"قچقچي" كردستان بمواجهة معارضيه.. تناوب البطش والتوافق سيطر على الإقليم منذ تأسيسه.. تعرّف على تاريخ المعارضة الكردية لمسعود بارزاني وتطورها خلال العقود الأخيرة
انفوبلس..
منذ تسلطه على محافظات شمال العراق، واجه "القچقچي" مسعود بارزاني العديد من أشكال المعارضة الكردية، وتنوعت أوجه تلك المعارضة بين المسلحة والسياسية والشعبية والمدنية وفقاً للفترات الزمنية المختلفة ومتطلباتها، ويلاحظ أن صوت المعارضة الكردية أصبح أعلى خلال السنوات الأخيرة بسبب الإخفاقات المتلاحقة لبارزاني وحزبه بقيادة الإقليم، فضلاً عن غياب أسباب ادعاء المظلومية والاستهداف والتهميش على الرغم من محاولة حكومة الإقليم الاستمرار بتصديرها للشعب الكردي، وهذا ما خفّض شعبية حزب بارزاني بشكل حاد في كردستان وفسح المجال ولو قليلاً أمام أحزاب المعارضة للظهور في المشهد بعد عقود من ديكتاتورية خانقة كانت تمارسها حكومة الإقليم بحقهم.
صوت المعارضة يرتفع
يوم أمس الأربعاء، كشف المعارض الكردي هوشيار عبدالله، أن مسعود بارزاني يقود حملة لتسقيط المحكمة الاتحادية ورئيسها جاسم العميري.
وقال عبدالله في تدوينة، إن "مسعود البارزاني شخصياً يقود حملة لتسقيط المحكمة الاتحادية وخاصة رئيس المحكمة القاضي جاسم العميري"، مضيفاً إن "بارزاني تواصل مع القوى السنية وبعض الأحزاب الشيعية لشنّ الهجمة التي بدأت ضد المحكمة الاتحادية".
وأشار إلى، أن "محاولات بارزاني جزء من المحاولات الرامية لتسقيط المحكمة الاتحادية العليا ثم نسف العملية السياسية برمتها".
فيما وصف المعارض الكردي أحمد الأمين، سلطة الإقليم بـ"الناهبة" وتمتلك موهبة تكميم الأفواه.
وقال الأمين، إن "حكومة الإقليم تستخدم القوة دائما لإسكات الناشطين والمعارضين لسياستهم، لافتا الى أن القرارات الأخيرة للمحكمة الاتحادية تعتبر ردعاً لما يقوم به البارتي"، وأضاف، إن "المعارضة الكردية تطالب سلطات المركز أن تحاكم قادة الحزب الديمقراطي وخصوصا العائلة الحاكمة، مؤكدا أن هناك أسماء وهمية في قوائم الرواتب بإقليم كردستان".
وأشار الأمين الى، أن "مماطلة الحزب الديمقراطي على قرار المحكمة الاتحادية مخالف للدستور ويجب إيقاف هذا التمرد".
كما أكد المعارض الكردي حكيم عبد كريم، إن أموالا طائلة في إقليم كردستان وُزِّعت بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، لافتا الى أن هناك أجندة خفية تقف خلف منع توطين رواتب الموظفين بالإقليم.
وقال عبد الكريم، إن "هناك ازدواجية سياسية من قبل حكومة الإقليم وبتدخل خارجي لزعزعة وحدة الصف العراقي"، وأضاف، إن "هناك جغرافية سياسية خاصة باليكتي والبارتي يعملون وفق هذه الجغرافية"، مشيرا الى أن "هذه الخلافات لا تخلو من التدخلات الخارجية".
ولفت الى، أن "انسحاب الحزب الديمقراطي الكردستاني من انتخابات برلمان الإقليم له أسباب خاصة ومن ضمنها إلغاء الكوتا".
وفي حزيران الماضي، رأى المحلل السياسي حازم الباوي، أن الخطاب المتعالي لرئيس الحزب الديمقراطي مسعود بارزاني إبّان تمرير الموازنة لا ينبع عن قوة يستند إليها كما كان في السابق، لافتا الى أن وجود المعارضة الكردية كان لها الأثر الكبير في فقدان بارزاني للغة القوة ومنهج فرض الأمر الواقع.
