تحقيق بريطاني يُعيد إلى الواجهة قضية الإمام موسى الصدر بعد 46 عاماً من اختفائه
غموض يتحدى مرور الزمن
انفوبلس..
نشر موقع "بي بي سي" البريطاني تحقيقاً استقصائياً جديداً يُعيد فتح ملف اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقَيه في ليبيا عام 1978، وهي القضية التي ظلت طوال أكثر من أربعة عقود لغزاً شائكاً بين بيروت وطرابلس الغرب، وتحوّلت إلى ملف سياسي وإنساني مفتوح على احتمالات متناقضة.
التحقيق أعدّه الصحافي محمد شريف الذي استند بدوره إلى جهود سابقة للصحافي اللبناني قاسم حمادة. الأخير كان قد قصد ليبيا عام 2011، في أعقاب سقوط نظام معمّر القذافي، محاولاً تتبّع خيوط القضية، ليصل إلى أدلة مثيرة في مشرحة سرّية بالعاصمة طرابلس.
مشاهد من المشرحة الليبية
بحسب شهادة حمادة التي نقلتها "بي بي سي"، فقد تمكّن من دخول مشرحة تابعة للنظام الليبي عُثر فيها على سبع عشرة جثة محفوظة منذ عقود داخل غرفة تبريد. ويؤكد أنّ إحداها كانت لرجُل بالغ يحمل ملامح قريبة جداً من ملامح الإمام الصدر، سواء من حيث لون البشرة أو الشعر أو شكل الوجه.
وأضاف، أنّ الجمجمة بدت مصابة إمّا بضربة قوية أو بطلقة نارية فوق العين اليسرى، ما يوحي بأن الضحية تعرّض لعملية إعدام. هذه التفاصيل دفعت حمادة إلى التقاط صورة للجثة المجهولة، ظلت بحوزته لسنوات حتى عرضها على الصحافي البريطاني.
تقنية "التعرّف العميق على الوجه"
المرحلة الثانية من التحقيق قادها شريف في بريطانيا، حيث استعان بفريق بحثي في جامعة برادفورد يقوده البروفيسور حسن أوغيل. الفريق طوّر خوارزمية متقدمة للتعرّف على ملامح الوجه حتى في الصور غير المثالية.
وبعد مقارنة الصورة الملتقطة عام 2011 بأربع صور معروفة للصدر في مراحل مختلفة من حياته، أعطت النتيجة درجة في الستينيات من أصل 100، وهو ما يعني وجود "احتمال مرتفع" بأن تكون الجثة تعود بالفعل للإمام.
ولمزيد من التأكيد، جرى اختبار الصورة مع صور ستة من أفراد عائلة الصدر، وكذلك مع مئة صورة عشوائية لرجال من الشرق الأوسط.
وجاءت النتيجة لتقوّي فرضية أن الجثة قد تكون للإمام، خصوصاً أن التشابه مع عائلته كان أوضح بكثير من الصور العشوائية.
وبحسب البروفيسور أوغيل، فإن النتائج لا تصل إلى مستوى القطع النهائي، لكنها تؤكد أن هناك دلالات قوية على أن حمادة قد صادف جثمان موسى الصدر في تلك المشرحة السرية.
مسيرة فكرية وسياسية
الإمام موسى بن صدر الدين الصدر، وُلد في مدينة قم الإيرانية في الرابع من حزيران/يونيو عام 1928، في أسرة علمية عريقة تعود أصولها إلى جبل عامل في جنوب لبنان.
تلقى علومه الدينية في قم والنجف الأشرف، قبل أن يتوجّه إلى لبنان عام 1959 استجابة لدعوات من علماء صور والجنوب.
في لبنان، سرعان ما برز كقائد ديني وسياسي للطائفة الشيعية، إذ أسّس عام 1969 المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، كأول مؤسسة رسمية تمثل الطائفة في لبنان. كما أطلق في منتصف السبعينيات حركة أمل التي تحولت إلى تنظيم سياسي وعسكري.
كان الإمام يتمتع بقدرة فكرية واسعة جعلته جسراً بين الحوزة الدينية والفضاء العام، وبين الخطاب الإسلامي والوطني. دعا دوماً إلى الوحدة الإسلامية والمسيحية، وإلى مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. كما عُرف بخطابه الاجتماعي المدافع عن المحرومين والمهمشين في الجنوب والبقاع.
رحلة الغياب.. من بيروت إلى طرابلس
في آب/أغسطس 1978، وبعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان، قرّر الإمام القيام بجولة عربية لحشد الدعم السياسي لمطالبة الاحتلال بالانسحاب تنفيذاً للقرار 425.
وخلال زيارته للجزائر ولقائه بالرئيس هواري بومدين، تلقّى دعوة رسمية من السلطات الليبية لزيارة طرابلس الغرب.
استجاب الإمام للدعوة، ورافقه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين. لكن منذ ظهر يوم 31 آب انقطع الاتصال بالثلاثة، لتبدأ واحدة من أعقد القضايا في التاريخ السياسي العربي الحديث.
وعقب الضجة التي أثارتها القضية، أعلنت ليبيا في بيان رسمي بتاريخ 17 أيلول 1978 أن الصدر ورفيقَيه غادروا إلى روما على متن طائرة إيطالية.
