العراق وحرب المياه.. دفعة تركية مؤقتة وخطر جفاف دائم.. ما الذي قدمه العراق مقابل الماء؟

انفوبلس..
وسط أزمة مائية غير مسبوقة تهدد الزراعة والحياة جنوب العراق، أعادت دفعة مياه تركية جديدة أملاً مؤقتاً في إنقاذ الوضع، لكنها لم تخفف من الانتقادات الموجهة لأداء الحكومة العراقية في ملف المياه. وبينما يشكك خبراء في دوافع أنقرة، يحذر آخرون من غياب التخطيط الاستراتيجي ويطالبون بتخزين المياه وترشيدها، تفادياً لانهيار أكبر في المواسم المقبلة وتفاقم التدهور البيئي.
الدفعة المائية الجديدة القادمة من تركيا، أعادت أملا صغيرا لأراضي العراق العطشى وأنهاره الجافة، لكنه أمل مؤقت بحسب مختصين، أكدوا على ضرورة تخزين هذه المياه وترشيدها، خصوصا مع حالة الجفاف المتفاقمة في جنوب البلاد، وفيما شكك بعضهم بـ”مجانية” الصفقة، وأكد فشل المفاوض العراقي مع دول المنبع، تحدثت الجمعيات الفلاحية عن احتمالية تغيير في الخطط الزراعية مع وصول هذه المياه.
ويقول الخبير المائي تحسين الموسوي، إن “الموقف المائي صعب جدا، وكل المراقبين عدّوه الأسوأ تاريخيا للعراق من حيث القطع التام من قبل دول المشاركة المائية، خاصة وأن ما حدث في المناطق الجنوبية صادم جدا، إذ وصل الأمر إلى حد نقل المياه بالحوضيات في البصرة، فضلا عن إيقاف الخطة الزراعية الصيفية، والحديث الآن فقط عن تأمين مياه الشرب وإدامة البساتين التي اتبعت طريقة المراشنة”.
وبالنسبة لإطلاق هذه الكمية من تركيا لمدة شهرين، يضيف الموسوي، أنه “برغم الحاجة الكبيرة لأكثر من هذه الكمية، لكنها تأتي لإسعاف ما يمكن إسعافه في هذا الوقت، خصوصا مع ارتفاع درجات الحرارة وفقدان المياه، وحتى عندما يكون المخزون متوفرا، فإن العراق يفقد أكثر من سبعة مليارات متر مكعب سنويا في الصيف”.
وعن طبيعة هذه الدفعة المائية من تركيا، يواصل القول: “كان على الحكومة الإفصاح عن حقيقة هذه الدفعة، إذا ما كانت تقع ضمن اتفاق بين الطرفين أم لا”، مؤكدا “فشل المفاوض العراقي خارجيا في انتزاع حقوقه المائية من دول المشاركة، بالإضافة إلى فشل هذا الملف داخليا من خلال عدم الحفاظ على الخزين الاستراتيجي الذي كان بحدود 20 مليار متر مكعب”.
ويتابع أن “العراق ذهب إلى زراعة مواسم سابقة بطرق ري تقليدية كلفتنا الكثير، وأفقدتنا حجما كبيرا من التنوع الإحيائي، حيث تفاقمت هجرة الحيوانات، وكلما مضى الوقت سيكون الواقع أصعب”، لافتا إلى أن “أزمة المياه اليوم، أزمة عالمية لكن ما يحصل للعراق حرب مياه كان على العراق أن يذهب لتدويلها، ويطلع المجتمع الدولي على التعسف الكبير الذي صدر من دول المنبع”.
ويجد أن “هذه الدفعة وغيرها، حلول ترقيعية إذا استمرت سيكون الوضع معها صعبا للغاية، خصوصا مع فقدان الأراضي والمساحات الخضراء، إضافة إلى نسبة التلوث نتيجة التراجع البيئي وقلة الماء في أحواض الأنهر التي أصبحت مكبا للنفايات ومياه المجاري”.
وعن صعوبة هذا الموسم، يقول الخبير المائي: “توقعنا أن تكون هناك احتجاجات للفلاحين، لكن لم نشهد ذلك فحسب، إنما شهدنا احتجاجات شعبية تطالب بمياه الشرب في بعض المناطق، وما يحدث يحتاج إلى إعلان حالة الطوارئ في هذه المناطق، للحفاظ على ما تبقى من الأراضي والثروة الحيوانية”، معبرا بالقول إن “ما كنا نخشاه حدث مبكرا، على الرغم من الطمأنة حول الخزين الاستراتيجي، وسيكون المستقبل صعبا اذا لم نفكر بالخزين والسدود والخزانات وهو تحد كبير للحكومات المقبلة في هذا الملف”.
