ثلاثية النزاع النيابي: الحشد وحرية التعبير والسفراء.. كيف أسقطت الخلافات نصاب البرلمان؟

انفوبلس/ تقارير

في مشهد يعكس هشاشة التوافق السياسي داخل مجلس النواب، تحوّلت الجلسة الأخيرة للمجلس إلى نموذج مصغر لأزمة أعمق تتعلق بتقاطع الأولويات وافتقار التنسيق، ما أدى إلى فشل انعقادها وسقوط النصاب القانوني، وسط تصاعد الجدل حول ثلاثة ملفات محورية: قانون هيئة الحشد، قانون حرية التعبير، وقائمة السفراء الجدد.

الانقسام يعطل المؤسسة التشريعية

لم تكن الجلسة البرلمانية التي كان مقرر عقدها اليوم السبت كسابقاتها، بل شكلت منعطفاً واضحاً في الصراع النيابي الدائر خلف الكواليس.

فعلى الرغم من التوقعات بتمرير عدد من القوانين المهمة، جاء اليوم البرلماني مليئاً بالمفاجآت، حيث فشل المجلس في تحقيق النصاب القانوني، ما أدى إلى تعطيل الجلسة برمتها.

ووفقاً لبيان الدائرة الإعلامية لمجلس النواب، فقد تم تأجيل الجلسة إلى إشعار آخر (بعدها تحددت يوم غد الأحد)، في حين صدر توجيه عاجل من النائب الأول لرئيس المجلس محسن المندلاوي بفرض غرامة مالية قدرها مليون دينار عراقي على كل نائب متغيب عن الجلسة دون عذر.

صراع الأولويات: من الحشد إلى حرية التعبير

بالتزامن مع جلسة اليوم، رفع رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية، كريم المحمداوي، طلباً رسمياً إلى رئاسة المجلس لإدراج مشروع قانون هيئة الحشد الشعبي ضمن جدول الأعمال، وهو ما دعمه أيضاً رئيس كتلة الإطار التركماني غريب عسكر التركماني وعدد من النواب.

يعود هذا القانون إلى الواجهة مجدداً رغم أنه أُدرج سابقاً في جلسة 16 تموز (يوليو)، إلا أن الخلافات النيابية آنذاك حالت دون انعقاده.

المطالبون بتمرير هذا القانون يرون فيه ضرورة تنظيمية وتشريعية لمنح الهيئة إطاراً قانونياً مستقراً، فيما يزعم آخرون أن التوقيت الحالي لا يخدم هذا المشروع، بل قد يشعل المزيد من الانقسامات، خاصة في ظل التوترات الطائفية والسياسية.

قانون حرية التعبير: انقسام على الخطوط الحمراء

على الضفة الأخرى، واجه قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي معارضة شرسة داخل قبة البرلمان، حيث فشل تمريره لأسباب رئيسية؛ أولها غياب التوافق السياسي حول نصوصه، وثانيها إخلال النصاب القانوني بعد انسحاب عدد من الكتل الرافضة.

الكتل المعارضة للقانون ترى أنه لا يراعي الخصوصية الدينية والمجتمعية العراقية، ويمنح مساحة أوسع للتعبير قد تُفسر على أنها تجاوز على القيم المجتمعية، بينما يدافع عنه مؤيدوه باعتباره خطوة ضرورية نحو ترسيخ الحريات الأساسية المنصوص عليها في الدستور العراقي.

وهنا نود ان نوضح، أن شبكة انفوبلس أعدّت في وقت سابق من اليوم السبت تقريرا مفصلا عن هذا القانون أضاءت فيه الجوانب المظلمة وأسباب الجدل الدائر حوله وفندت العديد من الروايات بشأنه، وبإمكانكم قراءة التقرير عبر النقر هنا.

قائمة السفراء: عاصفة سياسية وغضب شعبي

الملف الثالث الذي فجّر الجلسة تمثل في محاولات إدراج التصويت على قائمة السفراء الجدد ضمن جدول الأعمال، في ظل غضب شعبي واسع واتهامات للمجلس بمحاولة تمرير القائمة بشكل غير شفاف.

