قراءة لتكتيك الصدر قبل الانتخابات.. مقاطعة حادة يتبعها تراخٍ بالموقف.. هل يعود التيار من الباب الخلفي؟

انفوبلس..
في ظل تزايد المؤشرات على مرونة موقف التيار الصدري من الانتخابات، يتصاعد الجدل السياسي بشأن جديّة المقاطعة المعلنة. وبينما يرى مراقبون أن قرار الصدر لا يزال مبدئياً، تلوح في الأفق سيناريوهات بديلة تشمل الدعم غير المباشر لقوائم انتخابية لكسر هيمنة خصومه وتعديل موازين اللعبة.
وبدا التيار الوطني الشيعي بزعامة مقتدى الصدر أكثر تسامحاً في لهجة مقاطعته الانتخابات النيابية، مقارنة بالأشهر الماضية، وهو ما قرأته الأوساط السياسية من حديث “وزيره” صالح العراقي، وتوقيعات الصدر الأخيرة، وبالرغم من أن المراقبين السياسيين أجمعوا على عدم مشاركة التيار في هذه الانتخابات، إلا أن هناك من لم يستبعد الدخول بأعضاء “صدريين”، أو دفع جمهوره نحو دعم قوائم مناوئة للإطار التنسيقي بهدف إفشال أغلبيته الانتخابية وتغيير المعادلة.
العودة غير ممكنة
ويقول مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل، إن “مقاطعة التيار الوطني الشيعي للانتخابات مستمرة، ولا يمكن العودة عنها لأنها تتعلق بموقف مبدئي في التضاد بين زعيم التيار مقتدى الصدر وقوى الإطار التنسيقي التي توصف من قبل الأول بأنها فاسدة وذات أخطاء على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع”.
ويضيف فيصل، أن “الصدر ما زال متمسكا بموقفه بالعمل على تفكيك الفصائل وسحب أسلحتها وحصرها بيد الدولة واتباع سياسة لا شرقية ولا غربية ومنهج وطني غير عابر للحدود على عكس الفصائل والأحزاب التي يرى أنها فشلت في إدارة الدولة وعدم التزامها بالأفكار الأساسية للمرجعية في الإصلاح واختيار الأشخاص للمناصب على أساس الكفاءة وليس الانتماء الحزبي”.
وكان الصدر قد أعلن مقاطعة الانتخابات المقبلة، في آذار مارس الماضي، عندما أكد رداً على سؤال أحد أتباعه، قائلا: “ما دام الفساد موجودا فلن أشارك في عملية انتخابية عرجاء لا همّ لها إلا المصالح والطائفية والعرقية والحزبية.. ما زلت أعوّل على طاعة القواعد الشعبية لمحبي الصدرين في التيار الوطني الشيعي، ولذا فإني كما أمرتهم بالتصويت فاليوم أنهاهم أجمع من التصويت والترشيح ففيه إعانة على الإثم”. ومذاك تصاعدت حدة المقاطعة لدى أنصار الصدر إلى حد نشر لوحات تحمل شعار “مقاطعون” في الشوارع.
ويعتقد فيصل، أن “الحديث عن الذهاب إلى مشاركة صدرية في الانتخابات لن يكون في هذه الدورة على الإطلاق؛ لأن التغيير الجذري الذي يطلبه التيار مازال معدوما، أما الخيار الذي طرحه وزير الصدر فهو يتعلق بالذهاب إلى مشاركة أعضاء من التيار الصدري بالانتخابات، أو تشجيع قائمة من القوائم ينتخبها الشرفاء –على حد وصفهم- أو ممن ممكن أن تكون برامجهم قريبة من التيار الوطني الشيعي فهذا وارد”.
ويرى أن “التيار قد يذهب في هذا الخيار لكي يلعب دورا مهما جدا للتأثير في مجرى الانتخابات ويكون حاضرا من خلال أصواته ورفع فرص العديد من التحالفات الانتخابية السياسية التي ليس لديها حظوظ كبيرة وهذا سيقلب معادلات الإطار التنسيقي، في وقت لن يذهب التيار الوطني الشيعي للترشح والدخول للحكومة والبرلمان، أي يبقى مقاطعا ومعارضا ومتمسكا بمبادئه الأساسية”.
ويهدف التيار بهذه الخطوة إذا ما تمت، بحسب فيصل، إلى “إفشال الإطار في الانتخابات، من دون أن يشارك بها، أي مشاركة أعضاء لتغيير قواعد اللعبة ونتائجها، أو من خلال أصوات تدعم قوائم قد تكون معارضة أو غير متوافقة مع الإطار التنسيقي”.