وقال الباوي، إن "انتهاء عقد التحالف الكردستاني وابتعاد الاتحاد الوطني وأيضا الجيل الجديد وباقي أحزاب المعارضة الكردية، أفقدت منهج فرض الأمر الواقع، الذي كان يمارسه بارزاني وحزبه، بريقه المعهود".
وأضاف، إن "استخدام عبارات (كردستان خط أحمر بل خط الموت أو الفناء)، أعادت للأذهان ذات العبارة التي استخدمها بارزاني بعد سقوط الموصل حينما قال (إن حدود كردستان تُرسم بالدم)، لكنه رأى بأمِّ عينيه فشل مشروع الانفصال فضلا عن فقدانه السيطرة على كردستان على يد القوات الامنية".
ولفت الى، أن "التجارب التي مرَّ بها بارزاني وحزبه كانت من المفترض أن تدفعه للتفكير ألف مرة قبل أن يتخذ أي قرار من شأنه الضغط على بغداد لتحقيق مكاسب معينة على حساب محافظات الفقر والحرمان في الوسط والجنوب، مستشهدا بإخفاق الحزب الديمقراطي في قضية الموازنة المالية الأخيرة والتي أعطت لبارزاني درسا جديدا في علم السياسة".
وفي عام 2017، دعت حركة "التغيير" الكردية المعارضة في كردستان العراق إلى استقالة رئيس الإقليم في حينها مسعود بارزاني ونائبه كوسرت رسول علي، معتبرة أنهما لا يمتلكان الشرعية. كما طالبت الحركة المعارضة بتشكيل حكومة إنقاذ وطني في الإقليم للإعداد للحوار مع بغداد وتنظيم الانتخابات، محذرة من أنه في حال رفض تلك المطالب، سيكون "للشارع الكردي خيارات أخرى".
وفي 2015، اتهم سياسيون اكراد عراقيون رئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني بالقيام بانقلاب سياسي عبر منعهم من الوصول الى مكاتبهم في الاقليم، وابرز هؤلاء رئيس برلمان الإقليم السابق يوسف محمد وعدد من أعضائه.
ويأتي ذلك غداة موجة احتجاجات عنيفة ضد رئيس الإقليم الذي انتهت ولايته في آب/ أغسطس 2015، والذي يتهم معارضيه وفي مقدمهم “حركة التغيير” بإثارة اعمال العنف.
واكد هؤلاء السياسيون ان قوة تابعة للحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه بارزاني منعت رئيس برلمان الاقليم يوسف محمد وخمسة من اعضائه التابعين لحركة التغيير من دخول مدينة اربيل عند حاجز امني بين اربيل والسليمانية.
وقال يوسف محمد للصحافيين عقب منعه من دخول اربيل ان “الذي حدث امس واليوم عمل سلبي خطير في العملية السياسية في الاقليم”، معتبرا ان “هذا الانقلاب لن يؤدي الى نتيجة”.
واضاف ان “القوة التي وضعها الحزب الديموقراطي لمنعنا من دخول اربيل تكفي لتحرير قضاء شنكال من سيطرة تنظيم داعش الارهابي”، في اشارة الى قضاء سنجار معقل الايزيديين الذي سقط بيد عصابات داعش في 2014.
وخلال نفس الفترة، أعلن حزب "التغيير" أن حزب رئيس الإقليم مسعود بارزاني طلب من قادته مغادرة اربيل عاصمة الإقليم، على خلفية الاحتجاجات والاضطرابات التي تشهدها المدن والبلدات التي تعد معقلا لأنصار "التغيير".
وجاء ذلك التطور إثر نزول آلاف الأشخاص إلى الشارع في الأيام الأخيرة في معاقل حزب "غوران" للمطالبة باستقالة بارزاني الذي اتهم بخدمة مصالح معسكره على حساب الأهالي.
وقُتل أربعة أشخاص على الأقل في يومين خلال تظاهرات نظمت في معظم بلدات جنوب إقليم كردستان العراق. وبدأت هذه التظاهرات في السليمانية المعقل التقليدي لمعارضي الحزب الديمقراطي الكردستاني، بالمطالبة بدفع رواتب الموظفين لكنها أصبحت تطالب برحيل بارزاني الذي انتهت ولايته في آب/ أغسطس. وتم إحراق مقرات عدة لحزب بارزاني.
