محاولات لرسم خريطة تحالفات جديدة لأكراد المنطقة.. هل ينجح بافل طالباني؟
انفوبلس..
تتصاعد الأزمة بين أربيل والسليمانية بشكل متكرر ومتذبذب لفرض النفوذ والهيمنة على كرد العراق ومحافظات الإقليم، فبين عائلة بارزاني وتاريخها في رئاسة إقليم كردستان العراق ونفوذها الكبير وعلاقاتها الإقليمية والدولية والتي تشوبها الكثير من علامات الاستفهام، وعلاقتها ببغداد التي لم ترَ الاستقرار يوماً، وبين عائلة طالباني صاحبة الإرث الكردي الكبير والشعور بالأحقية بقيادة الإقليم أو الحصول على دور أكبر في محافظاته.
الخلاف الكردي-الكردي يظهر بعدّة أوجه في كل مرة يطفو فيها على السطح، تارة يكون على شكل صراع حول مستوى النفوذ في الإقليم، وتارة خلاف حول الطرف الأحق بمنصب رئيس جمهورية الحكومة الاتحادية، وتارة أخرى حول علاقات الإقليم الدولية وعلى رأسها إسرائيل، وتارة حول الغنائم الاقتصادية المتمثلة بحصة الإقليم في الموازنة الاتحادية وأموال النفط وغيرها من المصادر الاقتصادية التي يعتمد عليها الإقليم في سلطته.
ورثة العائلتين، مسرور بارزاني رئيس إقليم كردستان والذي خلف والده مسعود المعتزل ظاهريا للحياة السياسية، وبافل طالباني رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (اليكتي)، صعّدا عند وصولهما إلى مكانتهما من شدّة التوترات بين الحزبين الكرديين، فاندلعت الكثير من المشاكل الداخلية المرحّلة من فترة صراع آبائهما مسعود بارزاني وجلال طالباني، حتى وصلت ذروتها نهاية العام الماضي 2022.
في الـ20 من شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، أقدم بافل طالباني على خطوة رآها مراقبون بأنهاء الأجرأ منذ عقود في تاريخ الإقليم، حيث نقل مضمار الصراع مع منافسه -الحزب الديموقراطي الكردستاني- إلى خارج الحدود.
طالباني ذهب بزيارة مفاجئة إلى شمال شرق (روجآفا) سوريا، والتقى خلالها بقائد التحالف الدولي ماتيو ماكفارلان، وقائد قوات سوريا الديموقراطية (قسد) مظلوم عبدي، فيما سبق هذه الزيارة بأسبوعين عقد اجتماع بين طالباني ومبعوث الخارجية الأميركية الى منطقة شمال وشرق سوريا، نيكولاس جرانجر، بمدينة أربيل، وبحسب بيان صادر عن مكتب بافل طالباني، بحث الجانبان الملفات السياسية والأمنية في سوريا وشمال شرق البلاد، حيث أكد الطرفان على الحلّ السياسي للمشكلات، وتوحيد الجهود في مواجهة الإرهاب، وحفظ أمن المنطقة.
و"روجآفا" هي منطقة حكم ذاتي "أمر واقع" في شمال شرق سوريا، وتُعرف أيضاً باسم كردستان السورية، حصلت المنطقة على الحكم الذاتي في نوفمبر 2013، كجزء من نزاع روجاڤا المستمر، وتتكون من ثلاث كانتونات (من الشرق إلى الغرب) الجزيرة، كوباني، وعفرين. وهي غير معترف بها ككيان مستقل ذاتياً من قِبل الحكومة السورية، كما تعم من الأطراف المشاركة في الحرب الأهلية السورية.
وعموماً يعتبـِر الأكراد روجافا كأحد الأقاليم الأربعة المكونة لـ"كردستان الكبرى"، التي تضم أيضاً أجزاء من شرق وجنوب شرق تركيا (كردستان الشمالية)، شمال العراق (كردستان الجنوبية)، وشمال غرب إيران (كردستان الشرقية). إلا إن حكومة ومجتمع روجاڤا هو متعدد الأعراق.
طالباني وحزبه لم يفصحا ببيان رسمي عن دوافع وأهداف ونتائج هذه الزيارة، واكتفى بعض أعضاء الحزب بتصريحات صحفية هنا وهناك تؤيد الزيارة وتعتبرها مهمة للحزب خصوصاً والكرد عموماً، فيما تناولت الزيارة العديد من الصحف والمراقبون والمحللون لكشف ما ورائياتها غير المعلنة.