بداية الشك
ودخل الشك في خطوة المقاطعة عندما تحدث الصدر في 13 تموز يوليو الحالي، عن ماهيّة الكتلة السياسية التي ستعمل على تنفيذ “مطالب الإصلاح” مقابل التصويت لها في الانتخابات، إذ نقل المقرب منه المعروف بـ”صالح محمد العراقي” قول الأخير في بيان: “أكتب كلماتي هذه واجتماعنا معه في الحنانة ما زال مستمرا، ويسألنا: مَنْ مِن الكتل المرشحة للانتخابات برأيكم يمكن أن يكون برنامجها: الاستقلال بلا تبعية وحصر السلاح بيد الدولة وتقوية الجيش والشرطة وحلّ المليـشيات ودمج الحشـد الشعبي في القوات الأمنية أو تنظيمه والتمسّك بحبّ الوطن وكشف الفاسـدين والسعي للإصلاح؟ وما هي الضمانات التي يمكن أن تؤخذ منها مقابل إعطائها أصوات الشرفاء؟”.
لكن من جهته، يرى المحلل السياسي غالب الدعمي، أن “لهجة المقاطعة لدى الصدريين لم تخفت، لأن قرار الصدر بالمقاطعة كان قد صدر سابقا أكثر من مرة، لذا فإن هذه القصة حُسمت ولم يعد هناك مجال للعودة عنها”.
وعن تحديث البيانات الانتخابية لأنصار التيار، يجد الدعمي أنه “أمر مختلف، لأن هذا التحديث كان بهدف آخر، وهو أنه يظهر عدد من شاركوا في الانتخابات في النسبة التي تعلنها المفوضية، لأن الأخيرة اعتمدت نظاما لاحتساب النسبة عن طريق تقسيم المشمولين في الانتخابات ممن استلموا بطاقاتهم فقط، ولتفويت هذه الفرصة لجأوا إلى التحديث كي يدخلوا ضمن نسبة المفوضية وعدم المشاركة، لذا وجه الصدر بتحديث البيانات”.
وفي وقت سابق من الشهر الحالي، جدد الصدر، تأكيده على مقاطعة الانتخابات النيابية المقبلة، وقال في منشور، إن “من شاء فليقاطع، ومن شاء فليتخذ شهوة السلطة سبيلا”، مضيفا أن “الحق لن يقام، والباطل لن يدفع، إلا بتسليم السلاح المنفلت للدولة، وحل الميليشيات، وتقوية الجيش والشرطة، وضمان استقلال العراق وعدم تبعيته، والسعي الجاد نحو الإصلاح ومحاسبة الفاسدين.. وما خفي أعظم”.
وأعلن التيار الوطني الشيعي، الأسبوع الماضي، البراءة من 31 شخصية من “سرايا السلام” والتيار الوطني الشيعي، لترشحهم في الانتخابات القادمة، رغم قرار المقاطعة.
تكتيك تعبوي
إلى ذلك، يجد المحلل السياسي المقرب من التيار الصدري، مجاشع التميمي، أن “خفوت لهجة المقاطعة تجاه الانتخابات لا يعني تراجعا عن الموقف السابق بقدر ما هو إعادة تموضع سياسي محسوب، فالصدر يدرك أن الفراغ الذي خلّفه انسحاب التيار لم يُملأ، وأن القوى التقليدية عادت لإنتاج ذاتها بأساليب أكثر فسادا وتبعية، ما أضعف ثقة الشارع العراقي بالعملية السياسية”.
وعن توقيعات الصدر الأخيرة، مثل “مصباح الهدى ننتخب”، فهي تشير، بحسب التميمي، إلى “تحول في الخطاب من المقاطعة إلى التمهيد لفعل سياسي جماهيري، دون التصريح المباشر بالمشاركة”، لافتا إلى أن “هذا الأسلوب يعكس تكتيكا تعبويا يهدف إلى إعادة ترتيب جمهور التيار، وتوحيد الصفوف قبل اتخاذ القرار النهائي”.
وكان الصدر، قد وقع أمس، بخط يده، “مصباح الهدى ننتخب، وسفينة النجاة نركب”، وهو ما قرأه البعض تلميحا للمشاركة في الانتخابات بصورة أخرى.
وعن حديث وزير الصدر صالح محمد العراقي عن “قائمة ينتخبها الشرفاء”، فهو كما يرى التميمي، “رسالة مزدوجة: أولا، اختبار لردة فعل الجمهور، وثانيا، إشارة لوجود نقاش داخلي حول شكل العودة، لا مبدأ العودة ذاته”.
