جرائم بريطانيا في العراق بعد 2003 .. إبادات تحت يافطة "الحرية" وتعويضات لا ترقى للوحشية
انفوبلس/ تقارير
بين آذار 2003 وأيار 2009، شاركت القوات البريطانية في غزو العراق واحتلاله وحكمه، وخلال هذه السنوات الست وبعدها، ظهرت معلومات تشير إلى انتهاكات جسيمة وواسعة النطاق بحق العراقيين المحتجزين من قبل القوات البريطانية، شملت الاعتداءات، والتعذيب، والوفيات وانتهاكات إضافية ترقى إلى جرائم حرب. فماذا تعرف عن هذه الجرائم؟ وما حجم التعويضات التي دُفعت للعراق على إثرها؟
*تعذيب وجرائم وحشية
كان التعذيب والتنكيل بالمعتقلين العراقيين استراتيجية اتّبعها الجيش الأمريكي في العراق بعد عام2003، ولم تكن الممارسات السادية في سجن أبو غريب حالة استثنائية. حيث تعرض المئات من العراقيين إلى التنكيل وممارسات مماثلة على أيدي جنود بريطانيين والذين يبدون وكأنهم تعلموا الدرس من الأمريكان، لذلك رفع عدد من المحامين دعوى ضدهم أمام محكمة الجزاء الدولية في العاصمة الهولندية لاهاي. وتضمّن التقرير شهادات قدّمها المعتقلون.
ويقع محضر جرائم الجيش البريطاني في العراق خلال الفترة من 2003- 2008 في 250 صفحة، وهو مزود بوثائق وترجمة بعدة لغات أوروبية لأقوال عراقيين تعرّضوا للتنكيل والتعذيب في معسكرات الجيش البريطاني في العراق. وقد وصفت صحيفة “زود دويتشه” الألمانية ما ورد في أقوال الشهود العراقيين، بأنها مروعة. وجميعهم قال: إنه تعرّض إلى الركل بأقدام الجنود البريطانيين وإلى الّلكم وفي الغالب حتى أصابتهم الغيبوبة، بالإضافة إلى تغطية وجوههم بأكياس لعدة أيام، وكان الجنود البريطانيون أيضًا يجبرونهم على عدم الاستسلام للنوم، وكثيرون حاولوا الانتحار نتيجة اليأس الذي انتابهم.
ويؤكد فولفغانج جاليك، أمين عام المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والحقوق الدستورية، أن كل صنوف التعذيب التي مورست ضد المعتقلين العراقيين من قبل الجنود البريطانيين، ليس صدفة بل إنها مماثلة لصنوف التعذيب التي مارسها الجنود الأمريكان في سجن أبو غريب أو في سجون أخرى في العراق وأفغانستان. وقال جاليك: كان الجنود البريطانيون يعرفون جيدًا أن غالبية المعتقلين كانوا متدينين، وأن تعذيبهم والتنكيل بهم والتحرّش الجنسي بهم، يحبط عزائمهم كثيرًا ويجعلهم يفقدون كرامتهم ويدفعهم إلى فقدان الثقة بأنفسهم وبمحيطهم.
*50 ألف جندي بريطاني كانوا متمركزين في العراق
وتجدر الإشارة إلى أن قرابة 50 ألف جندي بريطاني كانوا متمركزين في العراق، ومنهم من أُجبر على الخدمة في معسكرات اعتقال كانت تغص بالمعتقلين، وقال جندي بريطاني قد خدم في البصرة عند سؤاله من قبل قاضٍ في لندن: إن الجميع كان يعرف أن المعتقلين يتعرّضون إلى التعذيب، وكانت أصوات المعتقلين تصل إلى خارج الأقبية، كما أوضح أنه قام مرارًا مع رفاقه باصطحاب معتقلين عراقيين إلى زنزانات التعذيب وكانوا يُطلقون على قبو التعذيب اسم “بيت الآلام”.
