تحليل ازدواجية الإعلام والحكومة: بين بغداد والسليمانية.. لماذا تُضخَّم بعض الأحداث وتُهمَل أخرى رغم استخدام الطائرات والدبابات؟

انفوبلس/..

شهدت مدينة السليمانية ليلة دامية بعد اندلاع اشتباكات مسلحة غير مسبوقة بين قوة أمنية خاصة وحمايات رئيس حزب جبهة الشعب لاهور شيخ جنكي، انتهت باعتقاله مع شقيقه بولاد بعد ساعات من القتال العنيف الذي استُخدمت فيه أسلحة ثقيلة من طائرات مسيرة ودبابات وعربات مدرعة. 

ورغم خطورة المشهد وما حمله من رسائل سياسية وأمنية عميقة، فإن حجم التغطية الإعلامية كان ضئيلاً للغاية مقارنة بما جرى قبل أسابيع قليلة في بغداد عند حادثة دائرة الزراعة في الدورة، وهو ما يثير علامات استفهام واسعة حول ازدواجية التعامل مع الأحداث، سواء من قبل الإعلام أو من جانب الحكومة العراقية.

*السليمانية تشتعل.. والإعلام يتجاهل

في مساء الخميس الماضي، تحولت بعض مناطق السليمانية إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين وحدات من مكافحة الإرهاب والكوماندوز وآسايش الاتحاد الوطني الكردستاني من جهة، وقوات حماية لاهور شيخ جنكي من جهة أخرى. الاشتباكات بدأت عند الساعة الثالثة والنصف فجراً تقريباً، واستمرت لساعات طويلة مخلفةً قتلى وجرحى، قبل أن تتمكن القوة المهاجمة من اعتقال شيخ جنكي وشقيقه بولاد واقتيادهما إلى السجن.

المفارقة أن كل هذه الأحداث لم تحتل العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام العراقية والعربية كما يفترض لحادث بهذا الحجم، بل مرت مروراً عابراً في بعض النشرات الإخبارية، فيما ركزت منصات التواصل الاجتماعي على تداول لقطات متناثرة دون أن تأخذ زخماً كبيراً.

الأدهى من ذلك أن استخدام الدبابات والطائرات المسيرة في قلب مدينة مكتظة بالسكان لم يثِر موجة واسعة من التنديد أو النقاش العام، بل بدا وكأن المشهد جرى التعامل معه باعتباره خلافاً حزبياً داخلياً لا يستحق التوقف طويلاً عند تفاصيله.

*الدورة.. حين تحولت حادثة بسيطة إلى قضية رأي عام

على النقيض تماماً، فإن حادثة دائرة الزراعة في الدورة ببغداد حظيت قبل فترة قصيرة بحجم تغطية استثنائي. يومها لم يتجاوز المشهد مشادة محدودة داخل مبنى رسمي، سرعان ما جرى تصويره على أنه دليل جديد على فوضى السلاح في العاصمة.

وسائل الإعلام التقليدية أفردت ساعات بث طويلة للتغطية، بينما امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالمنشورات والتعليقات، وانبرى المعلقون لمهاجمة الحشد الشعبي وتحميله مسؤولية ما جرى. الحكومة من جهتها سارعت إلى إصدار قرارات عاجلة تضمنت إعفاءات أمنية وتشكيل لجان تحقيق، وهو ما أعطى الانطباع بأن الحادثة تمثل خطراً كبيراً على هيبة الدولة.

*المقارنة الفاضحة بين الحادثتين

لو وضعنا الحادثتين جنباً إلى جنب سنجد ازدواجية واضحة في المواقف:

 • حادثة بغداد (الدورة): الحكومة تتحرك بسرعة، إعفاء آمرَي لوائَين، فتح لجنة تحقيق بحق قائد عمليات الجزيرة، موجة تصريحات سياسية، تغطية إعلامية مكثفة.

 • حادثة السليمانية: صمت رسمي استمر لساعات طويلة، ثم بيان أشبه بالروتين الإداري، يطالب بالابتعاد عن المظاهر المسلحة، دون إجراءات ملموسة أو لجان تحقيق علنية.

هذه المفارقة تكشف أن المعايير ليست موحدة، وأن الحسابات السياسية والحزبية تلعب دوراً أساسياً في حجم التفاعل مع الأحداث، سواء على مستوى الحكومة أو الإعلام.

