من ملاعب الدوحة إلى دهاليز تشكيل الحكومة.. كيف تحوّلت زيارة الحلبوسي والخنجر إلى بوابة مفتوحة لتدويل القرار السني وزعزعة السيادة العراقية؟
انفوبلس/..
في لحظة سياسية عراقية مربكة وحسّاسة، وبينما تتسارع خطى المفاوضات لتشكيل الحكومة الجديدة، انفجرت موجة جدل واسعة عقب الزيارة المشتركة التي قام بها رئيس مجلس النواب السابق محمد الحلبوسي وزعيم تحالف السيادة خميس الخنجر إلى العاصمة القطرية الدوحة.
ورغم محاولات إظهار الزيارة بلبوس رياضي مُغطّى بابتسامات ملاعب كأس العرب، فإن القراءة السياسية للحدث بدت أكثر وضوحاً من أن تُخفى خلف كاميرات المدرّجات؛ إذ سرعان ما ظهر الثنائي العراقي في لقاء رسمي مع أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه أمام أسئلة كبيرة حول مغزى الرسالة، وتوقيت الخطوة، والجهة المستفيدة من إعادة تدويل القرار السني في لحظة مفصلية من عمر الدولة العراقية.
الدوحة.. محطة عبور القيادات السنية
فالدوحة التي أصبحت محطة عبور ثابتة لقيادات سنية منذ سنوات، لم تكن هذه المرة مجرد نقطة توقف بروتوكولي، بل بدت ـ كما يرى مراقبون ـ مركزاً لورشة سياسية مكثفة، تستهدف إعادة ترتيب البيت السني من الخارج لا من الداخل، وبطريقة تثير مخاوف عميقة لدى القوى العراقية التي ترى أن تشكيل الحكومة حقّ سيادي لا يجوز تسليمه لأي عاصمة مهما كانت روابطها أو مصالحها.
وما إن أُعلن عن اللقاء الرسمي الذي جمع الحلبوسي والخنجر بأمير قطر، حتى تصاعدت الانتقادات داخل بغداد، لا سيما من قوى الإطار التنسيقي التي وصفت الخطوة بأنها “تدخل سافر” في الشأن العراقي، وانتهاك صريح لفكرة استقلال القرار الوطني. القيادي في الإطار التنسيقي ورئيس تحالف تصميم عامر الفايز لم يجامل حين قال إن زيارة الرجلين ونقاشهما ملف تشكيل الحكومة مع القيادة القطرية “مرفوضة جملة وتفصيلاً”، مؤكداً أن مجرد طرح ملف داخلي بهذا الحجم أمام دولة أجنبية يُعدّ تجاوزاً للدستور والأعراف السياسية.
هذا الرفض الداخلي لم يكن مفاجئاً؛ فالعراق يعيش منذ شهور على وقع صراع معقد بين قوى محلية وإقليمية ودولية تتنافس على الإمساك بخيوط التوازن الجديد، وكل خطوة خارجية غير محسوبة قد تدفع المشهد إلى مزيد من التعقيد وربما الانقسام. ومع ذلك، يبدو أن قادة المكوّن السني يواصلون العمل بمنطق “المرجعيات الخارجية”، في وقت يحتاج فيه العراق أكثر من أي وقت مضى إلى تحصين خياراته الوطنية وإغلاق الأبواب الخلفية التي تتسلل منها المصالح الإقليمية.
النفوذ القطري داخل البيت السني
المحلل السياسي إبراهيم السراج قدّم تفسيراً لافتاً لهذه التحركات، معتبراً أن النفوذ القطري داخل البيت السني “لم يعد مجرد تحليل أو شعور، بل بات واقعاً ملموساً”، وأن الزيارة الأخيرة لم تفعل سوى كشف ما كان يتم تداوله همساً داخل الكواليس. السراج يشير بوضوح إلى أن تشكيل “المجلس السياسي الوطني السني” جرى بدعم مباشر من قطر وتركيا، بهدف رأب الصدع الداخلي وتوحيد القرار، لكن المجلس فشل حتى الآن في تحقيق أي من أهدافه، بعدما تحوّل بدلاً من ذلك إلى ساحة صراع بين الطموحات الشخصية والصراعات المكونية.