مصادر نيابية تحدثت عن حراك مكثف من قبل بعض النواب لرفض التصويت على القائمة المثيرة للجدل، في وقت يرى فيه الشارع العراقي أن الترشيحات خضعت للمحاصصة السياسية وليس للكفاءة والخبرة، ما دفع بعض الكتل إلى الانسحاب احتجاجاً، ما أفضى إلى فشل انعقاد الجلسة.

رئاسة البرلمان تلوّح بالعقوبات

رداً على هذا التعطيل، عقد رئيس مجلس النواب محمود المشهداني اجتماعاً طارئاً بحضور النائب الأول محسن المندلاوي والنائب الثاني شاخوان عبدالله، بالإضافة إلى رؤساء الكتل النيابية.

وأكد البيان الصادر عن الاجتماع على ثلاث نقاط رئيسية:

ـ ضرورة انتظام جلسات البرلمان كواجب دستوري لا يحتمل التأجيل أو التسييس.

ـ دعوة الكتل المقاطعة إلى العودة والمشاركة بعد تنظيم جدول أعمال مشترك يراعي مصالح الجميع.

ـ المضي بتطبيق النظام الداخلي بحق النواب المتغيبين، وقد يصل الأمر إلى إنهاء عضويتهم كإجراء تأديبي لضمان احترام الثقة الشعبية.

النصاب القانوني.. أزمة متكررة بلا حلول

منذ سنوات، تعاني المؤسسة التشريعية من تكرار ظاهرة تعطيل الجلسات نتيجة عدم اكتمال النصاب القانوني. هذه الأزمة ليست فقط تقنية، بل هي انعكاس مباشر لحالة الانقسام الحاد داخل الطبقة السياسية.

في السياق ذاته، شددت رئاسة المجلس على أن تحقيق النصاب يمثل "حجر الزاوية" في إكمال المهام الدستورية، وعلى رأسها التصويت على القوانين التي تلامس حياة المواطنين، إلا أن الواقع البرلماني يُظهر عكس ذلك.

هل تُفكك الغرامات عقدة الغياب؟

الإجراء الذي اتخذته رئاسة المجلس بفرض غرامة مالية على النواب المتغيبين، والمقدر بـ مليون دينار عراقي، يأتي كمحاولة لتقليص ظاهرة الغياب غير المبرر. إلا أن مراقبين يرون أن هذه الخطوة غير كافية، كونها لا تمس جوهر الأزمة، وهو "الصراع السياسي"، الذي يدفع الكتل إلى استخدام الغياب كأداة ضغط.

بل إن هناك من يرى أن الخطوة ستبقى "شكلية"، في ظل غياب الإرادة السياسية لفرض الانضباط الحقيقي، كما أن التجارب السابقة أظهرت ضعف تنفيذ العقوبات بحق النواب المتغيبين.

الخلافات السياسية تسبق المصلحة الوطنية

ما كشفته جلسة السبت هو أن القوانين المهمة والمصيرية في العراق أصبحت رهينة التفاهمات السياسية المؤجلة، إذ لا يُنظر لها من زاوية الحاجة الشعبية، بل من زاوية الربح السياسي.

فكل قانون يُطرح أمام البرلمان، سرعان ما يُخضع لميزان الربح والخسارة الفئوية، وتتم المساومة عليه مقابل تمرير قوانين أخرى أو ملفات كقوائم السفراء أو الميزانية أو تعيينات الدرجات الخاصة.

في المجمل، فإن ما جرى في جلسة اليوم ليس حدثاً طارئاً، بل يعكس بنية سياسية مأزومة تعتمد على "المساومات لا المؤسسات"، و"التحاصص لا التوافق".

مجلس النواب في صورته الراهنة، لا يعاني فقط من غيابات أو مشادات، بل من أزمة حقيقية في دوره ووظيفته. وفي ظل غياب الإرادة السياسية الجامعة، تبقى الملفات العالقة مثل قانون الحشد، وحرية التعبير، وقوائم السفراء، شاهداً على ما يمكن أن نسميه "ديمقراطية معلقة".