مواقف كردية من الزيارة..
مصادر كردية مطّلعة، ذكرت أن "زيارة طالباني لمناطق سيطرة قسد هي محاولة للضغط على رئيس كردستان، وتهديده بأن الاتحاد الوطني سيلجأ إلى عقد تحالف مع الـ "PKK" وذراعها العسكرية في سوريا، إذا لم تُلبَّ مطالب حزبه في السليمانية". ولفتت إلى أن "طالباني لم يلتقَّ أيّاً من ممثّلي أحزاب المجلس الوطني الكردي في سوريا، ما ينفي وجود أيّ مبادرات للقيام بدور في إحياء مسار المصالحة الكردية - الكردية"، نافيةً "وجود أيّ نقاشات في الجانب الاقتصادي، وخاصة أن منطقة السليمانية التي يديرها حزب طالباني تعاني أصلاً أزمات اقتصادية خانقة"، مستنتجةً أن "الزيارة دبلوماسية، وتهدف إلى الحفاظ على نهج الوسطية التي يتّبعها حزب الاتحاد الوطني تجاه الخلافات العميقة بين الديموقراطي الكردستاني، وحزب العمال الكردستاني، وحتى حزب الاتحاد الديموقراطي".
عضو مجلس قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني آراس محمد آغا وصف زيارة بافل طالباني بـ”التاريخية”، وأنها امتداد لنهج الرئيس الراحل جلال طالباني ونهج الشهداء واستمرار للنضال من أجل حقوق الشعب الكردي، وأن لهذه الزيارة هدفين، الأول مكافحة الإرهاب مع الحلفاء وقوات سوريا الديمقراطية في المنطقة، كون الاتحاد الوطني الكردستاني طرفاً رئيساً في إنهاء تنظيم داعش والإرهاب.
أما المقصد الآخر من الزيارة وفق محمد آغا، فيتمثل في سعي رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني لتوحيد الخطاب السياسي الكردي، في ظل انقسام غير مطلوب، مشيراً إلى أن الاتحاد يولي اهتماماً لهذا الجانب وللأوضاع في غرب كردستان، والزيارة تأتي لتقوية العلاقة مع هذا الجزء الكردستاني.
موقف تركيا..
صحيفة "الدايلي صباح" التركية والمقربة من أردوغان، كشفت في تقرير لها أن الاجتماع الذي جرى في الحسكة السورية شهد تقارباً بين طالباني وكوباني، وتم من خلال رعاية وحماية مباشرة من الولايات المتحدة، مشيرة إلى أنها تحاول جمع مناطق الشمال السوري وتكوين دولة كردية بمواجهة تركيا.
وتابعت، أنه على الرغم من التفاؤل الكبير الذي أبداه الطرفان لفكرة إقامة فدرالية كردية في المناطق الشمالية العراقية والسورية تحت رعاية وحماية الولايات المتحدة، إلا إن الواقع على الأرض عاد بقوة ليثبت نفسه مرة أخرى، مع توجه طالباني نحو انتقاد حزب العمال الكردستاني البي كي كي في تغريدات لاحقة.
وقالت الصحيفة إن اجتماع الطرفين تبعه إرسال "رسائل" إلى مسؤولي البي كي كي ومنظمة كي سي كي لإقناعهم بفكرة الفدرالية الكردية بين أربع بلدان تضم الأكراد، مشيرين إلى العراق، سوريا، إيران وتركيا، كمناطق يتم اقتطاعها من بلدانها الأصلية وإقامة فدرالية كردية عليها.
الدايلي صباح رجّحت أن الخطة المقترحة والخطوات التي اتُخذت لــ"تهيئة الأرض لوحدة كردية" هي من صنيعة قائد قوات التحالف الجديد في العراق شون مكفارلن والذي تولى المسؤولية في سبتمبر الماضي، مبينة أن القائد الجديد قد يرغب باستخدام الفدرالية الكردية المقترحة كحاجز صد ضد تركيا.