وتلقى رئيس البرلمان محمود المشهداني، الأربعاء الماضي، اتصالا “سارّاً” من نظيره رئيس مجلس الأمة التركي نعمان كورتولموش، حول زيادة الإطلاق المائية بعد موافقة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وتأتي موافقة أنقرة تأكيدا لاتفاق جرى بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ورئيس البرلمان العراقي خلال الزيارة التي أجراها إلى تركيا، الثلاثاء.
وذكر بيان للمشهداني، أنه “تم الاتفاق على زيادة الإطلاقات المائية لتبلغ 420 مترا مكعبا في الثانية”، حيث سبق أن تحدث أعضاء في لجنة الزراعة البرلمانية عن انخفاض الإطلاقات المائية من تركيا في نهر دجلة، خلال الأشهر الأخيرة، إلى أقل من 100 متر مكعب في الثانية، وأقل منها في نهر الفرات، ما يمثل “أسوأ إيراد في تاريخ العراق”، بحسب خبراء المياه.
من جانبه، يؤكد الخبير الجيولوجي والبيئي رمضان حمزة، أن “الدفعة المائية من تركيا مازالت وعدا، فالإطلاقات غير مسجلة حتى الآن على الرغم من الفيديوهات المنتشرة”.
ويضيف حمزة، أن “هذه الكمية من المياه التي ستدفعها تركيا تعني أن نهر دجلة سيكون طبيعيا، أي بالوضع قبل الأزمة الحالية، وستغذي سد الموصل الذي تم تفريغه في رية الفطام لمحصول الحنطة في نيسان أبريل الماضي”.
ويعتقد أن “هذه الدفعة من المياه غير مستمرة، خصوصا أنها غير مجانية”، مرجحا أن “يكون هذا الاتفاق مقابل أموال أو نفط يمنحه العراق لتركيا، لأن منح الماء مجانا شيء غير موجود في عرف تركيا التي تعاني اقتصاديا”.
ويكشف الخبير الجيولوجي والبيئي، أن “هناك تأويلا آخر لهذه الدفعة في الوقت الحالي، فقد تكون احتاجت تركيا إلى الكهرباء في فصل الصيف، ففتحت سد أليسو لتوليد الطاقة ليتدفق الماء إلى العراق، لكن هذا الوضع لن يستمر حتى لو أبقت تركيا السد مفتوحا، لأن سد الجزرة غير مكتمل، فإذا تم إكماله 2026 سيكون عائقا آخر لوصول المياه إلى العراق”.
ويرى حمزة، أن “هذه الدفعة جيدة، لكنها لا تعني أن تركيا ستستمر بها أو أن يعتمد العراق على هذه الصفقات، لذا يجب أن يكون العراق حذرا ويستفيد من هذه الكمية لخزنها وأن تكون الإطلاقات في سد الموصل بصورة علمية”، مشيرا إلى “إمكانية أن تستمر تركيا حتى بعد شهرين خصوصا اذا كانت بمقابل لأنها تملك الماء وانهيار اقتصادها يدفعها لذلك”.
وتأتي زيادة الإطلاقات التركية مع بدايات ذروة الصيف واشتداد أزمة المياه المتفاقمة التي يعاني منها العراق منذ سنوات، حيث تشير تقديرات الخبراء إلى أن البلاد لم تشهد أزمة مماثلة بالنسبة لتراجع مستويات خزينها المائي منذ 80 عاماً.
ويقدر الخبراء أن إجمالي الخزين المائي لا يتجاوز تسعة مليارات متر مكعب، منها 3 مليارات على نهر الفرات و6 مليارات على نهر دجلة.
ووافق الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الثلاثاء، خلال لقائه الوفد العراقي الذي يرأسه رئيس البرلمان محمود المشهداني على طلب العراق زيادة إطلاقات المياه.
إلى ذلك، يوضح رئيس الجمعيات الفلاحية، وليد الكريطي، أن “الحكومة هذا العام ألغت كافة الخطط الزراعية بما فيها المحاصيل الأساسية والخضر والبساتين بسبب الوضع المائي، وقررت أن تكون المياه للاستعمال البشري، لكن يبدو أن هناك شيئا تغير الآن بعد اتفاقات مع الحكومة التركية والحصول على دفعة مياه”.
ويضيف الكريطي، أن “هذه الدفعة ستعزز الموقف المائي وقد تدخل خطة زراعية جديدة، على الرغم من أن موسم الشلب لن يلحق بهذه الدفعة، لكن محاصيل زراعية أخرى ستتم زراعتها”.
ويردف “سابقا كان الجانب التركي يمنح نحو 200 ألف متر مكعب في الثانية، وكنا نزرع بعض المحاصيل، والآن تضاعف الرقم فبالإمكان الاستفادة من هذه المياه في الزراعة التي يجب أن تشترط بمراشنة عادلة وإدامة للمشاريع الإروائية حتى نتمكن من استغلال هذه الدفعة بصورة عادلة”.
