متاجر تحت الأرض في بغداد.. مشاريع حضرية طموحة تحوّلت إلى مكبّات نفايات ومعابر منسية تنتظر اليقظة العمرانية

انفوبلس/..
في قلب العاصمة بغداد، وتحت أرصفة شوارعها التي تختزن ذاكرة المدينة، تقبع مشاريع عمرانية طموحة صُممت يومًا ما لتكون أيقونات حضرية حديثة تسهّل حركة المارة وتخلق فضاءات تجارية آمنة وعصرية. المتاجر تحت الأرض، التي بُنيت في مواقع استراتيجية مثل ساحة التحرير وشارع السعدون وساحة الرصافي، كانت شاهداً على محاولة جادّة لتجاوز ضيق المساحات والاستفادة من العمق المعماري للمدينة. لكنها، ومع توالي العقود وتعاقب الأزمات، لم تُمنح ما تستحقه من رعاية، فغابت عنها الحياة، وخنقها الإهمال، وتحولت إلى أنفاق مهجورة تنبعث منها رائحة النسيان.
ما بين الإهمال الخدمي والقصور الإداري، وقفت هذه المتاجر عاجزة عن مواكبة التحولات العمرانية، فتسلّلت إليها الكلاب السائبة، وغمرتها القمامة، لتصبح بيئات طاردة لا تنتمي لوجه بغداد الذي تحاول الجهات المعنية تجميله. وبينما يرى خبراء ومهندسون أن هذه الفضاءات يمكن أن تتحول إلى محطات حضرية فاعلة ضمن رؤية تنموية حديثة، يُحمّل المواطنون الجهات المسؤولة مسؤولية تغييب هذه المشاريع عن أجندة التأهيل.
*خطوة طموحة ولكن..
يرى المهندس المدني جميل حسين أن فكرة إنشاء المحال التجارية تحت الأرض جاءت في الأصل كخطوة طموحة لاستثمار المساحات السفلية ضمن خطة لتوسعة النشاط الاقتصادي وتوفير بيئة تسوق حضرية حديثة، وهو نهج معمول به في العديد من المدن العالمية. وقد أُنشئت تلك الفضاءات بأسلوب معماري مميز، لكنها، كما يقول، لم تواكب التطورات وظروف التشغيل، فانتهى بها المطاف إلى الإهمال بعد سنوات من النجاح النسبي. ويأمل حسين بإعادة تأهيلها وفق رؤية معاصرة، تبدأ بمعالجة مشكلات الصرف الصحي التي كانت من أبرز معوقات استدامتها.
وفي السياق ذاته، يشير المهندس المعماري يوسف هاني إلى أن التوجه نحو استغلال الفضاءات السفلية جزء من فلسفة عمرانية تسعى لتكامل المدينة على مستويات متعددة، أفقية وعمودية وتحت الأرض، ما يُضفي عليها بُعداً جمالياً ووظيفياً. لكن ما حصل في بغداد كان مغايراً، إذ تحولت بعض الأنفاق، التي كانت في السابق مثالاً للرؤية المعمارية المتقدمة، إلى بيئات طاردة ارتبطت في الوعي العام بالإهمال ومشاعر فقدان الأمان، فهجرها الناس وأهملتها المؤسسات، حتى أصبحت مأوى للحيوانات السائبة ومكبّاً للنفايات. ويؤكد هاني أن النجاح لا يكمن فقط في البناء، بل في القدرة على دمج هذه المساحات بحياة الناس اليومية، عبر الإنارة الجيدة والتهوية وربطها وظيفياً بالشارع، لتتحول من فراغات ميتة إلى فضاءات نابضة.
أما المواطن سعد مهدي، فقد أعرب عن أسفه لما آلت إليه تلك المتاجر بعد إغلاقها، متمنياً أن تُعاد إلى الخدمة وفق رؤية اقتصادية، تُتيح تأجيرها مجدداً للمهتمين بعد استكمال مقومات العمل الأساسية، بما يُعزز من موارد الدولة ويدعم المشهد الاقتصادي المحلي.
