طلاق في أميركا يكشف شبكة المال الخفي لعائلة بارزاني داخل الولايات المتحدة

انفوبلس.. 

لم يكن أحد يتوقع أن يتحول طلاق في ولاية ديلاوير الأميركية إلى نافذة نادرة تكشف جانبًا معتمًا من البنية المالية للعائلة الأقوى نفوذًا في إقليم كردستان. لكن سلسلة الدعاوى الفيدرالية التي رفعتها الناشطة السياسية والمرشحة الجمهورية السابقة للكونغرس، مهتاب مور، بين عامي 2023 و2025، فعلت ذلك تمامًا. فالقضية، التي بدأت كخلاف زوجي مرير، انتهت بإخراج وثائق ورسائل ومراسلات قانونية تسلط الضوء على كيفية نقل أكثر من 100 مليون دولار إلى سوق العقارات الأميركية، بعيدًا عن الأسماء الحقيقية لأبناء مسعود بارزاني، وباستخدام شبكة معقدة من الشركات الوهمية والواجهات القانونية.

طلاق غير عادي يفتح ملف الثروة السياسية

تكتسب هذه القضايا خصوصيتها ليس بسبب الأسماء الواردة فيها فقط، بل بطبيعة ما كان الخلاف يدور حوله. فوفقًا لما ورد في الدعاوى، لم يكن النزاع بين مهتاب مور وزوجها المحامي الأميركي جوناثان مور مجرد صراع عاطفي أو مالي تقليدي، بل معركة حقيقية على “أرشيف” من الوثائق الحساسة.

تقول مور إن زوجها لعب دور “المهندس القانوني” لإمبراطورية مالية ضخمة تعمل خارج السجلات الرسمية، ومصممة خصيصًا لعزل المستفيدين الحقيقيين—أبناء مسعود بارزاني—خلف طبقات من الشركات الوسيطة داخل الولايات المتحدة وخارجها.

هذه الوثائق، بحسب روايتها، لم تكن تفاصيل هامشية، بل كانت البنية التحتية نفسها: سجلات شركات، مراسلات مصرفية، ووثائق معاملات تكشف آليات نقل الثروة من الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة، دون أن تظهر أسماء العائلة الحاكمة في الواجهة.

مهتاب مور… تعدد الأسماء ووحدة الدور

لفهم كيف وصلت هذه الوثائق إلى المحاكم الأميركية، لا بد من التوقف عند شخصية مهتاب مور نفسها. فهي ليست طرفًا عاديًا في نزاع زوجي، بل ناشطة سياسية عملت لعقود في قلب المنظومة السياسية بواشنطن، مستخدمة أكثر من اسم في مراحل مختلفة من حياتها المهنية: مهتاب هوجاتي، ماتي فاين، ماتي لولافار، وصولًا إلى مهتاب مور.

هذا التعدد ليس تفصيلًا ثانويًا، بل مفتاح لفهم قدرتها على التنقل بين عوالم الضغط السياسي، والاستشارات الإعلامية، والعمل القانوني غير المباشر. سجلات المحاكم والشركات تكشف أن جميع هذه الأسماء تعود لشخص واحد، وأن شركة “M22 ستراتيجيز” كانت حلقة الوصل بين نشاطها السياسي وزواجها من جوناثان مور، الذي كان مسجلًا كوكيل للشركة من عنوان سكنهما المشترك.

هذا السياق يفسر طبيعة الدعاوى: فهي ليست مكتوبة بلغة زوجة تشك في ثروة زوجها، بل بلغة شخص يفهم تمامًا كيفية بناء الشركات الوهمية، وإخفاء المستفيدين الحقيقيين، واستغلال ثغرات النظام القانوني الأميركي.

المحامي والزبائن.. جوناثان مور ودوره المحوري

في قلب هذه الشبكة يقف جوناثان مور، محامٍ أميركي مخضرم متخصص في قانون الشركات وإدارة الثروات الخاصة. اسمه يرد في القضايا ليس كمستشار عابر، بل كمن صمم الهياكل القانونية التي سمحت لأبناء مسعود بارزاني، وعلى رأسهم مسرور بارزاني، ببناء محفظة عقارية ضخمة في الولايات المتحدة.