*تنكيل تحت يافطة "الحرية"
لقد تناقضت بريطانيا كثيرا عند الحديث عن الفضيحة الجديدة التي ارتبطت بسمعة وشرف الجيش البريطاني عندما كان في العراق. فقد روّجت وزارة الخارجية البريطانية في ديسمبر 2002 عند التمهيد لشن حملة عسكرية جديدة ضد نظام المقبور صدام، أن نظامه ارتكب جرائم فظيعة كثيرة، فقد مارس الإعدام والتعذيب والاعتداءات الجنسية وجرائم أخرى ضد الإنسانية، ولم يسلم الأطفال من هذه الجرائم التي كلها حسبما ذكرت وزارة الخارجية البريطانية، تمّت بأمر من صدّام حسين شخصيًا. وقالت الوزارة حينها: إن هذا الوضع يجب أن يتوقف فورا، لذلك يجب إزاحة صدّام حسين عن السلطة في العراق، وأن يرفرف علم الحرية في العراق، كما كان يحلو لرئيس الوزراء البريطاني توني بلير استخدام هذه العبارة .
وبعد ثلاثة أشهر شنّ البريطانيون والأمريكان حملتهم العسكرية على العراق مع ائتلاف من الدول الراغبة في المشاركة بغزو العراق لهدف تغيير نظام صدام، وكان البريطانيون أهم حليف للولايات المتحدة في غزو العراق، فروّجوا إلى أنهم أعانوا الشعب العراقي على التخلص من صدام حسين، واستخدموا كلمة التحرير. وفي عام 2011 انسحب آخر عدد من الجنود البريطانيين من العراق، مخلّفين وراءهم دمارا كبيرا ومئات المعتقلين المرضى بفعل التعذيب الوحشي الذي مورس بحقهم.
*جرائم ضد الإنسانية.. ما حدث في البصرة انموذجا
لقد ركّز البريطانيون على تعذيب المعتقلين العراقيين، ولم يكن ذلك تجاوزات استثنائية، وإنما تنفيذًا لاستراتيجية، مثلما فعل الأمريكان في سجن أبو غريب، وكما ارتبط اسم هذا السجن بسمعة الجيش الأمريكي، فإن البريطانيين مارسوا جرائم مماثلة في السجون التي أقاموها في القسم الجنوبي من العراق.
ففي البصرة أوقف الجنود البريطانيون بعد احتلال العراق في عام 2003 موظف استعلامات يعمل في أحد الفنادق يدعى بهاء موسى، وكان يبلغ حينها 26 عامًا من العمر، وتوفي بهاء بعد مرور يومين على اعتقاله في زنزانته في سجن أقامه البريطانيون في المدينة المذكورة. وبعد تشريح الجثة تبيّن أنه تعرّض إلى 93 إصابة في كامل جسده، من جروح وكسور في الضلوع، وفي النهاية كان سبب الوفاة: الموت خنقاً.
وأعرب الجيش البريطاني بعد انتشار خبر وفاة الشاب العراقي عن “بالغ أسفه” وأكد أنها حادثة فردية، لكن هذه كانت كذبة كبيرة. استنادًا إلى المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والحقوق الدستورية في برلين وهي منظمة غير حكومية، ومكتب محاماة في مدينة برمنغهام البريطانية، هناك معلومات وافية عن قيام الجنود البريطانيين بجرائم ضد الإنسانية خلال وجودهم في العراق، وقدّم المركز الأوروبي لحقوق الإنسان والحقوق الدستورية ومكتب المحاماة في برمنغهام، دعوى قضائية أمام محكمة الجزاء الدولية، وحمّل الطرفان المسؤولية بالكامل لممثلي المملكة المتحدة لارتكاب جرائم ضد الإنسانية في العراق وتعمّد تعذيب المعتقلين في العراق من عام 2003 إلى عام 2008.
*انتهاء التحقيقات دون محاكمة أي جندي
في عام 2021، قال وزير الدفاع البريطاني بن والاس إن التحقيق "المستقل" -في أكثر من 1200 شكوى ضد عسكريين بريطانيين متهمين بارتكاب جرائم حرب في العراق بين عامي 2003 و2009- انتهى من دون ملاحقات.
وقال الوزير بن والاس -في رسالة إلى البرلمان- إن "الجهاز المسؤول عن التحقيق المستقل -والذي اطلع على 1291 ادعاء منذ يوليو/تموز 2017- أغلق أبوابه رسميا"، وأضاف أنه رغم توجيه 178 تهمة، والتحقيق فيها عبر 55 آلية منفصلة، لم تتم في النهاية مقاضاة أي جندي.
