بناء النفوذ وهدم المنازل.. العيداني يكرّس أسلوب التصعيد بوجه بغداد مجدداً.. قوة سياسية أم غايات انتخابية؟

انفوبلس..
منذ تسلمه مهام محافظ البصرة في 27 آب 2017، برز أسعد العيداني كمهندس صراعات مستمرة مع الحكومة الاتحادية؛ فبدا حازمًا في مواجهة الحكومات المتعاقبة، بدءًا من اتهامه للعبادي بالإهمال الأمني والخدمي عام 2018، مرورًا بتعطله لمبادرة السكن لعبد المهدي عام 2019، ثم رفضه عقد تحلية المياه لدى الكاظمي عام 2022، ووصولًا إلى رفضه الكامل لتوجيهات السوداني بوقف حملات إزالة التجاوزات عام 2025، مبرزًا استقلالية محافظة البصرة وصلاحياته الدستورية وسط أجواء من الجدل الدستوري والسياسي.
حملة الهدم
وفي مشهد مؤلم، اجتاحت جرافات البلدية عددًا من المناطق العشوائية في محافظة البصرة، مُدمّرة بيوتًا بسيطة كانت تؤوي عوائل فقيرة ومحدودي الدخل، أجبرتهم الظروف المعيشية الصعبة على السكن في هذه المناطق.
وأثارت الحملة هدم المنازل خلافاً دستورياً بين إدارة المحافظة وحكومة بغداد، إذ وجه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بوقف الحملة، إلا أن محافظ البصرة أسعد العيداني عدّ التوجيه غير ملزم له، وسط جدل بشأن الصلاحيات.
وتسببت حملة الهدم في البصرة بإزالة عشرات المنازل المتجاوزة، "وهي منازل سكنية غير رسمية" شيّدها أصحابها عشوائياً على أراضٍ مملوكة للدولة، وقد بدأت هذه الظاهرة بالانتشار في عموم محافظات البلاد بعد عام 2003، وقد تجاوز آلاف المواطنين على أراضي للدولة، وبنوا منازل لهم عليها، تُعرف اليوم باسم المناطق العشوائية.
وتصاعدت في الأيام الأخيرة حدة الرفض والانتقاد لحملة الهدم، فيما ناشدت العائلات المتضررة الحكومة المركزية بوضع حد لها، في وقت تدخلت فيه أطراف سياسية، محاولة استغلال الملف لتحقيق أجندات خاصة، الأمر الذي دفع السوداني إلى التدخل.
ووجه السوداني، أمس الاثنين، بإيقاف حملات هدم التجاوزات في المحافظات كافة "مراعاةً لأوضاع ساكنيها"، بحسب وثيقة صادرة من نائب مدير مكتبه، علي رزوقي اللامي. إلا أن محافظ البصرة أسعد العيداني، رفض تنفيذ توجيه السوداني، معتبراً أنه "غير ملزم قانونياً". وقال في بيان صحافي أصدره مساء الاثنين، إن "المحافظ يُنتخب من قبل مجلس المحافظة، ولا يُعدّ موظفاً تابعاً للحكومة المركزية".
وأكد أن "التوجيه الأخير (توجيه السوداني) يتعارض بشكل صريح مع المادة الـ 154 من قانون إزالة التجاوزات، ويُعدّ سابقة خطيرة قد تُشجّع على التعدي على الأملاك العامة والخاصة"، لافتاً إلى أن "الإجراءات التي اتخذتها محافظة البصرة جاءت استناداً إلى قرارات قضائية باتة بإزالة تجاوزات على أراضٍ خاصة"، مشدداً على "عدم التراجع عن تنفيذ القانون لصالح أي مجاملات".
ارتدادات الخلاف
وعدّت النائبة عالية نصيف، خطوة رئيس الوزراء دستورية، وقالت إن "رئيس الوزراء كان مطلبه إنسانياً، ولم يخالف القانون في إيجاد البديل للمتجاوزين على الأراضي، ولكي لا يترك العراقيين إلى المجهول"، مبينة أن "المادة الـ78 من الدستور تؤكد أن رئيس الوزراء هو المسؤول التنفيذي المباشر للسياسة العامة للدولة، وأن الدستور يمنحه العلوية على القوانين والانظمة والتعليمات".
