من أوكرانيا إلى غزة ومن الساحل إلى أميركا اللاتينية.. كيف ينزلق العالم إلى “نظام عالمي متشظٍّ” في 2026 مع أعلى موجات عنف مسجّلة منذ نهاية الحرب الباردة؟
انفوبلس/..
في واحدة من أكثر اللوحات قتامة للمشهد الدولي، يكشف مشروع بيانات مواقع وأحداث النزاعات المسلحةACLED أن العالم دخل مرحلة غير مسبوقة من العنف الممنهج، مع تسجيل أحداث نزاعية بين ديسمبر/ كانون الأول 2024 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2025، خلّفت أكثر من 240 ألف قتيل حول العالم. هذا الرقم الهائل لا يعكس فقط حجم الدمار، بل يشير إلى انتقال البشرية إلى ما يصح وصفه بـ “العصر العالمي للأزمات المتراكمة”، حيث تتقاطع النزاعات المسلحة مع الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنتشر خطوط القتال عبر المدن والحدود في مشهد يندر أن يشهد له التاريخ الحديث مثيلًا.
تحذير من ارتفاع إضافي في منسوب العنف
تضع نتائج ACLED لعام 2025 مناطق مثل فلسطين المحتلة، ميانمار، سوريا، السودان، أوكرانيا، المكسيك، البرازيل، نيجيريا، الإكوادور، وباكستان على رأس “الخارطة الحمراء” للنزاعات، في تصنيف يكشف عن مزيج خطير من الحروب التقليدية والعنف الحضري والعصابات العابرة للحدود.
ومع دخول العالم عام 2026، تحذر المؤشرات من ارتفاع إضافي في منسوب العنف، وتوسع البؤر الساخنة، وتآكل قدرة الحكومات على التحكم بحدودها الداخلية أو ضبط القوى المسلحة غير الحكومية.
في هذا التقرير، نستعرض الصورة الكاملة لهذا المشهد العالمي القاتم، ونقرأ ديناميكيات النزاعات، ونستشرف آفاق العام المقبل الذي لا يبدو أنه سيحمل الكثير من التهدئة.
تصاعد العنف… وتحول الضربات الجوية إلى “أداة حكم”
يشير مشروع ACLED إلى أن عام 2025 شهد مستويات قياسية من الضربات الجوية والهجمات بالطائرات المسيّرة، خصوصًا في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا. لم تعد هذه الهجمات مقتصرة على جبهات القتال التقليدية، بل امتدت إلى المدن والمناطق الحضرية، في حرب جديدة تتجاوز الحشود البرية وتُخضع المدنيين لمعادلة قاتلة.
وفق التقرير، فقد تعرّض 6% من سكان العالم لأحداث صراع مباشرة في عام واحد، بينما دخلت دول عديدة في مواجهات داخلية وخارجية رفعت منسوب الخطر الجيوسياسي العالمي.
أوكرانيا والصراع الفلسطيني شكّلا وحدهما 40% من أحداث العنف المسجّلة عالميًا، وإن شهد عدد الأحداث تراجعًا محدودًا مقارنة بالعام الماضي، إلا أن نوعية العنف وطبيعته أصبحت أعقد وأكثر تدميرًا.
وفي ظل دخول الحرب مرحلة “الاستنزاف العميق”، تواجه أوكرانيا ضغوطًا عسكرية واقتصادية وسياسية، بينما تعيد الولايات المتحدة والغرب حساباتهما بعد تغير أولويات السياسة الأمريكية. هذا التحول قد يزيد من عزلة كييف ويفتح الباب أمام مكاسب روسية إضافية في عام 2026.
السودان: الجرح الأفريقي المفتوح
لم يعد السودان مجرّد نزاع مسلح، بل تحوّل إلى أكثر الصراعات دموية في أفريقيا بالنسبة للمدنيين، حيث قُتل أكثر من 17 ألفًا بين كانون الثاني وتشرين الثاني 2025. وتتشابك خطوط القتال بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني والجماعات المسلحة الأخرى، بينما يتعمق الانهيار الإنساني ويتراجع نفوذ الدولة المركزية.
يشير التقرير إلى أن ثلثي أعمال العنف ضد المدنيين تقودها جماعات غير حكومية، في مشهد يعكس انهيار هرم السلطة وتفكك مؤسسات الدولة. هذا المشهد مرشح للتفاقم، مع توسع العمليات في دارفور وكردفان، وتزايد اعتماد الأطراف المتصارعة على الميليشيات المحلية.
سوريا: نزاع بلا نهاية
ارتفع عدد القتلى في سوريا من 6 آلاف إلى 9 آلاف قتيل خلال عام واحد، نتيجة تجدد الصدامات الطائفية والتنافس السياسي والتدخلات الخارجية. وبرغم الهدوء النسبي في بعض المناطق، تبقى البلاد واحدة من أكثر الساحات هشاشة، مع استعداد الخلايا المتشددة لإعادة التموضع واستغلال الانقسامات القائمة.
كما تُعدّ سوريا جزءًا من “الجبهة غير المرئية” التي تتحرك عليها إسرائيل، سواء في الجنوب أو في المناطق الحدودية مع العراق ولبنان، ما يجعل أي تصعيد إقليمي عاملاً مباشرًا في زيادة العنف داخلها.