وتابع، أن 5 أشخاص أُحيلوا للنيابة العامة في عام 2019، لكن لم يتم توجيه أي تهمة إليهم، مشيرا إلى "التحدي الكبير" في مصداقية التهم الموجهة لهم.
*هيومن رايتس ووتش: بريطانيا ارتكبت جرائم حرب في العراق
في عام 2020، قالت "هيومن رايتس ووتش" إن قرار المدعية العامة في "المحكمة الجنائية الدولية" بإغلاق الدراسة الأولية في جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات البريطانية في العراق من المرجح أن يعزز ما يُعتبر كيلا بمكيالين في العدالة الدولية. في 9 ديسمبر/كانون الأول 2020، أعلنت المدعية العامة للمحكمة فاتو بنسودا أنه بعد دراسة أولية استمرت ست سنوات، لن يُجري مكتبها تحقيقا رسميا في جرائم الحرب المزعومة من قبل مواطنين بريطانيين في سياق النزاع العراقي والاحتلال بين 2003 و2008.
رغم ذلك، أكد مكتب المدعية أن ثمة أدلة واضحة على أن القوات البريطانية كانت مسؤولة عن عديد من جرائم الحرب في العراق، منها القتل أو القتل العمد، والتعذيب، والانتهاكات الخطيرة ضد المعتقلين، والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي.
قال كلايف بالدوين، مستشار قانوني أول في هيومن رايتس ووتش: "مرة تلو الأخرى، أبدت الحكومة البريطانية اهتماما ضئيلا بالتحقيق والملاحقة القضائية بشأن الفظائع التي ارتكبتها قواتها في الخارج. قرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية إغلاق تحقيقها بشأن بريطانيا سيغذي بلا شك ما يعتبر ازدواجية معايير قبيحة في العدالة، باستخدام نهج للدول القوية وآخر لتلك الأقل نفوذا".
في تقرير من 200 صفحة تقريبا، قال مكتب بنسودا إنه لن يفتح تحقيقا كاملا لأنه لا يستطيع أن يستنتج أن السلطات البريطانية لم تكن مستعدة حقا لإجراء تحقيقات و/أو محاكمات ذات صلة. في الوقت نفسه، عرضت بالتفصيل بعض المجالات المثيرة للقلق المتعلقة بنهج المملكة المتحدة في معالجة مزاعم الجرائم الخطيرة. قالت بنسودا إن مكتبها سيظل منفتحا تجاه إعادة النظر في القرار بناء على حقائق أو أدلة جديدة.
*حجم التعويضات
قبل نحو خمسة أشهر، كشفت صحيفة الغارديان أن بريطانيا دفعت 14 مليون جنيه استرليني تعويضات إلى عراقيين يتهمون القوات البريطانية بأنها قامت باعتقالهم بصورة غير قانونية وتعذيبهم في العراق في فترة احتلال بريطانيا لجنوب العراق بعد عام 2003.
وقالت الصحيفة البريطانية آنذاك، إن وزارة الدفاع البريطانية دفعت تعويضات إلى 205 أشخاص رفعوا شكاوى خلال السنوات الخمس الاخيرة، وأنها تتفاوض مع 196 حالة أخرى، وهناك المزيد من الدعاوى التي يتقدم بها عراقيون، حيث من المتوقع أن تصل إلى 700 شكوى اضافية العام المقبل.
وتنقل الصحيفة عن وزارة الدفاع البريطانية قولها إنها تحقق في كل دعوى تتضمن انتهاكا لحقوق الإنسان. وقالت الصحيفة ان منظمات حقوق الإنسان والمحامين الذين يمثلون المشتكين العراقيين يقولون إن الانتهاكات وسوء المعاملة كانت نظامية وإن المحققين العسكريين والحراس المسؤولين عن سوء المعاملة كانوا يعملون وفق التعليمات التي تلقوها أثناء التدريب في بريطانيا وكذلك الأوامر والتوجيهات التي تصدر لهم في العراق.
ونقلت الغارديان عن منظمات حقوق الإنسان مطالبتها بإجراء تحقيق رسمي بالممارسات المتبعة في التحقيق وأثناء الاعتقال التي اتبعتها القوات البريطانية في العراق أثناء فترة الاحتلال.