كذلك أكد عضو اللجنة القانونية في البرلمان، النائب محمد الخفاجي، أن توجيه السوداني ملزم للمحافظ، وقال في تصريح متلفز: "ما حدث من تهديم المنازل في البصرة مؤلم"، مشدداً على أنه "لا يحق للمحافظ الاعتراض على توجيه رئيس الوزراء. السوداني يمثل الجهة التنفيذية العليا، والعيداني ملزم بتنفيذ توجيهاته".
من جهته، أكد الأكاديمي المختص في القانون الدستوري، عمار الزهيري، أن "الصلاحيات بالدستور العراقي تتعارض أحياناً، وقد تكون لصالح المحافظات مرة، وأخرى لصالح الحكومة، وأن هذا التعارض لا يمكن إزالته إلا بالتفاهمات بين الطرفين، أو في حال عدم التفاهم يُلجأ إلى الهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات".
وأشار إلى أن "الملف مرتبط بالتنافس الانتخابي، وأن توقيت الحملة التي بدأت في البصرة، وتوجيه السوداني، يأتي في وقت تتنافس فيه القوى السياسية على تحقيق مكاسب انتخابية".
وبيّن أن "العيداني يريد أن يظهر نفسه على أنه رجل دولة له قوة وسلطة بتنفيذ القانون على الجميع، وأنه يستطيع أن يرفض التوجيهات العليا، في وقت يتعاطف فيه السوداني مع المواطنين الفقراء ويظهر دعمه لهم".
وتفيد بيانات وزارة التخطيط بأن عدد التجمعات السكنية العشوائية في العراق يبلغ 4 آلاف و679، يقطنها نحو 3.6 ملايين شخص، ما يعادل نسبة 10% من سكان البلاد. وتمثل الأحياء السكنية الفقيرة أجزاءً واسعة من مدن عدة من بينها العاصمة بغداد. ويتجدد الحديث عن ملف المساكن العشوائية في العراق مع كل فترة انتخابية، حيث تتحرك أطراف وشخصيات سياسية تجاه الملف، مظهرة دعمها ووقوفها الى جانب هذه الشريحة الواسعة من المواطنين بغية كسب أصواتهم، وتعدهم بحلول ومعالجات لملفهم.
إلى ذلك، عبّر رئيس اتحاد المقاولين العراقيين في البصرة، حسين المالكي، عن استنكاره لتوجيهات رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بشأن إيقاف رفع التجاوزات في المحافظة، فيما تضامن مع المحافظ أسعد العيداني.
وقال المالكي في بيان، إن "اتحاد مقاولي البصرة يعلن عن تضامنه ومساندته لمحافظ البصرة أسعد العيداني، الذي دأب على رسم ملامح جديدة لمحافظة البصرة بعد ان شوهتها القرارات غير المسؤولة والانفعالات الانتخابية والتي كان نتاجها تحول عروس الخليج الى خربة تغص بالعشوائيات وساحة للقتال بكل انواعه ومسرحاً مفتوحاً للجريمة بكل انواعها".
وأضاف، إن "العيداني انتشل البصرة من مستنقع البؤس وأوصلها الى برّ الأمان بعد أن تعامل مع القضايا والأزمات بنفس رجل القانون والدولة"، معتبرا أن "توجيهات رئيس الوزراء في هذا الوقت الانتخابي بالتحديد هي نغمة اعتدنا على سماعها ، حيث كنا نأمل أن يجد حلولاً للعشوائيات التي أوقفت معظم المشاريع وتم حلها من خلال تعاون الحكومة المحلية مع المقاولين الذين عوضوا ساكني العشوائيات على حسابهم الشخصي ومن ارباحهم الخاصة دون وجود أي دور لحكومة المركز والسيد السوداني ، حيث كان دور حكومة المركز مقتصر على ايقاف تمويل مشاريع البصرة لأغراض سياسية".
وتابع المالكي أن "اتحاد مقاولي البصرة يستنكر توجيهات رئيس الوزراء ويعتبرها الوجه الآخر لمحاولة إيقاف مشاريع البصرة التي لم تتوقف بقطع التمويل عنها ويعلن تضامنه المطلق مع محافظ البصرة المهندس أسعد العيداني الذي لولا ثقة المقاولين بقيادته لتوقفت جميع المشاريع".
وختم المالكي أن "اتحاد مقاولي البصرة يجدد مطالبته للسوداني بدفع ديون محافظة البصرة التي تقدر بنحو 44 ترليون دينار لمحافظة البصرة فضلاً عن مطالبته بالمصادقة على خطة مشاريع عام 2024 التي لا زلنا نجهل مصيرها".