إن انهيار هذا المشروع السياسي الذي رُوّج له كحامل أساسي لوحدة المكوّن السني، يكشف جانباً من الأزمة المتجذرة التي يعيشها هذا البيت منذ سنوات. فبدلاً من تشكيل جبهة سياسية ناضجة مُتصالحة مع ذاتها، يستمر التشظي وتستمر محاولات فرض “الزعيم الأوحد”، وهو ما حذر منه السراج حين أشار إلى أن طموحات الحلبوسي بالعودة إلى رئاسة مجلس النواب تُعدّ محركاً أساسياً خلف جزء كبير من هذه التحركات، الأمر الذي يجعل أي دعم خارجي ـ مهما كان شكله ـ جزءاً من معركة داخلية لا علاقة له بالوطن ولا بالاستحقاقات الدستورية.
إعادة تموضع
أما المحلل السياسي رافد العطواني فذهب أبعد من ذلك، حين قال إن حضور الحلبوسي مباراة المنتخب “كان جزءاً من مشهد أكبر” يرتبط بإعادة تموضع إقليمي داخل البيت السني. العطواني يرى أن دولاً مثل قطر وتركيا والسعودية والإمارات أصبحت تمتلك تأثيراً رسمياً وغير رسمي على مفاتيح صنع القرار السني، مستفيدة من الفراغ القيادي والانقسام الداخلي. وهذا التأثير لا يقف عند حدود النصيحة السياسية، بل يصل في أحيان كثيرة إلى مستوى الاشتراطات والدعم والفيتو، الأمر الذي يجعل القادة المحليين أسرى ضغوط متعددة الجنسيات.
تدويل القرار السني
إن خطورة هذا التعقيد لا تكمن فقط في تدويل القرار السني، بل في انعكاسه على المشهد السياسي العراقي برمّته، خصوصاً أن مناخ تشكيل الحكومة الجديدة لا يحتمل إضافة توتر خارجي جديد على رصيد الأزمات الداخلية. العراق اليوم أمام مفاوضات مضغوطة، وأمام دستور يفرض مواعيد حاسمة، وأمام تحدٍّ كبير في موازنة النفوذ الأميركي والإيراني والعربي. وفي وسط هذا المسار الحرج، تأتي زيارة الدوحة لتكشف هشاشة البنية السياسية لبعض المكونات، وتحوّلها إلى مساحات نفوذ تتقاسمها دول متعددة.
إن التعامل مع تشكيل الحكومة بوصفه ملفاً يمكن وضعه على طاولة أي عاصمة إقليمية يشكّل ـ بلا مبالغة ـ ضرباً مباشراً لجوهر السيادة العراقية. فبدلاً من التركيز على توحيد الصف الداخلي والتفاهم على رؤية موحدة لمستقبل البلاد، يتحول النقاش إلى “سباق عواصم” يختار فيه كل طرف داعميه ومموليه ورعاته، لينتهي الأمر بتضارب ولاءات واختلاف أجندات وصدامات منطقية بين الدول المؤثرة نفسها.
وإذا كان البيت السني يعيش حالة انقسام حادة، فإن الطريق نحو الخروج من هذا المأزق لن يمر عبر الدوحة ولا الرياض ولا أنقرة، بل عبر بغداد وحدها. فالاتفاقات الخارجية مهما كان بريقها، لا تستطيع إخفاء حقيقة أن المشهد السني اليوم يعاني من غياب مركز قرار فعلي، وأن الحديث المتكرر عن “توحيد الموقف” بات مجرد شعار استهلاكي لا يعكس ما يجري خلف الأبواب المغلقة.
إن انتقاد هذه الزيارة لا يأتي من باب الخصومة السياسية، بل من باب رفض تكريس سلوك سياسي قائم على البحث عن شرعية خارج الحدود، في وقت تواجه فيه البلاد تحديات اقتصادية وأمنية ودستورية تتطلب توحيد الجبهة الوطنية لا تفكيكها. وإن أخطر ما قد تتركه زيارة الدوحة ليس مضمون اللقاء بحد ذاته، بل تكريس فكرة أن الدبلوماسية الخارجية يمكن أن تكون جسراً لتجاوز المؤسسات الدستورية العراقية، أو مساحة لعقد تفاهمات لا يطّلع عليها الشعب ولا القوى السياسية الأخرى.