واختتم تحليل الصحيفة بالتشديد على أن الخطة الأمريكية المقترحة والخطوات التي اتُخذت لم تحقق نتيجة ملموسة، موضحة أنه في حال إقامة الفدرالية الكردية، فإنها ستكون تحت سيطرة البي كي كي الأمر الذي لا تقبل به الجهات الكردية الأخرى.
مراقبون لزيارة بافل طالباني..
صحيفة "العرب اللندنية" ذكرت أن الزيارة أدّت لاستغراب المتابعين، لأن شمال سوريا لم يكن ضمن نفوذ السليمانية القريبة من إيران، ما يعكس مساعي لتقديم نفسه بديلا عن الزعيم الكردي مسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي.
الصحيفة كشفت أن من شأن تلك الزيارة أن تطلق صفارات الإنذار في أربيل التي يُعد الشأن الكردي السوري ضمن اختصاصها، جغرافيًّا بالدرجة الأولى بحكم المحاذاة، وتاريخيًّا أيضا بحكم عمليات التنسيق بين الطرفين.
وبحسب مراقبين للصحيفة يبعث اللقاء بعِدّة إشارات، فالاتحاد الوطني، نظراً إلى صلاته الوثيقة بإيران، يحمل رسائل إيرانية إلى الأميركيين، تتعلق بأمن الإقليم، لاسيما أثر عودة تنظيم داعش إلى القيام بهجمات تكتسب زخما جديدا ومتصاعدا.
فعلى الرغم من أن تنظيم داعش يركّز هجماته على الطرف الغربي من إقليم كردستان، يبدو أن نوعا من التنسيق المقترح بين إيران والقوات الأميركية مفيدٌ للطرفين.
أما الإشارة الثانية فقد أوحت للمراقبين بأن الخلافات مع الديمقراطي الكردستاني لن يتم حلّها فعليّا إلا من خلال أداءِ الولايات المتحدة دورا مباشرا في إقناع قيادة الديمقراطي الكردستاني بضرورة الاعتراف بمكانة ودور الاتحاد الوطني في الإقليم، فتكفّ عن محاولة الاستئثار بالامتيازات والمناصب الحكومية في الإقليم، وهي القضية التي لا تزال فصولها مفتوحة بعد فض النزاع قسرا حول منصب الرئيس العراقي الذي ذهب إلى عبداللطيف رشيد، زوج خالة بافل.
ويقول المراقبون إن بافل طالباني يريد أن يدخل المنافسة مع بارزاني من باب المكانة "الجغرافية" التي كانت حتى الآن حكرا على الديمقراطي الكردستاني.
ويستفيد بافل طالباني في ذلك من حقيقة أن سلطة الرئيس مسعود بارزاني واقعة تحت ضغط التنسيق مع تركيا أكثر مما هي واقعة تحت ضغط التضامن مع قسد. وفي الواقع هي التي بدأت بتقليم أظافر العلاقات مع قسد لإرضاء أنقرة، الأمر الذي ترك فراغا يسعى طالباني للاستفادة منه إلى أقصى حد.
الإشارة الثالثة التي يبعث بها اللقاء تُفضي، بحسب مصادر الصحيفة، إلى القول إن بافل طالباني زعيم "عابر" للحدود، وبالتالي يجدر القبول بقيادته والمضي في المسارات التي يختارها لحزبه ومناطق سيطرته.
من هذا المنطلق قال بافل طالباني خلال الاجتماع إن "التنسيق المتزايد بين الأطراف بإمكانه أن يحقق انتصارات أكبر، خصوصا في المناطق الحدودية بين العراق وسوريا التي تشهد فراغا أمنيّا وتحركات للإرهابيين".
وفي مؤشّر على الهوّة التي أنشأتها حكومة أربيل مع قسد، أعرب عبدي عن سروره بالزيارة التي أدّاها طالباني إلى روجافا (إقليم الحكم الذاتي الكردي في سوريا)، قائلاً إنّه "لن ينسى مساعدات ودعم الاتحاد الوطني المتواصل"، وإن "الاتحاد الوطني كان الداعم والمساند الحقيقي والمخلص لقسد، لاسيما قوات مكافحة الإرهاب التي أدّت دورا مهما ومؤثرا في العمليات الأمنية والعسكرية في روجافا ضد داعش".
