الانسحاب الأميركي من العراق.. محطة فاصلة في استعادة السيادة الوطنية وترسيخ الاستقلال الأمني والسياسي بعد سنوات من الوصاية الخارجية
انفوبلس/..
منذ أن وطأت أقدام قوات ما تسمى بالتحالف الدولي الأراضي العراقية عام 2014 بذريعة محاربة تنظيم “داعش” الإرهابي، ظلّ ملف الوجود الأجنبي مثار جدل داخلي متواصل. ومع إعلان الحكومة العراقية عن بدء انسحاب تدريجي للقوات الأميركية وقوات ما تسمى بالتحالف مطلع أيلول المقبل، يتجدد الحديث عن السيادة الوطنية، وعن العراق كدولة تدخل مرحلة جديدة من الاعتماد الكامل على قدراته الأمنية، بعيداً عن أي شكل من أشكال الوصاية الخارجية. هذا الانسحاب لا يُقرأ على أنه مجرد خطوة عسكرية، بل هو لحظة سياسية مفصلية تختزل سنوات طويلة من الصراع بين من تمسك بالقرار الوطني المستقل ومن رهن الإرادة العراقية لأجندات الخارج.
من التدخل العسكري إلى "التحالف الدولي"
يرى المحللون أن الوجود الأميركي لم يكن يومًا بلا أهداف خفية. المحلل السياسي عباس الجبوري يوضح أن الولايات المتحدة لم تدخل العراق وحدها، بل عبر مظلة التحالف الدولي الذي ضمّ عشرات الدول، إلا أنها احتفظت بالدور القيادي والعسكري الأكبر. ومع أن القوات العراقية والحشد الشعبي والقوى الوطنية تمكنت من تحرير المدن من سيطرة “داعش”، استمر الوجود الأميركي بذريعة التدريب والدعم الفني. لكن هذه الذريعة لم تصمد طويلًا، إذ تحوّل الملف الأمني إلى ورقة مساومة سياسية إقليمية ودولية.
البرلمان يحسم.. والإرادة الشعبية أقوى
بعد إعلان النصر العسكري على “داعش”، لم يعد وجود القوات الأجنبية مقبولًا لدى الشارع العراقي. في تلك الفترة، أصدر مجلس النواب قرارًا ملزمًا بضرورة إخراج القوات الأميركية، في تعبير واضح عن الإرادة الوطنية والشعبية التي رفضت استمرار الوصاية الأمنية. القرار النيابي لم يكن مجرد نص سياسي، بل كان انعكاسًا لمزاج عام يطالب بسيادة كاملة.
حوارات شاقة ونتائج واضحة
الانسحاب لم يكن وليد لحظة، بل جاء بعد ست جولات تفاوضية بين بغداد والتحالف الدولي، جرى خلالها بحث مستقبل الوجود الأجنبي وتحديد آليات الانسحاب. الحكومة شكّلت لجنة أمنية عليا لإدارة الحوار مع القيادات العسكرية للتحالف، وتم التوصل إلى خطة انسحاب تدريجي تشمل مطار بغداد الدولي وقاعدة عين الأسد في الأنبار.
هذه الخطوة لم تكن تقنية فقط، بل سياسية بامتياز. فالعراق، وهو يخرج من عباءة الوجود العسكري الأميركي، يرسل رسالة واضحة إلى الداخل والخارج بأنه قادر على بسط سيطرته التامة على الأرض والسماء، وأنه لن يقبل أن تكون أرضه منطلقًا لتصفية الحسابات أو إدارة الحروب بالوكالة.
*السيادة فوق كل اعتبار
النائب كاظم الشمري، رئيس حزب “التلاحم الوطني”، شدّد على أن العراق يمتلك القدرة الذاتية لإدارة ملفه الأمني بعد الانسحاب، لكنه أشار إلى ضرورة توفير إطار تشريعي يضمن الدعم المالي واللوجستي للقوات المسلحة. وأكد أن البلاد تقف أمام “مفترق طرق تاريخي” بين استكمال بناء مؤسساتها وتعزيز السيادة الوطنية، أو الانجرار مجددًا إلى الاعتماد على الخارج.
الشمري أوضح أن نجاح العراق في هذه المرحلة يتطلب إرادة سياسية واضحة، واستثمارًا أمثل لموارده الأمنية والعسكرية، إلى جانب استمرار التنسيق الدولي بما يخدم مصلحة العراق فقط لا غير. فالسيادة، بحسب تعبيره، ليست شعارًا يُرفع، بل ممارسة فعلية تقوم على الاستقلال بالقرار، وعدم ترك أي ثغرة تُستغل لإعادة إنتاج الوصاية الأجنبية.
