تاريخ العراق في كأس العرب: بصمات خالدة وإنجازات نوعية وأرقام قياسية
انفوبلس/ تقرير
لا يمكن الحديث عن بطولة كأس العرب لكرة القدم دون التوقف مطولاً عند منتخب العراق الذي كان - ولا يزال - أحد أبرز صنّاع تاريخ هذه البطولة، بما تركه من بصمات خالدة وإنجازات نوعية وأرقام قياسية تحولت إلى جزء من ذاكرة الكرة العربية. فمنذ انطلاق البطولة قبل أكثر من ستة عقود، ارتبط اسم أسود الرافدين بقصص المجد والتفوق، رغم تعاقب الأجيال وتبدل الظروف السياسية والرياضية التي مرت بها البلاد.
بداية المشوار.. حضورٌ مبكر وهوية هجومية واضحة
دخل العراق بطولة كأس العرب لأول مرة في نسخة عام 1964 التي أقيمت في الكويت. لم يكن المنتخب العراقي في ذلك الوقت يمتلك خبرة عميقة في البطولات العربية، لكن المشاركة الأولى شكّلت نقطة انطلاق مهمة، إذ أظهر الفريق شخصية قوية وهوية هجومية كانت لسنوات علامة مميزة لكرة الرافدين. تلك النسخة كانت بمثابة إعلان أولي بأن العراق لن يكون مجرد ضيف شرف، بل رقماً صعباً وصاحب مشروع كروي سيترك أثره في المستقبل.
وفي النسخة التالية عام 1966، في بيروت، تحولت المشاركة إلى حدث فارق في مسيرة الكرة العراقية. فقد تُوّج المنتخب العراقي بالبطولة لأول مرة، مؤذناً بانطلاق مرحلة جديدة ينحت فيها اسمه في ذاكرة البطولة، ويفرض نفسه قوة كروية عربية صاعدة.
عصر الهيمنة العراقية.. حين كانت البطولة عراقية الهوى
شكّل عقدا السبعينيات والثمانينيات المرحلة الذهبية لمنتخب العراق، وهي الفترة التي تثبتها الذاكرة العربية كواحدة من أجمل مراحل الكرة على مستوى المنطقة. في عام 1975، في بغداد، كانت الجماهير العراقية شاهدة على تتويج تاريخي جديد لأسود الرافدين باللقب للمرة الثانية، في بطولة أظهرت تماسك الفريق، ورفعت سقف طموحات الجماهير التي بدأت تنظر للمنتخب بوصفه ممثلاً للعراقة والقوة.
لكن المشهد بلغ ذروته في نسخة 1988 التي أقيمت في عمّان، حين قدم المنتخب العراقي أحد أفضل عروضه في تاريخ البطولة. كان الجيل المشارك يومها استثنائياً على مستوى المواهب والقدرات، إذ ضم أسماءً مثل حبيب جعفر، ليث حسين، سعد قيس، رعد حمودي وغيرهم ممن أصبحوا لاحقاً رموزاً كروية عراقية وعربية. لم يكن انتصار العراق في تلك النسخة مجرد لقب، بل إعلاناً عن جيل لا يتكرر، وحقبة ما زال المشجعون يتغنون بها حتى اليوم.
وبحصيلة أربع بطولات في أعوام 1964, 1966, 1975, 1988، أصبح منتخب العراق الأكثر تتويجاً في تاريخ كأس العرب، وهو إنجاز ظل صامداً رغم التطور الكبير الذي شهدته كرة القدم العربية ودخول منتخبات أخرى بثقل فني ومالي كبير.
قوة الأفراد وصناعة النجوم
لم يكن المنتخب العراقي مجرد منظومة فنية ناجحة، بل كان مصنعاً لاكتشاف الأسماء الكبيرة في الكرة العربية. برز عبر مشاركاته في البطولة عمالقة خط الهجوم والوسط والدفاع، أمثال: أحمد راضي: صاحب الهدف الشهير في كأس العالم 1986، حسين سعيد وعدنان درجال، وحبيب جعفر وليث حسين.
هذه الأسماء وغيرها كانت شاهدة على فترات متباينة من التألق والإنجاز، وأسهمت في ترسيخ الهوية الكروية العراقية في المنطقة.
الغياب القسري.. كرة القدم تدفع ثمن السياسة
ورغم البريق، لم يكن تاريخ العراق في كأس العرب خطّاً مستقيماً. فقد غاب المنتخب عن عدة نسخ من البطولة، خاصة في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، بسبب الحروب والحصار الاقتصادي والقرارات الحكومية التي حدّت من المشاركات الخارجية. خلال هذه المرحلة، اقتصر الوجود العراقي على المنافسة في كأس آسيا والتصفيات المؤهلة لبطولات كأس العالم، فيما تلاشت الفرص الحقيقية للاحتكاك العربي المنتظم.