لماذا تم تجاهل ما جرى في السليمانية؟

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: كيف يمكن لحادثة صغيرة في بغداد أن تهز الإعلام والحكومة، بينما تمر معركة بالسلاح الثقيل في السليمانية مرور الكرام؟

هناك عدة احتمالات:

 1. البعد السياسي: القوى المتنفذة في إقليم كردستان، خصوصاً الاتحاد الوطني الكردستاني، تحرص على إبقاء صراعاتها الداخلية بعيداً عن دائرة الضوء الوطني، وهو ما ينعكس على الإعلام الممول أو الموجه سياسياً.

 2. الحساسية الكردية: الحكومة الاتحادية تفضل غالباً عدم الدخول في صلب الخلافات الكردية – الكردية، وتكتفي ببيانات عامة، خشية أن تُتهم بالتدخل أو الانحياز لطرف ضد آخر.

 3. التأطير الإعلامي: في بغداد، أي حادثة يمكن أن تُؤطر سريعاً على أنها جزء من ملف “السلاح المنفلت”، وهو ملف سياسي ساخن يخدم أطرافاً معينة. أما في السليمانية فالتأطير الإعلامي غاب، واعتُبر الأمر صراعاً داخلياً.

 4. الضغوط الدولية: بعض الجهات الدولية والإقليمية ربما تفضل التعتيم على أي أحداث تُظهر هشاشة الوضع الأمني في الإقليم الذي يُسوّق عادة على أنه “آمن ومستقر”.

*الازدواجية في ملف “السلاح المنفلت”

واحدة من أبرز المفارقات، أن الحكومة ووسائل الإعلام ترفع باستمرار شعار “ضبط السلاح المنفلت”، لكن تطبيق هذا الشعار يتم بانتقائية واضحة. في حادثة الدورة، تم تضخيم القضية إلى أقصى حد باعتبارها دليلاً على وجود فوضى مسلحة، بينما في حادثة السليمانية، حيث استخدمت طائرات ودبابات داخل مدينة مدنية، لم يُذكر مصطلح “السلاح المنفلت” تقريباً في أي بيان رسمي أو إعلامي.

هذا التناقض يعكس أن القضية لا تُعالج بمعايير مهنية أو قانونية، بل حسب المصلحة والظرف السياسي.

*الرسائل التي بعثتها عملية اعتقال لاهور شيخ جنكي

رغم التعتيم الإعلامي، فإن اعتقال لاهور شيخ جنكي لا يمكن اعتباره حادثاً عادياً. فالرجل شخصية بارزة في الاتحاد الوطني الكردستاني، وكان أحد أقطاب القرار الأمني والسياسي في السليمانية لسنوات. العملية التي نفذتها قوات خاصة، واستخدمت فيها الدبابات، تمثل رسالة واضحة بأن الحزب الحاكم في السليمانية يريد حسم الخلاف الداخلي بالقوة المفرطة، حتى لو كان الثمن زعزعة الاستقرار داخل المدينة.

كما أن توقيت العملية، والحرص على تنفيذها بأوامر قضائية معلنة، يشي بأن ثمة ترتيبات سياسية أوسع، ربما لإعادة هيكلة موازين القوى داخل الإقليم. ومع ذلك فإن الحكومة المركزية لم تُبدِ موقفاً واضحاً، بل فضّلت النأي بنفسها.

*انعكاسات هذه الازدواجية على الشارع

الشارع العراقي بات أكثر وعياً بملف الازدواجية في التعامل مع الأزمات. المواطن البسيط يرى كيف تُضخَّم بعض القضايا لأهداف سياسية، بينما تُطمس أخرى رغم خطورتها. هذا التباين يضعف ثقة الناس بوسائل الإعلام وبالخطاب الرسمي، ويجعل الحديث عن “سيادة القانون” أو “هيبة الدولة” مجرد شعارات فارغة.

هذه الازدواجية في المعايير لا تُهدد فقط مصداقية الإعلام والحكومة، بل تكشف عن خلل عميق في إدارة الأزمات، وتؤكد أن مصلحة الأطراف السياسية ما زالت هي البوصلة الحاكمة، بينما الأمن الوطني وهيبة الدولة لا تعدو كونها أوراقاً للاستخدام الانتقائي.