الدجيل في تشرين الثاني من العام 2006 وانتهت فيه إلى إدانة (صدام حسين) ومتّهمين آخرين بجرائم ضد الإنسانية: كالتعذيب والترحيل القسري والسحن والقتل العمد وغير ذلك من الأفعال اللاإنسانية التي ارتُكبت ضد مئات من القرويين في بلدة الدجيل عقب محاولة اغتيال (صدام حسين) في العام 1988.
ثانيا: هيئة المساءلة والعدالة
تُعد هذه الهيئة من آليات العدالة الانتقالية في العراق لتطهير المجتمع العراقي ومؤسسات الدولة من منظومة البعث المنحل، وإحالة عناصر الحزب الذين ثبت ارتكابهم الجرائم إلى المحاكم المختصة لينالوا جزائهم العادل، وللأخذ بنظر الاعتبار وجود حالات انتماء صوري لبعض الفئات من الشعب إلى صفوف الحزب المنحل مع عدم إيمانهم بأفكار الحزب الشوفينية وممارساته القمعية.
أُسِّست الهيئة الوطنية بموجب القانون رقم 10 لسنة 2008، وهي تُعدّ الصيغة البديلة المعدلة لقانون اجتثاث البعث، حيث كانت هذه الهيئة من أبرز مراحل العدالة الانتقالية في عراق ما بعد 2003.
ثالثا: المصالحة الوطنية
يُعد موضوع المصالحة الوطنية واحداً من أهم المواضيع المطروحة على الساحة السياسية العراقية من أجل طيّ صفحة الماضي والحفاظ على وحدة الشعب وخصوصا بسبب الأوضاع التي شهدها العراق في عامي 2006 - 2007 ، من تصاعد وتائر الخلافات وما ترتب عليها من ازدياد العنف المسلح الذي اكتسب ومنذ وقت مبكر طائفية شديدة الوضوح. لذا تعددت واشتدت الدعوات المحلية والإقليمية والدولية المطالبة بتحقيق المصالحة الوطنية في العراق.
*دور حكومة المالكي في المصالحة الوطنية
وقد أقدمت حكومة نوري المالكي على طرح مشروع للمصالحة الوطنية على مجلس النواب والذي ارتكز على ركنين اساسيين هما:
ـ الآلية المعتمدة: وتستند إلى تشكيل هيئة وطنية عليا باسم (الهيأة الوطنية لمشروع المصالحة الوطنية والحوار الوطني) والتي تتكون من ممثلين عن السلطات الثلاث، ووزير الدولة للحوار الوطني، وممثلين عن القوائم الرئيسية في البرلمان منها لجان فرعية في المحافظات لتتولى مهام توسيع المصالحة أفقياً مع لجان أخرى ميدانية تقوم بعقد مؤتمرات لمختلف شرائح المجتمع وللقوى السياسية الفاعلة في الساحة.
ـ المبادئ والسياسات المطلوبة: وتستند إلى اعتماد الحوار الوطني الصادق في التعامل مع كل الرؤى والمواقف السياسية المخالفة لرؤى ومواقف الحكومة والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية، وأن تتخذ القوى السياسية المشاركة في الحكومة موقفا رافضا للإرهابيين والصداميين ويدعو إلى إصدار عفو عن المعتقلين الذين لم يتورطوا بإعمال إرهابية، وتفعيل اللجان التحضيرية التي انبثقت من مؤتمر القاهرة للوفاق الوطني وبالتنسيق مع الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
رابعا: مؤسسة الشهداء
شُكِّلت مؤسسة الشهداء بموجب القانون رقم 3 لسنة 2006 ، بعد الإشارة إليها دستوريا بموجب المادة 140 والتي تهدف إلى معالجة الوضع العام لذوي الشهداء وتعويضهم بما يتناسب مع حجم تضحياتهم، وهذه كانت من بين أبرز مراحل العدالة الانتقالية في العراق بعد عام 2003.
خامسا: مؤسسة السجناء السياسيين
شُكِّلت مؤسسة السجناء السياسيين بموجب قانون رقم (4) لسنة 2006 وهي آلية لمعالجة الوضع العام للسجناء والمعتقلين السياسيين في عهد النظام البائد وتعويضهم ماديا ومعنويا بما يتناسب وحجم التضحيات التي قدموها والمعاناة التي تعرضوا لها جراء سجنهم واعتقالهم وأن يكون ارتباط هذه المؤسسة برئاسة مجلس الوزراء، أما هيكلية المؤسسة فيرأسها موظف بدرجة وزير يُعيَّن من قبل مجلس إدارة المؤسسة بالأغلبية من بين أعضائها والأخير يتم تعيين أعضائه من قِبَل مجلس الوزراء. وللمؤسسة فروع في الإقليم وفي المحافظات غير المنتظمة بإقليم بمستوى مديرية، كما أن للمؤسسة ميزانية اعتيادية وميزانية استثمارية.