تحقيقات صحفية دولية، بينها تقارير لمشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP)، وثّقت امتلاك الإخوة بارزاني لما لا يقل عن 31 عقارًا في ست ولايات أميركية، بين عامي 2005 و2019، بقيمة تتجاوز 100 مليون دولار. جميع هذه العقارات سُجلت بأسماء شركات أوفشور وشركات أميركية واجهة، في نمط يتطابق تمامًا مع نوعية العمل القانوني الذي تخصص فيه مور.

السؤال الجوهري هنا لا يتعلق بشرعية هذه الهياكل من الناحية الشكلية، بل بمصدر الأموال. فأبناء بارزاني، الذين أمضوا حياتهم داخل مواقع السلطة السياسية والأمنية، لا يملكون تاريخًا تجاريًا خاصًا يبرر تراكم ثروات بهذا الحجم.

الرسائل الداخلية.. عندما تتكلم الأوراق

أخطر ما كشفته هذه القضايا ليس قائمة العقارات، بل المراسلات الداخلية التي خرجت إلى العلن. رسائل بريد إلكتروني، نُشرت مقتطفات منها في تحقيقات صحفية، تتحدث بوضوح عن “شركات خارجية” و”أموال عائلية” و”سيطرة مشتركة”، في سياق معاملات مرتبطة بعقارات في الولايات المتحدة.

إحدى هذه الرسائل، المؤرخة عام 2008، تطلب وثائق تأسيس شركة “ستير غروب” بوصفها “شركة مسرور بارزاني الخارجية”، مع طلب شهادات تسجيل من جزر العذراء البريطانية. هذه اللغة الإدارية الباردة، التي تُستخدم عادة خلف الأبواب المغلقة، تكشف كيف تُدار الثروة السياسية بعيدًا عن أعين الرأي العام.

الأمر نفسه ينسحب على شركة “غولدن إيغل غلوبال”، التي أقر مسؤولون فيها داخليًا بأنها مملوكة فعليًا لأحد أبناء بارزاني، رغم أن الأوراق الرسمية توحي بعكس ذلك. هنا، تتحول “الشائعة السياسية” إلى وثيقة، والحديث المتداول إلى دليل مكتوب.

نظام متكامل من المال والسلطة والأمن

ما تكشفه هذه القضية يتجاوز فضيحة فردية أو نزاعًا عائليًا. نحن أمام نظام متكامل بثلاث طبقات:

• الأولى سياسية، حيث تتركز السلطة بيد عائلة واحدة تسيطر على مفاصل الحكم والأمن في إقليم كردستان.
• الثانية مالية، تقوم على نقل الثروة العامة أو شبه العامة إلى الخارج عبر شركات وهمية وعقارات مسجلة بأسماء مستعارة.
• أما الثالثة فهي طبقة “الثقة البشرية”، التي انهارت عندما انهار الزواج، فخرجت الوثائق من الأدراج إلى المحاكم.

الدعاوى التي رفعتها مهتاب مور قد تُرفض جزئيًا لأسباب إجرائية، وقد تبقى بعض الخيوط طي الكتمان، لكن الضرر الأكبر وقع بالفعل: سقطت أسطورة الغموض الكامل. لم يعد الحديث عن ثروة عائلة بارزاني مجرد اتهام سياسي، بل ملفًا مدعومًا بوثائق ومراسلات وأسماء.

في إقليم اعتاد فيه الناس التساؤل عمّا تملكه العائلة الحاكمة دون إجابة، جاءت هذه القضية لتقول إن السر لم ينكسر بفعل مؤسسات رقابية، بل بفعل صراع شخصي تحوّل إلى أرشيف مفتوح. وفي أنظمة تقوم على إخفاء الأثر، يبقى الخطر الأكبر دائمًا هو الإنسان الذي قرر أن يتوقف عن الصمت.