تاريخ المعارضة الكردية
لم تنجم المعارضة السياسية في إقليم كردستان العراق - من فراغ، ولا هي وليدة مرحلة تأسيس الإقليم؛ وإنّما تعود جذور المعارضة الكردية إلى بداية تأسيس الدولة العراقية عام ١٩٢١. غير أنها كانت معارضة كردية ضدّ الأنظمة السياسية العراقية التي تعاقبت على السلطة، وقد نشطت بصورة خاصة ضد نظام الحكم السابق حكم صدام حسين الذي انتشرت فيه ثقافة المعارضة - بكل أصنافها في إقليم كردستان - العراق.
وتجدر الإشارة إلى أن تجربة الحكم في الإقليم؛ قد بدأت إثر الانتفاضة الشعبية في كردستان العراق في شهر آذار ۱۹۹۱، وانسحاب المؤسسات الإدارية والسياسية والعسكرية العراقية منها في شهر تشرين الثاني من السنة نفسها؛ وهو ما أدى إلى أن اتخذت القيادة الكردية قرارًا ببناء مؤسسات تشريعية وتنفيذية وإدارية خاصة بكردستان العراق. كما أصدرت القيادة السياسية للجبهة الكردستانية باعتبارها سلطة أمر الواقع في ١٩٩٢ قانونا أوّل رقم (۱) لسنة (۱۹۹۲)؛ وهو قانون المجلس الوطني لكردستان العراق، وقانونا ثانيًا رقم (۲) لسنة ۱۹۹۲؛ وهو قانون انتخاب قائد الحركة التحررية الكردية.
وما ساعد على توخي القيادة السياسية الكردية هذا التوجه؛ هو التدخل الدولي في العراق عام ۱۹۹۱ وهو الأمر الذي أدى إلى انفصال فعلي للأراضي الواقعة تحت سيطرة القيادة السياسية الكردية الممثلة بالجبهة الكردستانية من العراق.
وقد جرت انتخابات المجلس الوطني لكردستان العراق في ۱۹۹۲، وتنافست فيها ثماني قوائم كردية وأربع قوائم آشورية لانتخابات المجلس الوطني؛ كما ترشح أربعة أشخاص لانتخابات قائد حركة تحرير كردستان وتمت الانتخابات في جو مشحون سياسيا وأيديولوجيا، فشابَها الكثير من النقائص والتزوير، ولكن على الرّغم من ذلك، فقد عُدَّت هذه الانتخابات إحدى أكثر الانتخابات ديمقراطية في الشرق الأوسط آنذاك؛ إذ تنافست الأحزاب والقوى الكردية والآشورية باتجاهاتها المختلفة- على أصوات الناخبين بحرية وديمقراطية. كما رأى المراقبون المستقلون الأجانب أن مشاركة المواطنين الكثيفة في الانتخابات هي مؤشر واضح لإدراكهم أهمية المبادئ الديمقراطية، ودليل على رفضهم لنظام صدّام حسين.
ونتيجة للانتخابات والتوافقات التي جرت بين الاتحاد الوطني الكردستاني (الاتحاد) والحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) - تمّ تقسيم مقاعد المجلس الوطني للإقليم (في ما عدا ممثلي الآشوريين الخمسة الفائزين) مناصفةً بين الحزبين المذكورين؛ ليحصل كل منهما على خمسين مقعدًا. في حين لم تحصل أي من القوائم الكردية الخمس الأخرى على مقعد واحد في المجلس الوطني؛ لأنّه لم تتمكّن أي منها من عبور حاجز ٧% من أصوات الناخبين.
ويمكن تقسيم هذه المرحلة من حيث تطور العملية السياسية في الإقليم إلى حقبتين فرعيتين: الأولى: المعارضة منذ تأسيس المجلس الوطني في الإقليم إلى أحداث آب / أغسطس ١٩٩٦. الثانية: المعارضة منذ أحداث آب / أغسطس ١٩٩٦ إلى كانون الثاني / يناير ٢٠٠٥؛ أي انتخاب الدورة الثانية لبرلمان الإقليم.