انسحاب يحمل أبعادًا سياسية وانتخابية
المحللون السياسيون يرون أن الانسحاب الأميركي لا يقتصر على كونه إجراءً عسكريًا، بل سيكون له أثر عميق على المشهد الداخلي العراقي. فالتخلص من الوجود العسكري الأجنبي سيعيد رسم التوازنات، ويعزز موقف القوى الوطنية التي طالبت طويلًا بالسيادة الكاملة، وسيُضعف في المقابل القوى التي ربطت مصيرها بالدعم الخارجي.
التحرر من الوصاية.. وبناء شراكات ندّية
انسحاب القوات الأميركية يفتح الباب أمام العراق لبناء علاقات دولية متوازنة قائمة على الندّية والاحترام المتبادل، بدلًا من علاقة التبعية والهيمنة. فالولايات المتحدة، مهما ادعت أنها جاءت لمساعدة العراق، لم تستطع إخفاء حقيقة أنها تعاملت مع البلاد بوصفها ورقة في صراعها الإقليمي والدولي.
أما اليوم، فإن العراق وهو يدخل مرحلة جديدة، يملك فرصة ذهبية للانفتاح على محيطه العربي والإقليمي والدولي من موقع الندّ لا التابع. وهذا لا يعني القطيعة مع المجتمع الدولي، بل استمرار التعاون الأمني والاستخباراتي بما يخدم مصالح العراق فقط، دون قبول بقاء أي جندي أجنبي على أرضه.
مسؤولية وطنية مشتركة
مع بدء الانسحاب، تبدو التحديات الأمنية قائمة، إذ لا تزال هناك مخاطر من عودة الخلايا النائمة لـ”داعش” في بعض المناطق. لكن هذه التحديات يجب أن تكون دافعًا لتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية، لا ذريعة لإبقاء القوات الأجنبية. فالسيادة لا تُجزأ، ولا يمكن أن تبقى مشروطة بحماية خارجية.
الخبير الأمني أبو رغيف يرى أن الانسحاب فرصة لتجديد الثقة بالقدرات الوطنية، إذ إن القوات العراقية أثبتت خلال السنوات الماضية قدرتها على خوض معارك صعبة، ونجحت في حماية الحدود والمناطق المحررة. وهذه القدرات مرشحة للتعاظم إذا ما حصلت على الدعم التشريعي والمالي اللازم من البرلمان والحكومة.
مرحلة ما بعد الانسحاب
مع اقتراب عام 2026، يقف العراق على أعتاب مرحلة مفصلية. فالمعركة لم تعد معركة وجود أجنبي أو رحيله، بل معركة بناء مؤسسات قوية، وتحصين السيادة، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطن. فنجاح العراق في إدارة المرحلة المقبلة سيعني أن دماء الشهداء الذين سقطوا في مواجهة “داعش” لم تذهب سدى، وأن التضحيات لم تُستغل لإبقاء العراق ساحة نفوذ للقوى الأجنبية.
وإذا كان الانسحاب الأميركي يمثل نهاية فصل من فصول التاريخ العراقي الحديث، فإنه يفتح الباب أمام كتابة فصل جديد، عنوانه “الاستقلال الحقيقي”. الاستقلال الذي لا يُقاس فقط بخروج الجيوش الأجنبية، بل بقدرة الدولة على فرض هيبتها، وحماية مواطنيها، واتخاذ قراراتها السيادية بعيدًا عن أي ابتزاز خارجي.
العراق سيد قراره
الوجود الأميركي في العراق كان ولا يزال أحد أبرز مظاهر الانتقاص من السيادة الوطنية. اليوم، ومع بدء العد التنازلي لخروج تلك القوات، يستعيد العراق جزءًا أساسيًا من قراره المستقل. لكن المعركة لم تنتهِ بعد، فهي الآن داخلية بامتياز: كيف يحافظ العراقيون على هذا المكسب، ويمنعوا أي محاولة لإعادة إنتاج الوصاية بأشكال جديدة؟
الإجابة تكمن في وعي الشعب، وإصرار القوى الوطنية، على ترسيخ مبدأ السيادة قولًا وفعلًا. فالعراق، الذي عانى طويلًا من التدخلات الخارجية، يستحق أن يعيش مرحلة جديدة يكون فيها سيّد قراره.