وقبل ذلك، أقرت بريطانيا بأن قواتها في العراق عذبت وانتهكت حقوق مواطنين عراقيين احتجزتهم في جنوب العراق عام 2003 الأمر الذي يفسح المجال أمام هؤلاء للتقدم بطلبات تعويض عن الأضرار التي أصابتهم.
*تغطية أميركية
يقول الكاتب ريتشارد نورتون تايلور في مقال نشره موقع "ميدل إيست آي"، إن أحد الجنود السابقين في قوات الأمن الخاصة، ويدعى بن غريفين، أُمر بعدم الإفصاح عن معلومات سرية، وذلك بعد أن بدأ في الكشف عن كيفية تسليم القوات البريطانية للمعتقلين إلى القوات الأميركية رغم علمها باحتمال تعرضهم للتعذيب. وهذا يعني أن أميركا غطت على الجرائم البريطانية في العراق بفعل جرائمها التي فاقتها.
ويشير الكاتب إلى أنه بحلول 2016، كانت وزارة الدفاع البريطانية قد دفعت نحو 25.9 مليون دولار لتعويض ضحايا الاعتداءات في العراق في 326 قضية، وأن الأدلة التي دفعت الحكومة لإجراء تحقيق عام حول قضية بهاء موسى كشفت عن أن الجنود البريطانيين في العراق استخدموا أساليب صارمة لاستجواب المحتجزين، وذلك على غرار تغطية الرأس والحرمان من النوم ووضعيات مؤلمة تسبب الإجهاد، التي حظرتها الحكومة البريطانية منذ 1972.
ويوضح الكاتب، أن التحقيقات وجلسات الاستماع في المحكمة أظهرت بوضوح أن القوات البريطانية قد خرقت القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، بسبب افتقارها إلى التجهيزات الكافية والتدريبات اللازمة، وبسبب مواقف قادتهم في الميدان، وحركات التمرد العنيفة المفاجئة التي أثيرت في كل من العراق وأفغانستان.
*الجرائم الأميركية في العراق
وفقا للإحصاءات الرسمية، "قُتل أكثر من 100 ألف مدني في العراق أثناء الاحتلال الأمريكي للبلاد عام 2003"، ومع ذلك فإن العدد الفعلي للمدنيين الذين قُتلوا بسبب الأعمال العسكرية غير معروف، ولكنه في الغالب أعلى من ذلك بكثير.
وخلفت الحرب نحو 5 ملايين يتيم من الأطفال في العراق، أي حوالي 5% من إجمالي الأيتام في العالم، وفقا للمفوضية العراقية العليا لحقوق الإنسان.
إلى ذلك، قال الباحث المتخصص في الشؤون السياسية والاستراتيجية، أمير الساعدي، إن "الولايات المتحدة أثبتت عبر التاريخ أنها لا تهتم بحقوق الإنسان كما تدّعي، وقد استخدمت أسلحة اليورانيوم المنضب في عام 1991 عندما انسحبت القوات العراقية من الكويت، واستخدمت أسلحة محرمة دوليا عندما احتلت العراق عام 2003".
وأضاف: أن "استخدام هذه الأسلحة أدى إلى مقتل العديد من العراقيين وإلحاق أضرار بالنظام الصحي، وتسبب في ظهور العديد من الولادات المشوهة، وارتفاع حالات الإصابة بالسرطان التي لم تكن مألوفة في العراق قبل عام 2003" مشددا على أن "تأثير هذه الأسلحة سيبقى لمئات السنين".
وتابع الساعدي: "أمريكا انتهكت حقوق الإنسان في العراق وارتكب جنودها العديد من المجازر بحق العراقيين دون عقاب، مثل ما حدث فيما يسمى بمجزرة حديثة، وكذلك قصف مدينة الفلوجة بأسلحة محرمة دوليا".
ويرى الساعدي، أن "الولايات المتحدة حولت العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات مع الجماعات المتطرفة"، وقال إن "أمريكا في البداية فسحت المجال لتنظيم "القاعدة" وفيما بعد جاءت بتنظيم "داعش" وهو تنظيم متخلف قام بتدمير الثقافة والآثار ودمر كل شيء حتى المواقع الأثرية والتراث العراقي"، لافتا إلى أن "جذور هذا الإرهاب لم تنته حتى الآن، ولا تزال جذوره منتشرة في أكثر من مكان".