المعارضة منذ تأسيس المجلس الوطني في الإقليم إلى أحداث آب / أغسطس ١٩٩٦
بدأت هذه المرحلة بتشكيل أوّل حكومة برئاسة فؤاد معصوم عضو المكتب السياسي للاتحاد. وكانت الحكومة ائتلافية، ضمَّت كُلّاً من (البارتي والاتحاد) وممثلي المكوّنات والأحزاب الأخرى. وقد اتفق البارتي والاتحاد على تقسيم الوزارات مناصفة فيما بينهم، وإعطاء بعض الوزارات للأحزاب الأخرى من أجل إسكاتهم. ونتيجة لذلك لم تتشكل في هذه المرحلة معارضة سياسية داخل المجلس الوطني. وعلى الرّغم من وجود آراء داخل قيادة الاتحاد تنادي بالانسحاب من الحكومة وتشكيل معارضة برلمانية؛ فإنّه لم يتم الأخذ بها. أما خارج المجلس الوطني؛ فقد رفضت الحركة الإسلامية في كردستان العراق المشاركة في الحكومة؛ على الرغم من حصول قائمتها المشتملة على الإسلاميين المستقلين أيضا، وعلى تيار الإخوان المسلمين بالخصوص في كردستان آنذاك على المرتبة الثالثة في انتخابات ١٩/ ٥ / ١٩٩٢، وبذلك أصبحت الحركة معارضة خارج المجلس الوطني. ونظرًا لكون هذه الحركة مسلحة وذات توجه قتالي؛ فقد تصادمت - وبصورة مسلّحة - مع الحزبين الرئيسين، وخاصةً مع الاتحاد. ولمرّاتٍ عدّة منذ عام ۱۹۹۳ إلى عام ۱۹۹۹.
ويرى البعض أنّ معارضة الحركة الإسلامية لم تكن معارضة سياسيّة ضدّ نظام الحكم، بقدر ما كانت معارضة عقائدية رافضة لأي شكل من أشكال النّظام السّياسي خارج النظام الإسلامي. وهو ما أكده القيادي الكردي توشيروان مصطفى" بقوله: "الحركة الإسلامية في تلك الحقبة لا تعد معارضة سياسيّة، لأنّهم كانوا متشدّدين لا يشتركون في حكومة غير إسلامية، وهم غير موافقين على تشكيل النّظام السّياسي بشكل علماني، وليس لهم أي توجه سياسي، واحتكموا إلى السلاح.
وكان من المقرر بحسب قانون انتخاب المجلس الوطني إجراء انتخاب أعضاء المجلس عام ۱۹۹5؛ إذ نصت المادة ٥١ منه، على أنّ مدّة بقاء المجلس هي ثلاث سنوات. ولكن اندلاع المعارك الداخلية بين الأحزاب الكردية - وخاصة بين البارتي والاتحاد أدى إلى استحالة إجراء الانتخابات في موعدها المقرّر ؛ ولذلك جرى تمديد مدة بقاء المجلس إلى سنة ٢٠٠٥.
ومن خلال ما تقدّم يمكن القول إنّ هذه المرحلة لم تشهد أي نوع من أنواع المعارضة السياسية السلمية؛ وإنما كانت هناك معارضة مسلحة مثلتها الحركة الإسلامية لكردستان العراق. وهي لا تندرج بطبيعة الحال - ضمن الفهم الحديث للمعارضة السياسية؛ تلك التي تشترط توافر شرط عدم استخدام السلاح.
الفترة من ۳۱ آب / أغسطس ۱۹۹٦ إلى كانون الثاني / يناير ٢٠٠٥
سيطرت قوات "البارتي" في ٣١/ ٨ / ١٩٩٦ - على "أربيل" عاصمة إقليم كردستان بمساعدة النظام العراقي السابق. وأوّل ما بدأت به هو تفعيل المجلس الوطني الذي شلت حركته مع استمرار المعارك الداخلية. كما شكلت حكومة برئاسة د. روز نوري شاويس، وبمشاركة أحزاب أخرى مثل: الحركة الإسلامية في كردستان العراق، والاتحاد الإسلامي الكردستاني، والحزب الشيوعي؛ لكن من دون مشاركة الاتحاد الوطني.
وقد أدّت هذه الخطوة إلى نتيجتين رئيستين: حيث لم تتبق أحزاب أو قوى كردية رئيسة خارج السلطة السياسية؛ خصوصا بعدما قام الاتحاد أيضا بتشكيل حكومة في المناطق الخاضعة له، برئاسة كوسرت رسول"، وبمشاركة الأحزاب المتحالفة معه مثل حزب الكادحين والحزب الاشتراكي الديمقراطي. وبذلك أضحت كل الأحزاب الكردية موجودة في السلطة، ولم يبق للمعارضة في الإقليم أي دورٍ يُذكر.