تهديد للتغطية
هذا وتداول ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو، لمكالمة هاتفية بين صحفي وشقيق النائب الإداري لمحافظ البصرة، تضمن تهديدا للصحفي بعد نشر الأخير لمقطع فيديو لإزالة التجاوزات في قضاء الزبير.
وقال الصحفي حيدر مفتن في منشور له على منصات التواصل الاجتماعي، "آني الي صورت فيديو إزالة تجاوزات خور الزبير وتم تهديدي بالقتل من قبل أخ نائب محافظ البصرة ماهر العامري، المدعو طالب العامري".
وبحسب الفيديو المتداول، جرت مكالمة هاتفية مصورة بين الصحفي وشقيق نائب محافظ البصرة تضمنت تجاوزا وتهديدا من قبل الأخير على خلفية تصوير الصحفي لمقطع فيديو يبين إزالة التجاوزات في قضاء الزبير، حيث بدا شقيق نائب المحافظ غاضبا جدا من تصرف الصحفي بنشر الفيديو ووعده بـ"تكسير الكاميرا على رأسه"، بحسب الفيديو المتداول.
تاريخ العيداني مع الخلافات
ويشتهر محافظ البصرة أسعد العيداني -خصوصاً قبيل فترات الانتخابات- بصفة الخلافات مع رؤساء الوزراء وقادة الكتل السياسية الكبيرة منذ توليه المنصب عام 2017، حيث يمتلك حصيلة هي الأكبر بين محافظي البلاد بهذه الصفة التي يعدها مسؤولين ونواب ومحللين بأنها "ألعاب سياسية" أهدافها انتخابية وتهدف بالدرجة الأساس إلى استمالة تعاطف الجانب الأكبر من أبناء المحافظة لضمان بقاءه في المنصب أطول فترة ممكنة.
ولعل أبرز خلافات العيداني مع رئيس وزراء هو ما حدث في عام 2018 وبعد عدة أشهر على توليه منصب المحافظ، حيث دخل العيداني بـ"شجار سياسي" مع رئيس الوزراء آنذاك حيدر العبادي، عقب موجة احتجاجات شعبية عنيفة اندلعت في البصرة نتيجة نقص الخدمات وتلوث المياه، ودعت بسببه الحكومة المركزية إلى تدخل أمني وخدمي مكثف.
عقد البرلمان جلسة استثنائية خصصت لمتابعة تطورات الأحداث في محافظة البصرة، فيما أعلنت قيادة عمليات المحافظة فرض حظر التجوال مجدداً.
وقال رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أمام نحو 160 نائباً حاضراً من أصل 329، إن "البصرة عامرة وتبقى عامرة بأهلها ... والخراب فيها هو خراب سياسي"، وذلك غداة إقدام متظاهرين على إحراق القنصلية الإيرانية وعدد من المباني الحكومية والحزبية في البصرة.
وأضاف إن "هناك موافقة على استثناء البصرة من بعض الفقرات من قرار تنفيذ الموازنة والقرارات الحكومية".
وطالب بعزل الجوانب السياسية عن الجوانب الأمنية والخدمية، في محافظة البصرة، محذراً من تحول الخلاف إلى خلاف مسلح.
ووقعت مشادة كلامية خلال الجلسة بين العبادي ومحافظ البصرة أسعد العيداني، انتشرت مقاطعها على مواقع التواصل الاجتماعي، حمل فيها الأخير العبادي والوزراء في حكومته مسؤولية ما حدث بالبصرة.
وقبيل الانتخابات الأخيرة، تسربت تسجيلات صوتية جرى تناقلتها على مواقع التواصل الاجتماعي في العراق وكروبات الواتساب بشكل واسع، يقول فيها العيداني، "راح يموتون على المنصب، محافظ البصرة غصباً على مقتدى الصدر والصدريين ونوري المالكي الحرامي".
ويضيف العيداني في التسجيلات المسرّبة "أهل البصرة ما يصير براسهم حظ"، تزامناً مع ظهور قصص عن كذب محافظ البصرة على البصريين بتوزيع قطع الأراضي واستغلالهم انتخابياً.
كما تحدث العيداني من خلاله، عن إعطاء مشاريع للمقاولين الذي يحصلون على 2 ألف صوت، مع ذكر عبارة "أهل البصرة ما يصير براسهم حظ".
