في عيد ميلاد السيد المسيح (ع) واستمرار الاحتفالات.. "انفوبلس" تستطلع أوضاع المسيحيين في العراق اليوم
انفوبلس/ تقرير
في 25 كانون الأول من كل عام، يحتفل المسيحيون حول العالم بعيد ميلاد السيد المسيح "عليه السلام"، حيث يعود تاريخ الاحتفال إلى القرن الرابع الميلادي، عندما تم اختيار هذا التاريخ للاحتفال بذكرى ميلاد رسول الديانة النصرانية، ولهذا يسلط تقرير "انفوبلس" الضوء عن أوضاع المسيحيين في العراق اليوم.
ويؤكد المسيحيون اليوم أنهم يشعرون بأمان كبير مع استتباب الأمن بشكل أكبر، الذي أعاد عائلات عدة إلى منازلها ومناطقها بعدما هُجّرت منها عام 2014، خاصة في الموصل (شمال).
في العاصمة العراقية بغداد ومدينة نينوى (شمال) تحديداً، تألّقت الكنائس ومنازل المسيحيين بالأضواء والزينة وأشجار الميلاد، في مشهد عكس تمسكهم بتقاليدهم ورغبتهم في إحياء روح الفرح والسلام في عيد الميلاد، لا سيما أنهم تعرضوا في سنوات سابقة لعنف واضطهاد وتهجير من جماعات إرهابية أبرزها "داعش".
يقول الأب رافد يوحنا، إن "الاستعدادات جارية للاحتفال بأعياد رأس السنة الميلادية التي تحمل رسائل أمل وسلام للعالم، خصوصاً في ظل الصراعات والتوترات التي تشهدها المنطقة".
ويلفت إلى أن "الكنائس التي تجمع الناس على المحبة والتسامح تلعب دوراً محورياً في نشر السلام من خلال الصلوات والاحتفالات الروحية والتواصل مع مختلف الطوائف. وسنركز على الصلاة من أجل السلام في العراق والمنطقة، ومن المهم أن تكون الكنائس منارات للأمل في أوقات المحن".
يتابع: "نحن ملتزمون بالصلاة والعمل لغدٍ أفضل لكل الشعوب بغض النظر عن أديانها أو انتماءاتها. أعياد الميلاد في العراق ليست مجرد مناسبة دينية عند طائفة معينة أو مناسبة سعيدة للجميع، بل فرصة لتعزيز التعايش بين مختلف الطوائف والأديان".
ورغم الصعوبات، تبقى رسالة العيد الأهم نشر الأمل والمحبة والسلام في بلد يزخر بالتنوع الثقافي والديني، وفق ما تقول سيتا جورج وتضيف: "يحتفل جيراننا المسلمون معنا ونشاركهم أعيادهم. العيد بالنسبة إلينا رسالة أمل وتجدد. نعيش في ظروف صعبة، لكن الاحتفال بعيد الميلاد يمنحنا قوة للمضي قدماً. نشكر كل من يشاركنا الفرحة من المسيحيين ومن الطوائف الأخرى".
ويحمل عيد الميلاد في العراق هذا العام طابعاً مميزاً، إذ يشهد زيادة في التعاون بين الطوائف المختلفة لإحياء المناسبة، كما تنظم احتفالات واسعة في مدن تدمّرت سابقاً مثل الموصل، وذلك بعد إعادة إعمار بعض الكنائس، وفق ما تذكر ماريا حنا (63 عاماً).
وكانت ماريا عادت إلى مدينة القوش شمالي الموصل قبل عامين، بعدما نزحت أسرتها إلى أربيل عام 2014 إثر سيطرة تنظيم "داعش" على مدينتهم. وتقول: "بعد سنوات من المعاناة، عادت احتفالات الميلاد إلى مدينتنا. نشعر اليوم بأهمية التكاتف مع جيراننا من كل الأديان لإحياء الفرح والسعادة في قلوب الجميع".
وشهدت شوارع المدن في العراق، خصوصاً التي تضم خليطاً من الأديان والمذاهب، إقبالاً ملحوظاً على الزينة، وانتشرت أشجار الميلاد والأضواء والنجوم والكرات الملونة ومختلف أشكال الزينة. ونشطت الحركة في محال بيع الهدايا التي عرضت ألعاباً وكل لوازم الزينة والشوكولاتة المغلفة بألوان العيد. لكن الظروف الاقتصادية الصعبة ألقت بظلالها، وباتت عائلات عدة أكثر تركيزاً على الاحتفالات الروحية والبسيطة، مع تقليل النفقات على الزينة والهدايا مقارنة بالسنوات السابقة.
مشكلات المسيحيين في العراق
"من أبرز التحديات التي نواجهها كمسيحيين في العراق هي الهجرة الجماعية التي باتت تستنزف وجودنا السكاني بشكل مقلق على مدى العقود الأخيرة"، هذا ما قاله، توني توما، وهو مواطن عراقي من الديانة المسيحية.