ومما ترتب على ذلك انقسام الإقليم سياسيا وإداريا؛ بعدما جزأته المعارك الداخلية إلى ثلاث مقاطعات منطقة تحت نفوذ "البارتي"، وأخرى تحت نفوذ "الاتحاد"، وثالثة تحت نفوذ "الحركة الإسلامية. وتلا هذا الانقسام الجغرافي والسياسي والإداري تقسيم قانوني أيضا- بعد تنصيب السكرتير العام للاتحاد "جلال الطالباني" رئيسًا للإقليم في منطقة نفوذ الاتحاد؛ وتشكيل محكمة الاستئناف في المنطقة نفسها سنة ۱۹۹۹.
غير أنه قد بدأت منذ أواخر عام -۲۰۰۲ عمليّة إعادة توحيد الإقليم؛ نتيجة اتفاقية واشنطن للسلام التي وقعت عام -۱۹۹۸ بين جلال طالباني ومسعود بارزاني، بحضور وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين" أولبرايت". وتمثلت الخطوة الأولى في توحيد المجلس الوطني الكردستاني الذي عقد أول اجتماع موحد له من جديد بتاريخ ۲۰۰۲/۱۰/٤. ومع ذلك فقد تأخر توحيد حكومة الإقليم إلى ٢٠٠٦/٥/٧؛ أي إلى ما يزيد على سنة من الدورة الثانية لانتخاب المجلس الوطني لكردستان في ٣١ ١/ ٢٠٠٥.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المرحلة قد شهدت هي الأخرى وجود معارضة سياسية مسلحة، قادتها جماعة أنصار الإسلام المتشكلة في ٥ كانون الأول / ديسمبر ۲۰۰۱؛ بعد أن تزعمها اتحاد جماعة "جند الإسلام" بزعامة أبي عبد الله الشافعي و "حركة الإصلاح" بزعامة نجم الدين فرج أحمد الملقب بـ "ملا كريكار "- التي انفصلت عن الحركة الإسلامية في كردستان. وتُعدّ هذه الجماعة سلفية جهادية، وكانت تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعارض النظام السياسي القائم في الإقليم برمته، وتقاتله، وترفض المشاركة فيه.
وفي سنة ۲۰۰۳ سيطرت الجماعة على مجموعة من المدن الصغيرة والقرى في الإقليم قرب سلسلة الجبال التي تفصل حدود العراق عن إيران واتَّخذت منها معسكرات ومراكز تدريب. وقد ورد اسمها ضمن تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الإرهاب في ۲۷ أبريل ٢٠٠٥؛ إذ عدت الولايات المتحدة هذه الجماعة الملقبة بـ "أنصار الإسلام متعاونة مع تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، وذكرت على لسان وزير خارجيتها كولن باول - أنّها تمتلك معسكرا لإنتاج السموم، وأن لها علاقات مع صدام حسين؛ وهي اتّهامات نفتها الجماعة. وعندما بدأت حملة الولايات المتحدة لغزو العراق، ليلة -۲۲ - ۲۳ من آذار / مارس ۲۰۰۳؛ قامت قوات البحرية الأميركية - من مواقعها في البحر الأحمر والبحر المتوسط - بقصف معاقل الجماعة شمال العراق، بنحو سبعين صاروخا بعيد المدى. ثم قامت الوحدات الخاصة الأميركية بحملة عسكرية على أعضائها، بالاشتراك مع مقاتلي الاتحاد الوطني الكردستاني. مما أدى إلى القضاء على معاقلها، وفرار قياداتها إلى إيران ومنها إلى المناطق الوسطى من العراق؛ تلك المناطق التي بدأ فيها آنذاك نشاط حركات المقاومة والتمرد والإرهاب.
من خلال كل ما سبق؛ نستنتج أنّه لم تبرز في هذه المرحلة بحقبتيها، معارضة سياسية فاعلة في السلطة السياسية بالإقليم ومؤثرة فيها؛ وذلك لأسباب عدة منها:
1. كانت الأحزاب الكردية معارضة للنّظام العراقي طوال ثلاثين سنة تقريبا، وخاصة الحزبين الرئيسين (البارتي والاتحاد اللذين كان كلاهما يرغب في استلام السلطة أو المشاركة فيها، وكان من الصعب أن يقبل أي منهما البقاء في المعارضة.