تكتيكات المواجهة والثبات بالمنصب
ويُجسّد أسعد العيداني نموذج المحافظ القادر على استثمار أزماته المحلية وتعزيز سلطته ضد الحكومة الاتحادية. فمن خلال مناوشاته مع الحكومات المتعاقبة، برز بصفته حامياً لصلاحيات البصرة، مسخّراً الصراع مع بغداد أداة لكسب مزيد من القبول الشعبي والتحكم المالي، فيما يرشّح البعض هذه المواقف كحركات تحضيرية للمنافسة الانتخابية. يأتي ذلك وسط جدل دستوري حول توزيع الصلاحيات بين المركز والمحافظات، وآخر حول استثمار أزمة السكن العشوائي لتحقيق مكاسب سياسية.
وتشهد البصرة منذ من عقود أزمة مياه وتلوثاً بيئياً، ما أضعف ثقة السكان بالسلطة المركزية، وافتقر العيداني منذ توليه إلى دعم متواصل من بغداد، فاعتمد على تعبئة الشارع ضدّ بغداد لكسب الشرعية.
ويُمنح المحافظ صلاحيات محددة تدير ميزانية المحافظة وتراقب مشاريعها، لكنها تظلّ خاضعة للتنسيق مع الحكومة المركزية، لكن العيداني يعتمد على تفسير واسع لصلاحيات المادة 154 في قانون إزالة التجاوزات ليبرّر حملات الهدم رغم توجيهات رئيس الوزراء.
ومن بين تكتيكات العيداني في المناوشات و اللعب على وتر الدستور، حيث يردّد دائما أن “المحافظ منتخب من مجلس المحافظة” وليس موظفاً حكومياً، مستنداً إلى نص المادة 111 الدستورية التي تمنح المحافظين استقلالية تنفيذية ضمن محافظاتهم، وفي كل مواجهة، يزيد من حدة الخطاب الدستوري لتقوية موقفه المحلي وإضعاف موقف الحكومة الاتحادية.
ويحوّل العيداني كل خلاف مع بغداد إلى مناسبة إعلامية: مؤتمر صحافي، بيان رسمي، أو بث مباشر، لتوجيه رسالة مفادها “أن البصرة لا تُدار من بعيد”، ويراهن على السخط الشعبي من البطالة وتردّي الخدمات، ويقدم نفسه كبديل السلطة المركزية.
وتنشأ التوترات حول المواد المُنظّمة للعلاقة بين المحافظ والسلطة التنفيذية العليا، حيث يُخلط أحياناً بين القرارات الوزارية والتوجيهات الإدارية، ونجح العيداني عبر هذه الخلافات في تعمية القواعد القانونية وخلق مساحة من التعارض تستدعي التفاوض أو اللجوء إلى الهيئة العليا للتنسيق بين المحافظات.
وتتزامن أشرس الخلافات مع قرب الاستحقاقات الانتخابية، ما يشي بأن استعراض القوة أمام بغداد يهدف إلى حشد الأصوات المحلية للمجلس المقبل، ويبرّر العيداني مواقفه بأنها “دفاع عن حقوق البصريين”، في حين يراها خصومه “لعبة سياسية”.
وأدت حملات الهدم على المناطق العشوائية إلى نزوح عشرات العائلات، ما أثار انتقادات إنسانية شكلّت فرصة للمعارضة لابتزاز العيداني سياسياً، في المقابل، شُنّت حملات نظافة حيوية وإعادة تأهيل طرق، لكن تأثيرها كان محدوداً مقارنة بالخطوات المركزية التي أشرفت عليها بغداد.
واستفادت بعض التشكيلات الأمنية المحلية من “الصراع” بما سمح له بالاستناد إليها للضغط على بغداد، كما عمّق أسلوب المحسوبية والخطاب الانتخابي التحديات المجتمعية، فأصبح الخطاب الطائفي وتوظيف الصراع مع بغداد سمة من سمات الحياة السياسية في البصرة.
ويتجاوز صِدام العيداني مع الحكومات الاتحادية مسألة خلاف إداري إلى حرب نفوذ سياسية ودستورية، حيث تُفتح معه ملفات الصلاحيات والترابط بين المركز والمحافظات. وبينما يعتبره أنصاره رمزاً للاستقلالية والدفاع عن البصرة، يراه خصومه لاعباً سياسياً يركّب الأزمات لتحقيق أهداف انتخابية. ومع اقتراب الانتخابات المحلية، لن يكون مفاجئاً أن يستمر في صراعه مع بغداد ليختبر من خلاله قوته الشعبية والمكتسبات التي حقّقها عبر المواجهة.