من “ديلا” في ألبانيا إلى “دييللة” في بغداد.. كيف يفتح وزير الذكاء الاصطناعي نقاشاً ساخناً عن الفساد والمحاصصة ومصير الحكم الرقمي في العراق؟
انفوبلس/..
لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية مساعدة في التعليم أو الصحة أو الصناعة، بل تحوّل إلى لاعب مباشر في صلب السياسة والإدارة العامة. ففي خطوة وُصفت بالجريئة، أعلنت ألبانيا، قبل أيام، عن تعيين أول “وزير رقمي” مدعوم بالذكاء الاصطناعي تحت اسم “ديلا”، مهمته الأساسية مراقبة المشتريات العامة وضمان نزاهة العطاءات الحكومية. الخطوة لم تمرّ مروراً عابراً في المنطقة، إذ أثارت جدلاً واسعاً حول مستقبل الحكومات في مواجهة الفساد المستشري.
وفي العراق، التقط الباحث الاقتصادي منار العبيدي الخيط، ليطرح سلسلة سيناريوهات ساخرة وواقعية في آن واحد، عن المصاعب التي قد تواجه “وزير روبوت” لو جرى تعيينه في بغداد. مقاربته بدت كأنها مرآة ساخرة للواقع السياسي والإداري العراقي، تكشف حجم الهوّة بين فكرة الحكم الرقمي النزيه وبين تحديات يومية تبدأ من الكهرباء ولا تنتهي بالمحاصصة الطائفية والعشائرية.
ألبانيا تفتتح التجربة: وزير بلا جسد، ولا حساب فيسبوك
في كلمة لرئيس وزراء ألبانيا إيدي راما، أعلن أن حكومته ستضم “وزيرة افتراضية” منشأة بالكامل عبر الذكاء الاصطناعي، سُمّيت “ديلا”، أي “الشمس” باللغة الألبانية. “ديلا” ليست جسداً حاضراً في قاعة مجلس الوزراء، بل كيان افتراضي يعمل على منصة الخدمات الإلكترونية الحكومية. مهمتها الأساسية أن تضمن أن تكون العطاءات والمناقصات العامة خالية بنسبة 100% من الفساد.
منذ بداية العام، ظهرت “ديلا” كـ”مساعد افتراضي” على بوابة الخدمات العامة الإلكترونية، حيث تساعد المواطنين على الإبحار بين النماذج والمعاملات، وتطلّ بزيها الألباني التقليدي كرمز ثقافي إلى جانب وظيفتها التقنية.
لكن الانتقال من “خدمات الدعم الإلكتروني” إلى “منصب وزاري رسمي” مثّل قفزة هائلة، عكست رغبة ألبانيا في بناء نموذج للحكم الرقمي الشفاف، مستندة إلى شعور شعبي عميق بالملل من الفساد المتجذر. راما لم يُخفِ الهدف: “ديلا ستساعدنا على بناء إدارة خالية من الرشاوى والمحسوبيات”.
هذه الخطوة جاءت بعد أن فاز حزبه الاشتراكي بولاية رابعة، حاصداً 83 مقعداً في البرلمان، ما أتاح له أن يحكم منفرداً ويطلق تجارب غير تقليدية دون الحاجة إلى تحالفات معقدة.
العراق في مرآة التجربة: وزير “بلا شحن”
من جانبه، تناول الباحث الاقتصادي منار العبيدي هذه التجربة بطريقته الخاصة، مطلقاً مقالاً ساخراً تحت عنوان “وزير بلا عشيرة ولا محاصصة”. استعرض فيه مجموعة من التحديات “المحتملة” لو أن العراق قرر تقليد ألبانيا واستقدام وزير مدعوم بالذكاء الاصطناعي.