2. لم يكن لدى هذه الأحزاب تجربة في الحكم وممارسة العمل الديمقراطي المدني. وبالأحرى لم يكن لدى الشعب الكردي أيّ تجربة في الحكم؛ ما عدا تجربة حكومة الشيخ "محمود الحفيد" عام ۱۹۲۲، التي لم تدم أكثر من سنة لأن الاستعمار البريطاني أفشلها؛ وتجربة حكومة مهاباد" التي شكلها القاضي محمد سنة ١٩٤٦، ولم تعمر أكثر من سنة لأن الجيش الإيراني أسقطها.
3ـ إن قلة التجربة هذه؛ هي سمة تنطبق أيضًا على ثقافة المعارضة السياسية، وعلى كيفية إدارة الصراعات السياسية، وطريقة ترسيخ مبادئ الديمقراطية ومقوماتها ؛ لاسيما مسألة مداولة السلطة سلميًّا بين القوى السياسية. وكانت لدى الأحزاب الكردية تجربة مريرة من الصراعات والمعارك الداخلية حتى في الجبال وقت مجابهتهم للنظام السابق وقد خلقت تلك الصراعات والمعارك حالة من عدم الثقة في ما بينها ؛ ورسختها بالخصوص ما بين الحزبين الرئيسين. وزادت هذه الحالة من عمليات التزوير التي شابت العملية الانتخابية سنة ١٩٩٢، كما أججت المعارك الداخلية بين هذه الأحزاب منذ سنة ۱۹۹۳ الی ۱۹۹۹؛ وهو الأمر الذي أدّى إلى رفض كلٌّ من الحزبين الرئيسين الانسحاب من الحكومة، والاضطلاع بدور المعارضة البرلمانية، خشية احتكار الطَّرف المقابل للسلطة. هذا فضلا عن أن تجربة الحكم في العراق عمومًا، كانت تعمق من شكوك الأحزاب الكردية تجاه بعضها البعض؛ إذ كانت قلة قليلة تحتكر السلطة، وتُبعد الآخرين؛ حتى من تحالف منهم معها وقت الاستيلاء على السلطة.
4. كان من المفترض أن تكون هذه المرحلة مرحلة التأسيس، ولذلك لا بأس أن يشارك الكل في بناء تجربة ديمقراطية جديدة في منطقة الشرق الأوسط. ولكن الاقتتال الداخلي أدى إلى انحراف هذه التجربة عن مسارها ؛ وهو ما أوضحه نوشیروان مصطفى رئيس حركة التغيير - عند قوله: "بأننا لم نقم بحركة المعارضة آنذاك لأنها كانت مرحلة تأسيس، وكانت أولوياتنا ترسيخ المؤسسات الكردية في الإقليم، وتم التغاضي عن الكثير من الأمور منها تشكيل حركة معارضة سياسية.
المعارضة الشعبية والمدنية
بدأت في هذه المرحلة حركة معارضة سياسية كانت على شكل حركة كتابة نقدية، وتأسيس إعلام حر، وتشكيل حركات مدنية، وبروز احتجاجات شعبية. ويمكن الإشارة بهذا الخصوص إلى كتابات ومقالات مجموعة من المثقفين والأكاديميين - من أمثال مجموعة (نيوتندي رة هةند) أي (مركز البعد) وغيرهم الذين أسسوا بنيان خطاب نقدي ومعارض. وقد أثر هذا الخطاب بصورة واضحة في قرائه وخاصةً منهم من كانوا من الشباب بصورة أصبح فيها نقد الحكومة والسلطة بمنزلة نمط سياسي وثقافي في الإقليم. ليس هذا فحسب؛ بل حاول العديد من هؤلاء المثقفين والكتاب التنظير للتغيير ولتيار التغيير في الإقليم لاحقا.