*المشمولين بإجراءات مؤسسة السجناء
وطبقا للغموض الذي انتاب قانون المؤسسة، وفي تعريف (السجين السياسي) فقد تم تعديل القانون وأخذت المؤسسة تعمل وفقا للقانون المعدل رقم 35 لسنة 2013 وموجبه تم توضيح المشمولين بإجراءات هذه المؤسسة بالآتي :
ـ السجين السياسي: الذي سُجِن داخل أو خارج العراق وفق حكم صادر من محكمة بسبب معارضته للنظام البائد.
ـ المعتقل السياسي: من اعتُقل أو احتُجز أو أوقِف داخل وخارج العراق أو وُضِع تحت الإقامة الجبرية دون صدور حكم للاشتباه به.
- محتجزو رفحاء: وهم مجاهدو الانتفاضة الشعبانية لعام 1991 الذين غادروا العراق إلى السعودية وأسماؤهم موثّقة دوليا وكذلك ضحايا حلبجة الذين لجأوا إلى الجمهورية الإيرانية بسبب قصفهم من قبل النظام البائد.
ـ ذوو السجين أو المعتقل أو محتجزو رفحاء، الزوج والأقارب من الدرجة الأولى والورثة وفقا للقسّام الشرعي.
*التعويضات الممنوحة للمشمولين بإجراءات مؤسسة السجناء
ـ راتب شهري أو منحة مالية وهذا يتحدد بموجب المدة التي قضاها في السجن أو الاعتقال والأضرار التي لحقت به جراء ذلك.
ـ الاختيار بين تملك قطعة أرض سكنية مع منحة بناء أو بدل نقدي مساوٍ لما في ضوء التعليمات التي تصدرها المؤسسة.
ـ الأولوية لهم في تولي الوظائف العامة، وكذلك القبول في الجامعات والدراسات العليا والبعثات والزمالات.
سادسا: هيئة دعاوى الملكية
يُعد موضوع معالجة انتهاكات حق الملكية وإعادة العقارات المنتزعة قسرا إلى أصحابها الأصليين من المواضيع المُلحّة للعدالة الانتقالية في العراق، إذ تُعدّ اللائحة التنظيمية رقم (4) لسنة 2003 التي أصدرتها سلطة الائتلاف المؤقتة المحاولة الأولى لتأسيس الهيأة التي اصطلح عليها بـ (مرفق تسوية المطالبات العراقية بالملكية) ثم نصّ عليها قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وفقا للمادة (45)» ومن ثم الدستور الدائم لسنة 2005، وذلك استنادا إلى المادة 136. ثم تعاقبت على تنظيم عمل الهيأة عدة قوانين كان آخرها قانون رقم 13 لسنة 2010.
*تطور كبير
في العراق تمثلت العدالة الانتقالية بما عُرف بالعملية السياسية التي قامت، على نحو صحيح، على افتراضات أنه لا يمكن المضيّ قدماً في بناء تجربة ديمقراطية رصينة، من دون تفكيك مظالم أربعة عقود تقريباً من حكم الدولة القمعية البعثية، بتقاليدها الشمولية التي لم تترك حيزاً في حياة المجتمع، لم تخضعه لتشويه عميق، من خلال علاقة قسرية وفوقية، قادت بموجبها الدولة المجتمع وأعادَت تشكيله على أساس مقاساتها الأيديولوجية الضيقة، بدلاً من أن تكون انعكاساً مؤسساتياً لآمال المجتمع وطموحاته.
من هنا كان الكثير من الإجراءات التي قامت عليها العملية السياسية بعد عام 2003 يتّسق مع معايير العدالة الانتقالية، مثل إنشاء هيئات اجتثاث البعث، ودعاوى الملكية والسجناء السياسيين والمحكمة الخاصة وغيرها، التي تولّت إنصاف الضحايا ومعاقبة مرتكبي الجرائم، وإزالة الكثير من المظالم، التي لحقت بأفراد وجماعات مختلفة.