العودة من جديد.. كأس العرب 2012
عاد أسود الرافدين إلى البطولة في نسخة 2012 التي أقيمت في السعودية، بفريق يغلب عليه الطابع الشبابي وبتعديلات تكتيكية شاملة. رغم قصر فترة الإعداد، قدم المنتخب عروضاً مقنعة وحقق ست نقاط من ثلاث مباريات، لكنه ودّع المنافسات بفارق الأهداف، في مشاركة وُصفت بأنها ناجحة من حيث إعادة بناء الثقة وكسر العزلة الكروية التي عاشها العراق.
مشاركة رغم كورونا.. نسخة 2021 في قطر
أصبح كأس العرب 2021 علامة فارقة، ليس للعراق فقط، بل للبطولة ككل، لكونها أول نسخة تُقام تحت إشراف الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، مع تطبيق تقنية حكم الفيديو (VAR) وتنظيم مشابه لكأس العالم التي أقيمت في قطر لاحقاً.
شارك العراق في مجموعة ضمت منتخبات قوية هي قطر والبحرين وعُمان، ولم ينجح في تجاوز الدور الأول، لكنه خرج بمكاسب واضحة، أبرزها بروز اسم اللاعب حسن عبد الكريم "قوقية"، الذي أصبح لاحقاً أحد نجوم الدوري العراقي.
استعدادات 2025.. بين الأمل والتحدي
اليوم، يدخل العراق بطولة كأس العرب قطر 2025 بطموح جديد يقوده المدرب الأسترالي غراهام أرنولد، وسط آمال جماهيرية كبيرة في استعادة أمجاد الماضي، لا سيما مع اعتبار البطولة محطة مهمة للتحضير للملحق العالمي المؤهل إلى كأس العالم 2026.
سيلعب العراق في المجموعة الرابعة التي تضم الجزائر والبحرين والسودان. ورغم قوة المنافسة، تبدو حالة المنتخب أكثر استقراراً وانسجاماً مما كانت عليه في السنوات الماضية.
بطولة عربية غيّرت موازين اللعبة
انطلقت بطولة كأس العرب عام 1963 في لبنان بمشاركة خمسة منتخبات، وفاز منتخب تونس باللقب الأول. وعلى مدى عشر نسخ اكتملت حتى اليوم، تعاقبت سبع دول على استضافة البطولة، جميعها من الشطر الآسيوي للوطن العربي.
ورغم أن استضافة البطولة عادةً ما تمنح المنتخبات ميزة اللعب على أرضها، فإن كأس العرب شكّلت مفارقة لافتة؛ إذ تحولت الاستضافة إلى ما يشبه "اللعنة". فالمنتخبات المضيفة لم تفز باللقب سوى مرة واحدة فقط — وكانت تلك معجزة عراقية خالدة عام 1966. وبعد هذه النسخة، لم تتمكن أي دولة مضيفة من تكرار الإنجاز.
الأرقام تتحدث.. العراق في صدارة التاريخ
الأكثر تتويجًا: العراق (4 ألقاب)
أكثر المنتخبات انتصارًا: العراق (16 فوزًا في البطولة)
أطول سلسلة لا هزيمة: العراق (23 مباراة متتالية دون خسارة بين الستينيات والثمانينيات)
وحتى كسر المغرب لسلسلة اللاهزيمة العراقية بفوز (2-1) في نصف نهائي نسخة 2012، كان المنتخب العراقي يقدم درساً متجدداً في الاستمرارية والانضباط الفني.
مدرب بصفة مزدوجة.. مفارقة لا تتكرر
يبقى عادل بشير اسماً استثنائياً في تاريخ كأس العرب؛ فهو المدرب الوحيد الذي جمع بين منصب مدرب المنتخب ورئيس الاتحاد العراقي لكرة القدم في آن واحد — سابقة يصعب تكرارها. وهو أيضاً المدرب الوحيد الذي حقق البطولة مرتين، ضمن قائمة تضم أربعة مدربين هم الأكثر خوضاً للمباريات في تاريخ البطولة.
بين ذاكرة الأمجاد وحلم العودة
منذ أول هدف عراقي في كأس العرب وحتى آخر مشاركة في قطر، ظل المنتخب العراقي رقماً ثابتاً في معادلات البطولة. لم يكن فوزه بالألقاب الأربعة مجرد توثيق لحقبة نجاح، بل تعبيراً عن إرث كروي متجذر يمتد لستة عقود.
واليوم، ومع اقتراب انطلاق نسخة قطر 2025، يشعر الشارع الكروي العراقي بأن الوقت قد حان لاستعادة أمجاد الماضي، ليس فقط لتحقيق اللقب، ولكن لإعادة العراق إلى مكانته الطبيعية في قمة الهرم العربي — المكان الذي لم يغادره في ذاكرة عشاق كرة القدم.