وتجدر الإشارة إلى أن اللقاء الثلاثي تم في أجواء أمنية أفضل بعد أن قررت تركيا، تحت ضغط الولايات المتحدة، تهدئة الجبهة مع قوات قسد، التي انسحبت بدورها من المناطق التي تُعد خطوط تماس بين الطرفين.
هذه الزيارة ليست الأولى..
الخبير العسكري السوري، عبد الناصر العايد، كشف أن زيارة بافل لمظلوم عبدي ليست الأولى، إذ سبقتها زيارة لم تأخذ حيزاً في الإعلام في عام 2019، ولم تكن مشحونة بالبُعد الكردي كما هذه الزيارة، التي وصفها بافل في صفحته بأنها زيارة إلى روجآفا أي كردستان الغربية، وفق المصطلحات الكردية.
ويضيف العايد أن هذه اللغة تشير إلى نوع من مغازلة المشاعر الكردية عامة، ومشاعر القاطنين في شرق سوريا خصوصاً، في ظل ظروف استثنائية تعيشها قسد، سواء لناحية التهديدات التركية أو المفاوضات التي تخوضها هذه القوات مع نظام الأسد وروسيا وسط تعنّت واستقواء من الأطراف كافة.
وأكد أنه لا يمكن إغفال دور الصراعات الكردية الداخلية في إقليم كردستان في دفع طالباني إلى هذا التحرك، فالإطار التنافسي العام وحيازة الأوراق الكردية المختلفة، يحكمان علاقة الطالباني بالبارزاني وحزبه، ولمّا كان الأخير يملك ورقة قوة في سوريا، هي مجموعة أحزاب “المجلس الوطني الكردي” الممثلة في “الائتلاف السوري”، فإنه من المنطقي سياسياً أن يتجه الطالباني إلى الضفة الأخرى ليحصل على نفوذ موازٍ.
واعتبر العايد أن أهمية تحرك بافل اليوم تأتي ربما من الفرضيات التي تقول بإمكانية قبول قسد بنشر قوات تتبع لبيشمركة البرزاني على الحدود السورية التركية، لتفصل ما بين قسد والجيش التركي، ويمكن للطالباني في هذه الحالة أن يطالب بشراكة في قوات الفصل، بدعم من قسد.
هل يتطور الصراع إلى نزاع مسلح؟..
يحذر مراقبون للصراعات السياسية في إقليم كردستان من انجرار الأوضاع إلى صراع مسلح خصوصاً بعد عدم نجاح زيارة الوفد الأميركي، برئاسة منسق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك، إلى إقليم كردستان في احتواء التصعيد الجاري بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، مع استمرار الشحن الإعلامي والسياسي بين الحزبين.
وتثير الخلافات المتصاعدة بين الحزبين الرئيسيين في الإقليم الذي يحظى بحكم ذاتي في شمال العراق منذ تسعينيات القرن الماضي، مخاوف لدى الأكراد من تحولها إلى مواجهات مسلحة، خصوصا وأن الطرفين لا يظهران أي استعداد لتقديم تنازلات.
ووفق مسؤولين أكراد، لدى الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني وحدتان عسكريتان تخضعان لسيطرتهما (وحدة 80 ووحدة 70)، ويتراوح عدد عناصرهما بين مئة ألف ومئة وعشرين ألفا.
وقد فشلت جهود أميركية وأوروبية في توحيد هذه القوات التي يبدو أنها في حالة استنفار لأي تطور دراماتيكي على خط المواجهة السياسية المفتوحة بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني.
الكاتب والمحلل السياسي كمال رؤوف بيّن إن الأوضاع الراهنة في إقليم كردستان باتت تنذر بمخاطر جمّة، غير مستبعد حدوث صدامات بين الحزبين لا تُحمد عقباها.
وقال رؤوف إن المرحلة قد تتجه إلى منزلق الانشطار الكلي، في ظل تبادل الاتهامات بين الحزبين الرئيسيين، مشيرا إلى أن حكومة إقليم كردستان باتت مقسّمة وإن كلا القسمين يتهم الآخر بالاستحواذ على عُصَب الأموال ومفاصل الحكم.
وأشار المحلل السياسي إلى أن الطرفين لا يبدو أنهما في وارد الإصغاء إلى التحذيرات التي أطلقها التحالف الدولي بقيادة واشنطن ضد داعش، والذي شدد على أهمية وجود قوات عسكرية موحّدة.