*ضعف البنى التحتية
من جانبه، أوضح المهندس عباس الزيدي أن الإشكالات الفنية التي واجهت هذه المتاجر تمثلت في ضعف البنية التحتية، خصوصاً شبكات الصرف الصحي والإنارة والتهوية، ما أضعف من قابليتها للاستمرار. ودعا الجهات المختصة إلى وضع خطة لإزالة هذه المعوقات، لأن هذه المحال تمثل جزءاً من الهوية الحضرية للعاصمة، ويمكن أن تسهم في إظهار بغداد بصورة لائقة إذا ما أُعيد تأهيلها بالشكل المطلوب.
أما الدكتور حيدر بهجت (أكاديمي) فأكد أن لبغداد خصوصية معمارية تضم في نسيجها الحضري تصاميم تحت الأرض تتكامل مع الحياة اليومية، مثل أنفاق الباب الشرقي التي كانت تجمع بين الحركة والتسوق وتوفر معابر آمنة للمشاة. ويستذكر بهجت كيف كانت تلك المساحات نابضة بالحياة، تعج بالمارة والمتسوقين، قبل أن تتحول إلى مواقع مغلقة تنبعث منها روائح النفايات وتحتل واجهاتها أكوام القمامة.
*إهمال تدريجي والبداية من التسعينيات
الإعلامي عادل فاخر أشار إلى أن هذه المتاجر أُهملت تدريجياً منذ تسعينيات القرن الماضي بفعل ظروف الحصار، وأُغلقت تماماً بعد 2003 لأسباب أمنية. لكنه يرى أن هذه المبررات لم تعد قائمة اليوم، لا سيما مع اختيار بغداد عاصمة السياحة العربية لهذا العام. ويرى فاخر أن أمانة بغداد بدأت خطوات فعلية لإحياء الشوارع الحيوية، ومنها الرشيد والسعدون، ومن المهم أن تشمل الجهود إعادة تأهيل المتاجر تحت الأرض عبر الاستثمار أو التأجير بعد الترميم، لما لها من موقع استراتيجي ومساحات واسعة يمكن أن تُضيف زخماً حضارياً واقتصادياً مهماً للعاصمة.
*اختلال طويل الأمد
يرى المراقبون للشأن العمراني في العراق أن ما جرى لهذه المتاجر تحت الأرض يعكس بوضوح اختلالًا طويل الأمد في الرؤية التخطيطية والإدارية لمشاريع بغداد.
فالمهندسة سارة الكعبي، المتخصصة في التخطيط الحضري، تؤكد أن العراق افتقر خلال العقود الأخيرة إلى “سياسات استدامة عمرانية” تضمن ديمومة المشاريع، لا سيما تلك التي بُنيت في عمق المدينة.
وتضيف: "في المدن الكبرى حول العالم، الفضاءات تحت الأرض تُحوّل إلى مصادر اقتصادية وسياحية، بينما في بغداد تُركت فريسة للإهمال والعشوائية”.
أما الباحث الاجتماعي قاسم الشمري، فيربط تدهور هذه المتاجر بعلاقة مفقودة بين المواطن والمكان العام، قائلًا: "حين يشعر الناس بأن المكان غير آمن ومهمل، فإنهم يبتعدون عنه، فيتحول إلى فراغ، ثم إلى خطر. وهذا ما حدث تمامًا في أنفاق بغداد التي هجرها الناس واحتلتها الكلاب والقمامة”.
ويحذر الصحفي الاقتصادي عادل الأسدي من استمرار تجاهل هذا الملف، معتبرًا أن إعادة تأهيل هذه الفضاءات يمكن أن تكون “فرصة ذهبية” لتعزيز الاقتصاد المحلي. ويقول "متاجر بمواقع مركزية، بمساحات كبيرة، مغلقة منذ عقود؟ هذا إسراف غير مبرر في الخسارة. لو تم تأهيلها واستثمارها، لعادت على الدولة والمواطنين بعوائد ضخمة”.
في بغداد، كل حجر يحمل قصة، وكل رصيف يروي فصلًا من الحلم الحضري الذي لم يكتمل. المتاجر تحت الأرض لم تكن مجرد مشاريع خرسانية، بل كانت وعدًا بمستقبل عمراني واعد، دفنته الإهمال وفككته السياسات المرتبكة. اليوم، ومع تعاظم الوعي المجتمعي وعودة الحديث عن تطوير المدينة، تقف هذه الفضاءات المهملة على مفترق طرق: إما أن تُعاد إليها الحياة وتُدمج برؤية عصرية تليق ببغداد، أو تُترك لتنهار أكثر تحت وطأة التجاهل والنسيان.