المكسيك وأمريكا اللاتينية: صعود “عسكرة الجريمة”
تحتل المكسيك موقعًا متقدمًا في قائمة الدول الأكثر خطورة، حيث يقود العنف المسلح المرتبط بالعصابات موجة غير مسبوقة من الاغتيالات والاختطافات وهجمات السيارات المفخخة. وتُظهر البيانات أن بعض المدن المكسيكية باتت تُصنف ضمن أخطر مناطق العالم.
وتشهد الإكوادور ارتفاعًا كبيرًا في أعمال العنف، مع أكثر من 2500 حادثة مرتبطة بـ40 عصابة محلية ودولية، تستهدف أكثر من نصفها المدنيين.
ومع قرب الانتخابات المحلية في 2027، تُحذّر التوقعات من موجة اغتيالات وأعمال ترهيب ذات دوافع سياسية.
ميانمار: انتخابات تحت النار
تعد ميانمار واحدة من أكثر الدول تعرضًا للعنف، مع تسجيل 13,700 قتيل خلال عام 2025، فيما يواصل المجلس العسكري استخدام القمع العنيف ضد المدنيين والمعارضين. ورغم دعم الصين لانتخابات نهاية العام 2025، فإن التوقعات تشير إلى أن الاقتراع سيزيد من حدة العنف بدل احتوائه، مع استمرار المقاومة المسلحة في رفض العملية السياسية.
باكستان: عودة العنف العابر للحدود
تشهد باكستان موجة جديدة من العنف، خصوصًا في المناطق القبلية وبلوشستان، حيث تعيد الجماعات المسلحة تنظيم صفوفها بالاستفادة من الحدود الرخوة مع أفغانستان. وتشير التحليلات إلى احتمال توسع الهجمات داخل المدن الكبرى، وسط غياب حوار سياسي جدي مع الجماعات المحلية واستمرار التوتر مع كابول.
البحر الأحمر: ممر عالمي على حافة الانفجار
على الرغم من الهدوء النسبي عقب وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، فإن خطر التصعيد في البحر الأحمر يبقى كبيرًا. فالحوثيون ما زالوا يحتفظون بصواريخ ومسيرات بعيدة المدى، فيما تعمّق التوترات الإقليمية هذا الممر الحيوي أهمية وخطورة.
أي شرارة جديدة قد تؤدي إلى اضطرابات واسعة في حركة التجارة العالمية والطاقة، في واحدة من أخطر المناطق البحرية حاليًا.
الساحل الأفريقي: تمدد الجماعات الإرهابية
تواجه مالي وبوركينا فاسو والنيجر موجة تمدد قوية لفروع “القاعدة” و“داعش”، في ظل انكفاء الجيوش وفقدان السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي. وباتت المنطقة مترابطة مع غرب نيجيريا، في ساحة قتال واحدة متشابكة، تهدد بالامتداد نحو دول أكثر استقرارًا في غرب القارة.
إسرائيل والمنطقة: جبهات متعددة وتوازنات هشّة
يدخل الشرق الأوسط عام 2026 وهو يعيش حالة من التوتر المركب، ورغم فترات الهدوء، إلا أن “الهدوء” هنا هش ومؤقت.
ويبدو أن الصراع الفلسطيني سيواصل تصدر المشهد مع غياب التسوية، واستمرار العمليات العسكرية، وانعدام الضغط الدولي الفاعل.
ماذا ينتظر العالم في 2026؟
التقييمات التي قدمها مسؤولو مشروع ACLED تُجمع على أن العالم يعيش حالة “وضع طبيعي جديد” من العنف المرتفع، مع توقعات بزيادة عدد السكان المعرضين للنزاعات في العام المقبل.
ترى الرئيسة التنفيذية للمشروع، كليوناد رالي، أن النزاعات لم تعد ترتفع، لكنها بلغت سقفًا ثابتًا مرتفعًا للغاية، يمثل عتبة خطيرة يمكن أن تتحول إلى نمط دائم.
أما رئيس قسم التحليل أندريا كاربوني، فيؤكد أن المدنيين باتوا يواجهون عنفًا مزدوجًا: عنف الجماعات المسلحة وعنف الدولة في آن واحد، في ظاهرة تُنذر بانهيار أوسع لمنظومات الحماية والحقوق المدنية حول العالم.
عالم يتغير… لكن نحو الأسوأ
مع توسع النزاعات وتشابكها، وتراجع قدرة الحكومات على ضبط الأمن، وتزايد دور الطائرات المسيّرة والعصابات العابرة للحدود، يبدو أن العالم يسير نحو “نظام عالمي متشظٍّ”، يكثر فيه العنف وتقل فيه القدرة على معالجة جذوره.
عام 2026 قد لا يكون عامًا للحلول، بل بوابة لمزيد من التدهور، مع إمكانية انتقال بؤر التوتر من محيطها المحلي إلى مشهد إقليمي وعالمي أوسع. وفي ظل هذا المشهد، سيكون الضغط على المنظمات الدولية والدول الكبرى أكبر من أي وقت مضى، فيما يتعين على العالم إعادة التفكير في قواعد الأمن الجماعي، قبل أن يفقد السيطرة على ما بقي من الاستقرار الهش.