وانطلقت موجة تفاؤل حذرة في الأوساط العراقية عقب إعلان تركيا ضخ دفعة مائية جديدة في نهر دجلة، في خطوة وُصفت بـ"المنقذة" في ظل العطش الشديد الذي يضرب البلاد، لاسيما مناطق الجنوب. إلا أن هذا التفاؤل سرعان ما توارى أمام سلسلة من التحفظات والتساؤلات التي طرحها مختصون بشأن طبيعة الصفقة، وأهداف أنقرة، وأداء بغداد المتواضع في إدارة هذا الملف الحساس.
ورغم إعلان رئيس البرلمان العراقي عن التوصل إلى اتفاق مع تركيا يقضي بزيادة الإطلاقات المائية إلى 420 متراً مكعباً في الثانية، فإن محللين بيئيين ومائيين لم يتلقوا الخبر بارتياح كامل، مشيرين إلى أن ما جرى لا يبدو "منحة مجانية"، بل على الأرجح جزء من تفاهمات اقتصادية قد تشمل النفط أو مقابل توليد كهرباء تركية خلال فصل الصيف، ما يجعل الأمر صفقة مشروطة أكثر من كونه تضامناً إنسانياً.
ويبرز هنا سؤال محوري: لماذا لم تفصح الحكومة العراقية عن طبيعة الاتفاق؟ ولماذا لا يزال المفاوض العراقي غير قادر على انتزاع حقوقه المائية الواضحة من دول المنبع، رغم أن العراق يمر بأسوأ أزمة مائية منذ ثمانين عاماً؟
التحذيرات الصادرة عن خبراء مثل تحسين الموسوي ورمضان حمزة، تكشف عن عمق الخلل في الداخل العراقي، لا سيما غياب الخطط المستدامة، وفشل الحكومات المتعاقبة في بناء خزين استراتيجي يحصّن البلاد أمام الابتزاز المائي. فالخزين المائي الإجمالي لا يتجاوز اليوم تسعة مليارات متر مكعب، مقارنةً بـ20 ملياراً في سنوات سابقة، ما يمثل انهياراً حقيقياً في البنية المائية الوطنية.
ولم يقتصر التدهور على الأرقام، بل شمل نوعية الحياة أيضاً. إذ أُجبرت مناطق في البصرة على نقل المياه بالصهاريج، وتوقفت الخطط الزراعية الصيفية بشكل شبه كامل، بينما تحولت أحواض الأنهار إلى مكبات للنفايات ومجاري صرف صحي، وسط موجات نزوح للحيوانات وتراجع كبير في التنوع الإحيائي.
في المقابل، تعكس تصريحات الجمعيات الفلاحية نوعاً من التفاؤل المشوب بالحذر، بعد أن أُلغيت كافة الخطط الزراعية سابقاً، وأصبح توفير مياه الشرب أولوية مطلقة. اليوم، ومع وصول هذه الدفعة من المياه، عاد الحديث عن إمكانية تعديل خطط الزراعة، ولو جزئياً، بما لا يشمل المحاصيل الشرهة للمياه كالشلب، وإنما محاصيل أقل استهلاكاً يمكن أن تحيي بعض الأراضي وتعيد التوازن للريف.
ومع ذلك، يرى المتابعون أن الاستفادة من هذه الدفعة تتطلب تخطيطاً دقيقاً، بما يشمل نظام مراشنة عادل، واستثماراً علمياً في الخزانات والسدود، بعيداً عن العشوائية السابقة التي بددت مليارات الأمتار المكعبة سنوياً.
تبدو الدفعة المائية التركية، رغم أهميتها، مجرد "مهدئ ظرفي" لأزمة مستفحلة، تحتاج إلى ما هو أبعد من تنازلات سياسية أو صفقات موسمية. فالعراق اليوم يقف أمام تحدٍ وجودي حقيقي، عنوانه المياه، ومضمونه الأمن القومي والغذائي والاستقرار الاجتماعي.
وإذا ما استمرت السياسة المائية العراقية على هذا النهج المرتبك، فإن سيناريوهات الجفاف والتصحر وفقدان السيطرة على الريف ستتحول من تحذيرات أكاديمية إلى واقع يومي، يُنذر بأزمات أكبر في المستقبل القريب. المطلوب الآن ليس فقط تخزين مياه الدفعة، بل تخزين الوعي السياسي بخطورة الملف، والانطلاق نحو استراتيجية مائية شاملة، تُدوّل الأزمة إن لزم الأمر، وتُعيد للعراق شيئاً من سيادته المائية المسلوبة.