المشكلة الأولى، كما يقول، هي الكهرباء: “ديلا مصممة للعمل 24 ساعة، لكن في العراق، نصف النهار عندنا انقطاع. فلا بد أن نزوده بخط طوارئ من مولدة، أو نخليه يشتغل بس ساعات الوطنية”. هنا يضع العبيدي إصبعه على جرح بنيوي: كيف يمكن لحكومة رقمية أن تعمل في بيئة تعاني من نقص بنيوي في البنية التحتية؟
المعضلة الثانية، هي التدخلات الهاتفية. فكما يتخيل العبيدي، سيبدأ الوزير الافتراضي بتلقي مكالمات من نوع: “حبيبي دييلا، عندنا مشروع جسر، المناقصة انطيها للشركة الفلانية…”. والوزير المصمم على الحياد سيجد نفسه في مواجهة ضغوط عشائرية وسياسية واجتماعية، لا يملك الذكاء الاصطناعي – حتى الآن – آليات لمواجهتها.
المعضلة الثالثة تتعلق بـ المحاصصة. ففي العراق، لن ينجو أي وزير، حتى لو كان بلا جسد، من سؤال: “هذا الوزير من أي مكوّن؟ داخِل الكوتا لو لا؟”. وهو ما يكشف أن النظام السياسي العراقي قائم على معايير تختلف جذرياً عن منطق الكفاءة والتقنية.
ويواصل العبيدي رسم صورة أكثر سخرية عبر سيناريو “التأهيل المحلي”: “باچر نسمع تصريح: الحكومة قررت تسوي نسخة محلية من دييلا، رح نسمّيها (دييللة). الفرق بين النسختين، أن دييللة تتوقف إذا سمعت كلمة (خالي) أو (عمي)، وتحوّل العقد فوراً للجهة المطلوبة”.
ويختم بعبارة لاذعة: “ألبانيا جابت وزيراً ليحارب الفساد، إحنا إذا استنسخناه، احتمال يتحول عندنا من وزير بلا فساد إلى وزير بلا شحن، ونشوفه بعد كم شهر مركون على رف الوزارة يلم تراب، بانتظار تحديث جديد”.
نيبال: الشباب يصنعون حكومتهم عبر Discord
الجدل حول “وزراء الذكاء الاصطناعي” لا يقتصر على ألبانيا والعراق. في نيبال، شهد العالم تجربة موازية، لكنها جاءت من الشارع مباشرة. بعد احتجاجات شبابية واسعة ضد فساد النخبة السياسية، ورفض “أبناء النخبة” الذين ورثوا السلطة، انهارت حكومة رئيس الوزراء كي بي شارما أولي.
وسط الفراغ، تدخل الجيش النيبالي وتواصل مع مجموعة شبابية على منصة “Discord” تُعرف باسم “Hami Nepal”. هؤلاء الشباب أخذوا الأمر بجدية: ناقشوا المرشحين، استعانوا بـ ChatGPT لتحليل السير الذاتية، وفي النهاية اختاروا القاضية سوشيلا كركي كأول رئيسة وزراء مؤقتة في تاريخ البلاد.
اللافت هنا أن جيل الشباب لم يكتفِ بالاحتجاج، بل استخدم أدوات الذكاء الاصطناعي للمفاضلة بين المرشحين، مقدماً نموذجاً مغايراً لكيفية توظيف التكنولوجيا في صنع القرار السياسي.
الوزير القادم… إنسان أم خوارزمية؟
قد تبدو فكرة “وزير روبوت” ضرباً من الخيال في العراق، لكنها في الحقيقة مرآة تكشف حجم الاختلالات القائمة. السخرية التي عبّر عنها العبيدي تحمل رسالة: لن ينفع استيراد حلول تقنية من الخارج ما لم تُعالج أولاً مشاكل الداخل.
بينما تنظر ألبانيا إلى “ديلا” كرمز لشفافية جديدة، قد يجد العراقيون أنفسهم أمام نسخة محلية عالقة بين انقطاع الكهرباء وضغوط الهاتف والمحاصصة. لكن رغم ذلك، فإن مجرد تداول الفكرة يفتح الباب أمام نقاش أكبر: كيف يمكن للعراق أن يستفيد من التحول الرقمي ليعيد بناء ثقته المفقودة بين الدولة والمجتمع؟