من جهةٍ أخرى؛ فإنّ الإعلام الحرّ الأهلي كان له دور مهم في بلورة الرّأي العام المعارض للأوضاع التي سادت في الإقليم، لتشمل كل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخدمية. وبعد أن كانت القنوات الإعلامية كافة حكرًا على الأحزاب السياسية؛ شهد الإقليم نشأة قنوات جديدة حرّة، بدأت بولادة أول جريدة أهلية باسم (هاولاتي) عام ۲۰۰۰. وازدادت القنوات الإعلامية الأهلية . إثر ذلك كما وكيفا؛ حتى بلغت عشرات المجلات الأهلية، نذكر منها : (لفين، وريجا، وجيهان، ... إلخ). كما وُجدت قنوات مسموعة حرّة مثل (راديو نقوا، فضلا عن مجموعة أخرى من المواقع الإلكترونية مثل ستاندارد كردستان بوست، وكردستان نیت ..الخ). وكان لهذه القنوات دور كبير في إلقاء الضوء على المشاكل والأزمات الداخلية والخارجية للإقليم. كما أنها فتحت منابر حرة للمثقفين والكتاب من أرباب الميول المعارضة، حتّى قبل بروز حركة التغيير في الإقليم؛ وهو ما أسهم في خلق رأي عام معارض للسلطة. وقد أسهمت هذه القنوات الإعلامية الأهلية (غير الحزبية) المقروءة منها والمسموعة في كشف المعلومات الخفية، وإطلاع المواطنين على ما كان يجري وراء الكواليس، وإبراز مشكلة النقص في الخدمات، وأوجه الفساد المختلفة. وهو ما كان من شأنه أن يخلق رأيًا عامًا مهيأ للتغيير؛ استطاعت المعارضة السياسية في المرحلة اللاحقة قيادته، وتوجيهه في الانتخابات ومحاولة تغيير المعادلة السياسية في الإقليم.
كل هذا لا يجعلنا نغفل عن الدور الكبير لمنظمات المجتمع المدني والحركات المدنية في توعية المواطنين، وخلق أرضيّة مناسبة لبروز تيار معارض داخل الإقليم.
المعارضة من داخل الحكومة
يتمثل الحراك الآخر نحو تشكيل معارضة سياسية حقيقية في الإقليم بهذه المرحلة، في المعارضة الداخلية أو النقد الذاتي من داخل الاتحاد الوطني الكردستاني. وتعود بدايات هذا الحراك إلى السنة الأولى من الانتفاضة حتى قبل ظهور المؤسسات السياسية لإقليم كردستان. وقد أشار إلى ذلك نوشیروان مصطفى بقوله: في بداية تشكيل أول حكومة كردية ؛ اقترحت على المكتب السياسي في حزب الاتحاد الوطني أن نتفق مع حزب البارتي، وأن يكون أحد الحزبين في الحكم والآخر في المعارضة؛ لكن الرفاق لم يوافقوا لسببين أساسيين هما أنّ المجتمع الكردي مجتمع مسلّح والأحزاب أيضا، وكانوا يخشون عودة الاقتتال والثاني الوضع الاقتصادي الصعب ومن يصبح في المعارضة يتعرض للضمور.
كان هذا من جانب، ومن جانب آخر طرح نوشيروان مصطفى فكرةً أخرى على الحزب؛ وهي أن يتولى الحكومة رجال تكنوقراطيون وليس قادة المكتب السياسي؛ وذلك لاعتقاده أن أولئك القادة هم رجالُ حرب عصابات وليسوا رجال دولة كما اقترح أن يكون في المجلس الوطني لمراقبة الحكومة وإسقاطها متى فشلت في مهامها. لكنّ هذه الفكرة لم تلق ترحيبًا أيضا من الحزب.
ولم يتوقف الأمر عند هذا المستوى؛ إذ أرسل عدد من أعضاء المكتب السياسي في "الاتحاد" رسالة إلى جلال الطالباني السكرتير العام للاتحاد نهاية عام ٢٠٠٥؛ طالبوا فيها بإجراء إصلاحات جذرية داخل الحزب والحد من صلاحيات السكرتير العام، وتفعيل المكتب السياسي، وإجراء انتخابات فرعية داخل الحزب، والقيام بإصلاحات شاملة داخل الحكومة وتفعيلها، وتأمين الخدمات الأساسية للمواطنين.
وفي هذا الصدد أشار نوشيروان مصطفى إلى أن سكرتير الحزب كان يمتلك كل الصلاحيات؛ فهو القائد العام لقوات البيشمركة ومسؤول جهاز الإعلام والمخابرات. ولا أحد يعرف شيئًا حتى المكتب السياسي سواء عن ماليّة الحزب أم حجم رأسمال الحزب أو كيفية إدارة تلك الأموال، فضلا عن جهاز الآسايش (أي جهاز الأمن، وهو رئيس جمهورية العراق، فكيف يمكن أن يشرف على كل ذلك، ولم يكن مستعدا للتنازل عن أي من هذه الصلاحيات.