ويضيف توما، أن "في كل أزمة أمنية أو سياسية، غادرت آلاف العائلات المسيحية البلاد بحثًا عن حياة أكثر استقراراً"، مبيناً أن "هذا النزيف المستمر لا يقتصر على تقليل الأعداد في العراق، بل يضعف تأثيرها في المشهد الاجتماعي والسياسي العراقي".
وبدأت معاناة المسيحيين في العراق منذ (تشرين الأول 2010)، حيث احتجز إرهابيو تنظيم "القاعدة" عشرات المسيحيين رهائن داخل كنيسة "سيدة النجاة" وسط بغداد، قبل إطلاق الرصاص عليهم، ما أسفر عن مقتل 60 شخصاً وإصابة عشرات آخرين، في واحدة من أعنف الهجمات التي طالت أتباع الديانة بالعراق.
بينما تقول هيا ئمنويل، وهي عراقية كانت تسكن مدينة الموصل، إنه "رغم التحسن النسبي في الوضع الأمني، إلا أن آثار الماضي ما زالت تُلقي بظلالها على المسيحيين عموماً، الذين تعرضوا خلال السنوات السابقة لتهديدات مباشرة من الجماعات الإرهابية مثل داعش، التي استهدفت المجتمع واستولت على الممتلكات، الأمر الذي أجبرهم على النزوح من المناطق التاريخية في الموصل وسهل نينوى".
"للأسف"، والكلام لئمنويل، "العديد منا لم يتمكن من العودة حتى الآن بسبب الدمار الكبير الذي طال البنية التحتية والمنازل، فضلًا عن الأعباء النفسية التي خلّفتها تلك التجارب، إلى جانب ذلك، نواجه تحديات كبيرة في استعادة ممتلكاتنا التي تم الاستيلاء عليها بطرق غير قانونية، سواء من قبل جماعات مسلحة أو أفراد استغلوا ضعف القانون في تلك الفترة".
وشهد العام 2023 أحداث كان لها آثار كبيرة على مشاعر المسيحيين، أبرزها الصراع بين الحكومة ولويس ساكو، بينما الحدث الآخر كان في نهاية أيلول 2023، إذ شب حريق هائل في قاعة الهيثم للمناسبات والأعراس في قضاء الحمدانية في محافظة نينوى، أودى بحياة ما لا يقل عن 130 شخصاً من الأطفال والنساء والرجال من الديانة المسيحية.
وفي العام الماضي، كشف الكاردينال لويس ساكو، في بيان رسمي عن تراجع نسبة المسيحيين في العراق من 4% إلى نحو 1%، مشيراً إلى مقتل 1200 مسيحي خلال 15 سنة إثر أعمال العنف.
وبحسب تقرير سابق لمفوضية حقوق الإنسان في العراقي صدر في (آذار 2021)، هناك نحو 250 ألف مسيحي فقط موجودين في جميع أنحاء العراق من أصل 1.5 مليون كانوا متواجدين قبل 2003.
نفس التقرير، كشف أيضاً عن قتل 1315 مسيحياً بين عامي 2003-2014، بالإضافة إلى نزوح 130 ألفا واختطاف 161 آخرين خلال فترة سيطرة "داعش" الارهابي على مدينة الموصل بين عامي 2014-2017.
*لمحة تاريخية
المسيحية هي من أقدم الديانات في العراق والمنطقة، إذ دخلت في القرن الأول الميلادي على يد الرسول "توما" ورفاقه، وازدهرت في مدن مثل الحيرة وأربيل، حيث تأسست كنيسة المشرق، التي أصبحت مركزاً رئيسياً لنشر المسيحية إلى بلاد فارس والهند والصين، وهذا الكلام وفقاً لأستاذ علوم التاريخ في الجامعة المستنصرية علي البصير، الذي أكد أن المسيحيين عانوا في ظل الإمبراطورية الساسانية من الاضطهاد بسبب الصراع مع الإمبراطورية الرومانية، لكنهم استمروا في ممارسة شعائرهم كما تعرضوا لأضرار كبيرة خلال الغزو المغولي في القرن الثالث عشر، إذ دُمّرت الكنائس والأديرة، لكنهم استمروا في العيش في مناطق شمال العراق.
وتعيش في العراق 14 طائفة مسيحية معترف بها رسمياً، غالبيتها في بغداد ومحافظة نينوى وشمال وإقليم كوردستان، فيما تعتبر الطوائف (الكلدان، السريان، الآشور، الأرمن) الأكثر انتشاراً في البلاد.
وأضاف البصير، أن "الطوائف المسيحية تعرضت في العقود الأخيرة لتحديات كبيرة، أبرزها الحروب والنزاعات الطائفية والإرهاب، مما دفع العديد منهم إلى الهجرة خارج البلاد رغم ذلك، لا تزال بعض الطوائف المسيحية تحتفظ بمواقعها التاريخية وتراثها الثقافي، مثل الأديرة والكنائس التي تشهد على عراقة المسيحية في هذه الأرض".