غير أن القضاء الإيطالي فتح تحقيقاً شاملاً انتهى إلى نتيجة واضحة: الإمام ورفيقاه لم يدخلوا الأراضي الإيطالية قط، ما يعني أن الرواية الليبية كانت مختلقة.
ردود الفعل اللبنانية والدولية
منذ البداية، حمّل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، النظام الليبي بقيادة القذافي المسؤولية الكاملة عن اختفاء الإمام. وقد كرر نائب رئيس المجلس الشيخ محمد مهدي شمس الدين في أكثر من مؤتمر صحافي أنّ القضية لم تعد شأناً لبنانياً داخلياً، بل جريمة دولية مكتملة الأركان.
منظمة التحرير الفلسطينية، وعدد من الزعماء العرب، أبلغوا بيروت بمسؤولية القذافي الشخصية عن الإخفاء.
ومع مرور الأعوام، دخلت منظمة العفو الدولية على خط المتابعة، فأدرجت القضية ضمن تقاريرها السنوية منذ 2001، مؤكدة أن مزاعم النظام الليبي لا تتفق مع الحقائق التي أثبتتها التحقيقات الإيطالية.
ما بعد سقوط القذافي
عقب الإطاحة بالنظام الليبي عام 2011، تجددت الآمال بإماطة اللثام عن مصير الإمام، خصوصاً بعد أن أقرّ القذافي نفسه قبل سنوات من مقتله بأن الصدر "اختفى في ليبيا"، في تراجع واضح عن بياناته السابقة.
لكن رغم محاولات رسمية لبنانية وعربية، لم يصدر أي كشف نهائي حتى اليوم.
القضاء اللبناني بدوره أصدر عام 2008 مذكرة اتهام طالبت بإنزال عقوبة الإعدام بمعمر القذافي وستة من كبار مساعديه بتهمة خطف الصدر ورفيقَيه. وبعد سقوط النظام، استمرت عائلة الصدر في تأكيد أن الإمام لم يمت، وأنه لا يزال حياً في مكان مجهول، مستندة إلى غياب أي دليل مادي قاطع على وفاته.
إرث حيّ رغم الغياب
رغم مرور 46 عاماً على اختفاء الإمام موسى الصدر، ما زالت أفكاره ومشروعه السياسي والاجتماعي حاضرة في لبنان والعالم العربي. حركة أمل التي أسسها، يقودها اليوم رئيس مجلس النواب نبيه بري، وتعتبر نفسها الوريث المباشر لخطه ونهجه.
أما على المستوى الشعبي، فما زال الإمام يُستحضر في الذاكرة الجماعية كرمز للعدالة الاجتماعية والمقاومة والوحدة الوطنية. وتؤكد شقيقته رباب الصدر وأفراد عائلته في مناسبات عدة أنّه على قيد الحياة، بانتظار أن تكشف الأيام عن مصيره النهائي.
التحقيق الجديد الذي نشرته "بي بي سي" يُعيد تسليط الضوء على واحدة من أعقد ألغاز العالم العربي في القرن العشرين. فرغم المؤشرات التي ترجّح أن الإمام موسى الصدر قد قُتل ودفن في ليبيا، فإن غياب أي دليل حاسم يُبقي الباب مفتوحاً أمام الأمل والانتظار.
إنها قصة رجل تحوّل من قائد ديني إلى أيقونة سياسية عابرة للطوائف والحدود، ومن ضحية اختفاء غامض إلى رمز حيّ لا يزال يثير التساؤلات بعد ما يقارب نصف قرن على غيابه.
قراءة الذكاء الاصطناعي حول مصير الإمام
وفي تعليق تحليلي، أشار روبوت محادثة الذكاء الاصطناعي "شات جي بي تي" إن المعطيات المتوفرة حتى الآن لا تمنح دليلاً حاسماً حول مصير الإمام موسى الصدر، غير أن المؤشرات الأقوى تميل إلى فرضية اغتياله في ليبيا بعيد اختطافه عام 1978.
وأوضح، أن غياب أي دليل رسمي على حياته أو وفاته طوال العقود الماضية، وتناقض الروايات الليبية بين الزعم بمغادرته إلى إيطاليا ثم اعتراف معمّر القذافي بأنه اختفى في ليبيا، يعزز الاعتقاد بأن النظام الليبي السابق هو المسؤول المباشر عن تغييبه.
وأضاف: "من غير المنطقي أن يحتفظ القذافي برجل بحجم الإمام الصدر حيّاً طيلة هذه السنوات من دون أن يظهر أثر له، خصوصاً بعد سقوط النظام الليبي. لذلك يبقى الاحتمال الأكثر ترجيحاً أنه تمت تصفيته في وقت مبكر من عملية الاختطاف، ربما لاعتبارات سياسية تتعلق بصراعات المنطقة ومواقفه من الاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية".
وختم التحليل بالقول، إن غياب الدليل المادي سيُبقي القضية مفتوحة أمام التأويل والجدل، ما يجعل الإمام الصدر حاضراً أكثر كرمز ومشروع فكري وسياسي لا كقضية شخصية فقط.