وفي نهاية السنة ذاتها استقال نوشيروان مصطفى أمين نائب السكرتير العام للاتحاد من جميع مناصبه داخل ذلك الحزب. وشكّل مؤسسة إعلامية باسم شركة "وشه" (أي "الكلمة) في آذار / مارس ۲۰۰۷؛ تحتوي على موقع إلكتروني وجريدة وراديو وقناة فضائية ومطبعة. ومنذ ذلك الحين كرّس نوشيروان مصطفى جهوده لإحداث تغيير في النظام السياسي كله في الإقليم؛ وذلك عن طريق إنشاء معارضة سياسية فاعلة وفسّر خروجه من الاتحاد بقوله: "كنتُ أعتقد أن إصلاح الحكومة يتوقف على إصلاح الحزب، ولكن فيما بعد يئست من ذلك وخرجت، وبقي رفاقي الآخرون.
وشارك بقائمة مستقلة هو وزملاؤه في انتخابات ٢٥ تموز ۲۰۰۹، وحازت القائمة على المركز الثاني، وحصل على ٢٥ مقعدًا في برلمان إقليم كردستان - العراق.
أسباب المعارضة
يمكن تلخيص أسباب المعارضة في إقليم كردستان على النحو الآتي:
1. عدم وجود العدالة الاجتماعية؛ فالمواطن الكردي العادي لا يكاد يستطيع توفير لقمة العيش، ومستلزمات حياة عادية لعائلته. وفي المقابل برزت في الإقليم طبقة ثرية جدا من قيادتي الحزبين الرئيسين (آنذاك)، ومن المقربين منهم، وهم يعيشون أعلى درجات الرفاهية. وقد أدّى تدخل الحزبين وقياداتهما وشركاتهما التجارية في مرافق الحياة الاقتصادية والتجارية، واحتكارهما أهم مجالاتها ؛ إلى ظهور اختلالات طبقية كبيرة في الإقليم، وبروز فروقات اجتماعية واضحة؛ وهو الأمر الذي ولد تيارًا معارضًا من بين عامة المواطنين. يُضاف إلى ذلك أن تردّي جانب الخدمات كمياه الشرب النظيفة، والمجاري، والكهرباء، والصحة والطرق، وكل المرافق الخدمية الأخرى قد أدى إلى بروز سخط جماهيري واسع ضدّ السلطة، وقد عبر عن نفسه في دعم المعارضة والمشاركة فيها.
2. من جانب آخر ساهمت بعض القضايا التي لم تُحسم بعد بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في بروز المعارضة فغياب تطوّر ملموس في حلّ تلك القضايا في السنوات الماضية (أي الدورة الأولى لمجلس النواب العراقي وما تلاها)، والتغاضي عن تطبيق المادة ١٤٠ من الدستور العراقي بالخصوص ؛ كان له دور كبير في بروز حركة المعارضة. ولو عملت السلطة السياسية في الإقليم على تطبيق هذه المادة مع الحكومة الاتحادية؛ لكان بمقدورها التبرير لإخفاقاتها على الصعيد الداخلي. لكنها على خلاف ذلك تمامًا؛ لم تكن عاجزة عن حل المشاكل المطروحة عليها فحسب، بل زادت الملفات المُختلف عليها وتعدّدت أكثر ، ونذكر منها ملفّ النّفط والغاز والميزانية والبشمركة وممثليات الإقليم في الخارج وغيرها.
3. إن فراغ الساحة السياسية في الإقليم من وجود تيار معارض قوي ذي مشروع بديل، طوال المرحلة السابقة؛ كان له أيضا دور كبير في نشوء حركة التغيير، وبروزها كقيادة للمعارضة في الإقليم. فمن جهةٍ لم ينسحب أي من "البارتي" و"الاتحاد" من الحكومة في المراحل الماضية؛ حتّى يشكّل واحد منهم الحكومة، ويقوم الطرف الآخر بدور المعارضة. ومن جهةٍ أخرى لم تستطع الأحزاب الأخرى وخاصة الإسلامية منها - بسبب ظروف موضوعية وذاتية القيام بالدور نفسه. فكان هناك فراغ كبير في الساحة السياسية في الإقليم؛ لوجود أسباب ظهور المعارضة على الصعيد الجماهيري، وعدم وجود البديل. وبذلك استطاعت حركة التغيير أن تملأ هذا الفراغ؛ خصوصا وأن قياداتها كانت معروفة داخل الحركة التحررية الكردية منذ نحو ثلاثين سنة، ولدى الجماهير أيضا؛ وكان لها دور كبير في تأسيس الإقليم.