وتشير التقديرات إلى وجود ثلاث كنائس يونانية أرثوذكسية وأربع كنائس أرثوذكسية قبطية في العاصمة بغداد و57 كنيسة للروم الكاثوليك في عموم أنحاء البلاد، فضلًا عن عدد صغير من البروتستانت.
أعداد الديانة المسيحية
ويتابع الأكاديمي حديثه قائلاً، إن "أعداد المسيحيين شهدت تغيرات كبيرة عبر التاريخ، ففي العصور الأولى كانوا يشكلون نسبة كبيرة من السكان، خاصة خلال الحقبة الساسانية وبعد انتشار المسيحية في القرن الأول الميلادي ظلت مزدهرة في العصور الإسلامية المبكرة، لكن الأعداد بدأت بالتراجع تدريجياً بسبب الاضطهاد الديني، الضرائب المفروضة مثل الجزية والغزوات المغولية والعثمانية التي استهدفت الأقليات".
وفي العصر الحديث، تسارعت وتيرة الانخفاض بشكل كبير خلال القرن العشرين نتيجة الحروب، النزاعات الطائفية، والحصار الاقتصادي، وبعد 2003 وما تلاه من انهيار أمني، وظهور تنظيمات إرهابية تسببت بموجات هجرة جماعية للمسيحيين، إذ أدت هذه العوامل إلى انخفاض أعدادهم من عدة ملايين تاريخياً إلى أقل من 500 ألف نسمة اليوم، حسب قول البصير.
وهو يضيف، إن "المسيحيين اليوم يتركزون بشكل رئيس في إقليم كوردستان وسهل نينوى، مع وجود أقلية صغيرة في بغداد والبصرة"، مبيناً أن "هذا التوزيع الجغرافي الحالي هو نتيجة لتحولات كبيرة عبر التاريخ".
ووفقاً للبصير، فإن سيطرة "داعش" على الموصل وسهل نينوى في العام 2014 كانت نقطة تحول رئيسة، حيث فرّ معظم المسيحيين من هذه المناطق إلى إقليم كوردستان أو دول أخرى، وعلى الرغم من تحرير هذه المناطق، فإن عودة المسيحيين إليها كانت محدودة بسبب نقص الأمن والخدمات.
ويعتبر إغلاق الكنائس في العراق منذ العام 2007 تحديداً مؤشراً واضحاً على التحديات التي تواجه المسيحيون، حيث تحولت هذه الأماكن التي كانت رمزاً للحياة الروحية والإيمان إلى أماكن مهجورة.
*القانون العراقي
رغم المحاولات الحكومية للتصدي للانتهاكات التي طالت المسيحيين، ومساهمات بعض الجهات في استعادة بعض الممتلكات، إلا أن المخاوف الأمنية والاجتماعية المستمرة، فضلاً عن عدم الشعور بالأمان الكامل، دفعت بغالبية المسيحيين إلى اتخاذ قرار الهجرة.
وبشأن حقوق المسيحيين في القانون العراقي، يقول علي التميمي، المتخصص في الشأن القانوني إن "محكمة المواد الشخصية تُعد جهة قضائية مختصة بالنظر في القضايا المتعلقة بغير المسلمين (المسيح)، مثل قضايا الإرث، الوصايا، التفريق، توزيع الأثاث، وغيرها من المسائل الشخصية"، مضيفاً أن "هذه المحكمة تعمل وفقاً لقواميس الطائفة المعنية، سواء كانت مسيحية، إيزيدية، أو صابئية، وتستند في قراراتها إلى مرجعيات متعددة، منها مجلة الأحكام العدلية الصادرة في العهد العثماني، القوانين العراقية النافذة، الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية سيداو، بالإضافة إلى الأعراف السائدة".
عادة، ترتبط محكمة المواد الشخصية بقاضي البداءة، إلا إذا تم تخصيص قاض مستقل لها، والكلام للتميمي، الذي تابع قائلاً: "كما أنها تستعين بمرجعيات الطائفة الدينية للاستفسار عن القواميس أو الأحكام التي تحكم الطائفة المعنية لضمان تطابق القرارات مع التشريعات الدينية الخاصة".
وأردف التميمي أن "زخم العمل في هذه المحاكم يختلف من منطقة إلى أخرى، حسب الكثافة السكانية للطائفة، وأن القرارات الصادرة عنها يمكن الطعن بها تمييزاً أمام محكمة التمييز الاتحادية، ما يجعلها جزءاً أساسياً من المنظومة القانونية العراقية التي تراعي التنوع الديني والثقافي، وتحرص على حماية حقوق جميع المواطنين وفقاً لقوانينهم الخاصة".
المادة 125 من الدستور العراقي تشير إلى "ضمان الحقوق الإدارية والسياسية والثقافية والتعليمية لمختلف القوميات"، بينما نصت المادة (41) على "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب ديانتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم، وينظم ذلك بقانون". وأكدت المادة (43) من الدستور أن "أتباع كل دين أو مذهب أحرار في (أ) "ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية و(ب) "إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها، وينظم ذلك بقانون".