ويخلص إلى أن “التيار الصدري لا يعود إلى الانتخابات بحثا عن سلطة، بل ليمنع انزلاق البلاد نحو التدهور الكامل، وليؤسس لكتلة عابرة للمحاصصة وفق شروطه، لا شروط الآخرين”، لافتا إلى أن “من يعرف منهج الصدر، يدرك أن كل خطوة يُقدم عليها هي جزء من مشروع إصلاحي أكبر، لا رد فعل سياسي آني”.
استطلاع رأي
وفي وقتٍ تشهد فيه الساحة السياسية العراقية حالة ترقّب متزايدة حيال موقف التيار الصدري من الانتخابات المقبلة، أظهر استطلاع للرأي أجرته شبكة "انفوبلس" انقساماً واضحاً في الشارع العراقي بشأن جدّية قرار المقاطعة الذي أعلن عنه زعيم التيار السيد مقتدى الصدر.
وطُرح في الاستطلاع السؤال التالي:
"برأيك.. ما مدى جديّة التيار الصدري بمقاطعة الانتخابات؟"
وكانت النتائج النهائية على النحو التالي:
37% من المشاركين رجّحوا أن التيار الصدري سيحتفظ بمكتسباته في السلطة دون الحاجة إلى المشاركة الانتخابية، كما فعل في الدورة الحالية بعد انسحابه من البرلمان، مستنداً إلى نفوذه الجماهيري والاجتماعي وشبكة من الحلفاء المؤثرين.
23% اعتبروا أن قرار المقاطعة ليست أكثر من مناورة سياسية تهدف إلى تحقيق أهداف بعيدة المدى، مثل إعادة رسم قواعد اللعبة السياسية أو فرض شروط جديدة على بقية الأطراف الفاعلة.
21% عبّروا عن اعتقادهم بأن التيار سيدعم كتلًا مشاركة في الانتخابات من خلف الستار، سواء عبر شخصيات غير مرتبطة رسميًا به أو تحالفات تخوض السباق الانتخابي بغطاء مستقل، لكنه يضمن من خلالها استمرار تأثيره السياسي.
أما 19% فقط من المشاركين فقد عبّروا عن ثقتهم بأن التيار الصدري جاد جداً في مقاطعة الانتخابات، ولا يسعى من هذا القرار إلى أي حسابات سياسية أو تكتيكية، بل يتبناه كخيار مبدئي يرتبط برؤية إصلاحية أشمل.
تشير نتائج الاستطلاع إلى أن غالبية الجمهور تميل إلى التشكيك في الطابع النهائي أو القاطع لقرار التيار الصدري بمقاطعة الانتخابات، حيث يرى 44% من المشاركين (الذين اختاروا خيار "المناورة" أو "الدعم الخفي") أن التيار قد يغيّر موقفه أو يلتف عليه بطرق سياسية غير مباشرة.
كما أن نسبة من المشاركين (أكثر من الثلث) تعتقد أن التيار لن يخسر كثيرًا حتى لو قاطع الانتخابات فعليًا، بفضل امتلاكه قاعدة شعبية عريضة وشبكات نفوذ اجتماعي وديني واقتصادي تضمن له البقاء كقوة فاعلة في المشهد السياسي دون تمثيل برلماني.
يأتي هذا الاستطلاع في ظل تصاعد الدعوات لإجراء انتخابات نيابية جديدة، وسط ضغوط داخلية وخارجية لإصلاح النظام الانتخابي ومعالجة عزوف الناخبين. وكان السيد مقتدى الصدر قد أعلن في مناسبات عدة عن عزمه عدم خوض الانتخابات، معتبرًا أن العملية السياسية في العراق "فاسدة ولا يمكن إصلاحها من الداخل"، بحسب تعبيره.
ومع ذلك، فإن تجربة الانسحاب السابق التي أدت إلى فراغ سياسي ملأته قوى أخرى أثارت تساؤلات جدية حول إمكانية تكرار هذا السيناريو دون التأثير على التوازنات الهشة داخل الدولة.
يكشف استطلاع "انفوبلس" عن حالة من الشك والحذر في الشارع العراقي تجاه نوايا التيار الصدري المستقبلية، ويعكس في الوقت ذاته وعياً شعبياً متزايداً بحجم التعقيد الذي يكتنف العملية الانتخابية في البلاد، حيث لم تعد المشاركة أو المقاطعة وحدهما كافيتين لقراءة مآلات المشهد السياسي العراقي.